من أين يبدأ الحوار؟ من التساؤل عن الجنس الأدبى الذى تنتمى اليه هذه " الشظايا " أم من تجاوز مسألة التسمية إلى النصوص ذاتها ؟ لا شك أن التساؤل الثانى هو الأكثر قبولاً عندى ، لأن الفن أولاً و أخيراً يملك من الفاعلية ما يجعله أقوى من كل التسميات ، و إذا كان فريق من القدامى تحفظوا حول تدخل الأجناس ؛ فأننا فى العصر الحديث حريون بأن نقبل هذا ،خاصة و بعد أن فرضت أشكال مثل الرواية و قصيدة النثر حيثيتها و فى ظل التقارب الذى يظهر أحيانا بين المقالة و القصة القصيرة ، و ما بين الرواية و السيرة الذاتية إلى آخر ما يمكن أن يفضى إليه البحث من شؤون و شجون .. دعونا إذن من التساؤل حول التسمية ، .. لكن النفس الأمارة تتمتم بشىء و هى تتحاور مع هذه " الشظايا " : أهى شعر أم نثر ، أهى قصص قصيرة بل قصيرة جدا أم أنها تأملات و هواجس و " حكم " بحسب المصطلح التاريخى التقليدى أم ، أم ... ؟ أهى واحدة مما قيل ، أم أنها لون آخر يشبه إلى حد ما ما كانوا يسمونه ب " الإبجرما" و ما اصطلحنا على أن ندعوه ب " الومضة " حينا و ب " المنمنمة " ، حينا آخر ، ومفاده الشائع تلك المقطعات ( و لك أن تسميها بالمربعات أو بغير ذلك من المسميات ) و التى تتفجر بالسخرية ، و الهزء بأقنعة النفاق و النيل من المرائين و المدّ عين و المنتفخين و ذوى الخيلاْ و بعبارة أدق و بعيدا عن كل المماحكات الأكاديمية و النظريات الرنانة كيف نصنف هذه " الشظايا " ؟ و بالنسبة لى فإنى أفضل فى المقام الأول أن أسميها : شظايا . كم من مرة تأملت ، و تحيرت ، و أبحرت فيها بحثا عن معانيها و نسيجها ، رغبة فى التعرف على أطيافها و رموزها و دلالاتها..... تبدأ الرحلة من العنوان ... ،و أتوقف امام واحدة من " شظايا " الصفحة الأولى : (نجحت محاولة الهرب ، و هأنذا أنعم بالحرية خلف قضبانك ! ) آه،كم من الشعر ، و كم من النثر هنا ؟ أما الشخصيات فهناك على الأقل اثنان ، أكاد أقول : هو و هى و لكنى لا أملك دليلا على أنهما رجل و امرأة . هناك أيضا مكونات السرد ، الصراع ، و الهرب الذى يفضى و يا للسخرية التمتع بالحرية .. خلف قضبانه ، و الكلمة الأخيرة تشكل ركيزة " المفارقة " و بها تكتمل عناصر " المأساة " ! أترى نحن فوق هذا أمام مسرحية ، فلنكن متواضعين و نكتفى بأن الذى مر بنا " موقف مسرحى " يشهد " الأنقلاب " " و التحول " و لك أن تجد فيه عناصر " أرسطية " أخرى .... ومع ذلك ؛ فهل من وجهة نظر مغايرة ؟ إن كل شىء قابل للأختلاف و خاصة فى الفن ، و من المؤكد أنك ستلقى من يقول : أين رسم الشخصيات ؟ إن التحديد مفتقد ، إلى درجة أنك لا تعرف شيئا عن شخصية ( الراوى ) ؛ لا جنسه ، و لا سنه ، و لا ملامحه ، و لا أى تفصيلات أخرى عنه ... و لقد تجد فى المقابل من يرد عليك بأن هذا ربما عيبا ، و لكن من المحتمل أن يكون ميزة ... إن إغفال التفصيلات يتيح للقارىء الذكى أن يأتى هو بهذه التفصيلات من ( عندياته ) و بهذا فإن اللمسة النهائية لن تكون شيئا ثابتا جامدا مكرورا ، بل ستتفاوت من قارىء إلى آخر و من المتصور أن كل قارىء سيتصور أنه القارىء ( الذكى ) اللبيب الأريب ..... أنتقل للصفحة الثانية : هذه " الومضة " ( أظن أنه لا بأس من أستعمال هذه التسمية ، مع قدر من التحفظات ) هى أطول نصوص " الشظايا " ، و ربما كانت أكثرها " تسجيلية " و أقلها إحتفاء بالبعد الفكرى لولا الانعطافة الأخيرة قبل أن يسدل عليها الستار مباشرة ، و قبل أن تنتهى اللعبة : لكى تفاجأ بالسطر الأخير الذى يشير إلى أن الشىء الوحيد الذى يمارسه "الآخر " : لا تسألنى من الآخر ؟ أهو الظل أم أن الظل مجرد قناع ل "الأخر" ، بكل ما يحتويه من أبعاد و إشارات و علامات ... أما الصفحة الثالثة فإنها " كارثة " ! ( و أنا أتكلم عن النسخة الحاسوب التى بين يدى ) فهى تحتوى على ثلاث ومضات لا أعرف أيهم أختار..أيهم؟ إن كل واحدة منها ترتبط بالومضتين الأخريين ، تقول الشىء ذاته و لكن لكل نص دهاءه ، و مراوغته ، فليكن النص الأوسط لأنه أقصرها ، و لأن خير الأمور الوسط و لأن .. لا ، كفى تردداً منى ، و لأحاول أن أفهم ما الذى تريده صاحبتنا ( السيدة الأنسة المدام الهانم الست الولية الحرمة الجماعة ال .. ) : (من ضلع أعوج أنا و أنت راق لك ذلك ! ) نعم ، إن لدينا اعترافا باعوجاج الضلع ، و كتب بشكل تقريرى لا ينقصه إلا أن صاحبته " تبصم " : أقر و أعترف أنا الموقعة على هذا بأننى من ضلع أعوج أنا ، و أى تغيير فى هذا الأعتراف يكون باطلا ، ويستحق صاحبه عفوا : صاحبته أقسى أنواع العقاب ؛ ثم البصمة بالحبر الأزرق الزفيرالذى لا يفارق صاحبه أقصد صاحبته إلا بمشقة هذا عن الشق الأول ، و هو محل نظر ، فهل جاء هذا الأقرار من المتهم أعنى المتهمة بكامل وعيها ؟ و إذا كانت حقا بكامل الوعى ، فما معنى أنها من ضلع أعوج ؟ إن كل الضلوع العوجة على وجه الأرض لا يمكن أن يكون لها " كامل الوعى " ، فكمال الوعى يستوجب ضلوعا سليمة خالية من الأعوجاج ، و بعبارة أخرى فإن كلامها إذا كان سليما فهى مخطئة، و إذا كان خاطئا فإنها تكون سليمة ، و أستطيع أن أدلل على ما أريد بكلام من أرسطو و غيره ، و لكن بعد أن أفهم ما المراد من الشق الثانى : و أنت راق لك ذلك !! إن " راق " قد توحى بأن المقولة تحتمل شيئا آخر ، و هى على كل حال تكشف عن كنة هذا إل أنت ، أنت بفتح التاء ، أنت أيها الغضنفر ، سيد الموقف ، حامى حمى الديار ، " سى السيد" المطاع مهما فعل و مهما قال . لكن العبارة لا تفسر : لماذا راق له ذلك ؟ و إذا كانت "هى " ( على فرض أن هى : هى ... ) من ضلع أعوج حقا ، فما شأن سيادته ؟ أهو كذلك ، أم أن ضلوعه بالغة " الأستقامة " مثل كل ما يصدر عنه من تصرفات ترقى و لا شك فوق مستوى الشبهات ؟ آه ! لو أستمر الحال على هذا المنوال فإنى سوف أحتاج لكتاب يطبع إلى جانب الكتاب ، و الحل جاهز عندى على الأقل من حيث التسمية فالأستاذة أسمت " مجموعتها " ( لاحظ أن هذه هى المرة الأولى التى أستعمل فيها عن عمد ، و مع سبق الإصرار و الترصد كلمة مجموعة ) : شظايا أما أنا فلو قدر لى المضى فيما أنا فيه فسوف أطلق على عملى : رماد ، و لكى أحدث تناصا مع عنوان ديوان نازك الملائكة : شظايا و رماد ... ليس أمامى الأن سوى التوقف عما أنا فيه ، مع الأحساس بأن كل الذى فات لم يكن سوى مقدمات ، و إلا فإن هناك عشرات الومضات التى أسترعت البصر ،بعض منها يدفع إلى إدامة التأمل : (لا أريد عطفك ؛ فقط أعرنى معطفك ! ) آه : هذا يمكن أن يترجم إلى : كفى كلاما ، أريد فعلا ! ثم (غرقت بالماضى لأننى لم أجد حاضرا ينتشلنى !) أهذه صيحة امرأة ضائعة أم أن المرأة فى هذه الومضة أكبر من أن تكون امرأة ، فربما كانت آهة امة بأسرها فقدت الأمل فى الحاضر ( و بالطبع : فى المستقبل ) فلم تجد أمامها إلا هذا الوقوف على الأطلال ، و البحث فى الصناديق القديمة عن اللعب التى فقدت بريقها ،و الثياب التى شحبت ألوانها ، و الكتب التى أصفرت و تآكلت أطرافها . كانت تراودنى الرغبة فى مستهل الكتابة فى الحديث عن العلاقات القائمة بين النصوص ، أى صلة القربى التى تجعل كل نص مستقل عن الآخر ، لكنه فى الوقت ذاته على وئام بما حوله : أفتح عشوائيا صفحة تقول : ( حبست أنفاسى و سهوت عن إطلاق سراحها، و لما أعيانى الحفرأسفل الجدران صادقتها ، و زينتها بآلاف الأنجم و الأقمار ، و لم تعد تنتظر الأفراج ) ، بعدها : (كم نخطىء حين نتوهم أن حريتنا خلف الجدران ، فما خلف الجدران إلا جدران أخرى . ) ثم : ( جميع الأسوار ممكنة ماعدا تلك التى بداخلنا !!!! ) نعم يا سيدتى الصغيرة : ..... إلا التى بداخلنا ..... و أنا بداخلى رغبة فى المضى بالكتابة ، خاصة حول نقطة بعينيها تتعلق " بالأختلاف " بين شظاياك ، و ما كتبه و يكتبه أخرون ، جمعوا أقوال " الحكماء " و ما قالوه عن الحياة و الموت و الحب و المرأة خصوصا المرأة بل بين هذه الشظايا و " مواقف أنيس منصور " التى يكتبها كل جمعة فى " الأهرام" هناك" أختلاف " يمكن أن يلخص فى جملة مطلقة : إن ما قالوه يغلب عليه أن يكون " نثرا " و أنت فى شظاياك يغلب على ومضاتك أن تكون شعرا ... هذه واحدة ، و الثانية أن معظم ما قرأت من هذا القبيل يغلب عليه أن يكون جمعا على غير هدى و كثيرا ما كان عماد هذا الجمع المفارقات اللغوية و التضاد بين نصف العبارة الأول و نصفها الثانى : مثل أن تكون المرأة " أقرب ا لملائكة إلى أن تكون شيطانا ، أو أقرب الشياطين إلى أن تكون ملاكا"لا بأس ، فإن كثيرا من تلك اللمحات يؤدى دور " النكتة " أما أنت فإن سخريتك أقرب ما تكون إلى مضمون : " شر البلية ما يضحك " و الذى يسيطر على الومضات جميعا فيضفى عليها على إستقلاليها وحدة موضوعية فريدة من نوعها ، و تسبغ عليها إهابا من الحزن و الجدية و الصدق المملوء بالكبرياء و الألم . و بعد فهذه كلمة عابرة عن " الشظايا " أكتفى ببعضها عن كلها ، و أشعر صادقا بأننى لم أقل كل ما عندى عنها ، و أنما يكفينى القول بأننى قرأتها مرات و مرات ، و كانت مع كل قراءة جديدة تكشف لى عن وهج رائع كامن فيها ، يجعل من قراءتها ضربا من التواصل مع كل ما تزخر به النفس الأنسانية من لوعة و عشق للحياة و تطلع للحرية و النور و كل القيم السامية التى طالما حلمنا بها ، و التى بقيت و اأسفاه مجرد أمنيات لا تكاد تومض حتى يضربها الرعد و البرق ، و تتحول إلى شظايا