سعد الله ونّوس .. علامة بارزة في مسيرة التنوير العربي .. رحل جسده عن وجه الأرض وبقيت نبضات قلبه تضخ دماء الصحوة والوعي في عروق مثقفي الأمة العربية، فتتجدد صيحاته التنويرية في أقلام حداثية مخلصة ، كتلك التي خطها قلم الكاتب العماني الأستاذ "صالح الفهدي" في نصه سهرة مع سعد الله ونوس بوعي المثقف ، الذي فتح لنا أبوباً ثلاثة للتنوير(الملحمية – الحداثية – النقد الاجتماعي)، وأضاء "ناصر الرقيشي" شموعه الثلاثة على روح "ونّوس" في محراب مسرح القاهرة للعرائس بعرض اجتمعت فيه ومضات متشظية ضخت دماء "ونّوس" ونبض وعيه في خلايا إدراك مشاهديه فكأن ونوس قد بعث من جديد. باب الملحمية : استحضر النص تراثنا الأسطوري بأسطورة شهرزاد ؛ رمزاً لأمتنا العربية في مواجهة المحاولات المستميتة للخلاص منها باستدعاء( مسرور) العصري المتكرر بأمر سيده العولمي الأوحد .. دون أن ينجح في إخماد أنفاسها . اعتمد العرض على التشخيص المتعدد للأدوار أساساً لمنظومته الجمالية ، فقام به أربعة ممثلين أكفاء هم : (أبرار الزدجالي ودرويش المبسلي وخالد الحديدي وعابدين البلوشي)، عبر تضفير النص لمقطوعات مختارة من بعض نصوص ونوس( مغامرة رأس الملوك جابر وحفلة سمر من أجل 5 حزيران وجثة على الرصيف )، كما اهتم أيضاً بحالة (الورم السرطاني) ، التي عانى منها في أواخر حياته ومقاربته بين المرض وشخصيات سرطانية معاصرة تنهش جسد الأمة العربية احترفت الشعارات والأغاني الثورية يتقنعون خلفها استرزاقاً؛ متشدقين بعبارات طنّانة كقول أحدهم عندما يطالب من يدعوه لمناصرة قضايا النضال ليبرر مغالاته في طلب الأجر على غنائه: ( أنا أدعم القضية الفلسطينية بصوتي ) كما لو كان ينثر ذر غنائه على جثة الوطن. كذلك اعتمد العرض على كسر الإيهام بالتداخل بين التمثيل والحكي في سرده لأحداث ماضية أو التعليق عليها ، كما فرّغ الأسطورة من محتواها التراثي ليملأها بمفردات معاصرة ، وكلها عناصر ملحمية. فضلاً عن توظيف فنون التمثيل داخل التمثيل في مناطق متعددة من العرض، إلى جانب الاستعانة بتقنيات من التراث بمشهد مسرح العرائس الساخر، لتحقيق مضمون طبقي للتأكيد على بقاء السيد سيدا والعبد عبدا!! باب الحداثة : شكلت "قراءة الإساءة" و"المينيمالية Minimalism " و"التشظي" ركائز الطرح الحداثي للرؤية الإخراجية ، حيث أن كل قراءة للعمل تسيء للمعنى السابق استخلاصه في القراءة السابقة . والمينيمالية ركيزة أساسية في الطرح الحداثي ، حيث الدلالة غير التامة لخطاب العمل الإبداعي هي المحصلة التي يقابل بها المتلقي على تعدده الزمكاني ، ذلك أن المتلقي يكمل بوعيه وخبرته ثغرات النص أو العرض ، وبذلك ينتج المعنى أو يعيد إنتاجه على صفحة وعية هو من خلال مجموع خبرات الإرسال الإبداعي مضافا إليها مجموع خبرات الاستقبال النقدي للمتفرج ( المتلقي نفسه). هذا فضلا عن تشظي الحدث clip في العرض الذي هو سمة العصر حيث امتلأ عالمنا باللقطات الناقصة المنفصلة عن بعضها بعضاً عبر تقنيات السماوات المفتوحة (الانترنت وفيديو كليب ووسائل الثورة المعلوماتية وتقنية الموبايل!!) تضافرت كل تلك التقنيات في هذا العرض عبر لقطات متفرقة متقاطعة مع بعضها في فضاء إبداعات "ونّوس" التنويرية" . باب النقد الاجتماعي: يستنكر هذا العمل البطولة العربية المستلبة ويستعرض الكابوس الدموي الذي يطارد الأمة الثائرة على الظلم والطغيان عبر التاريخ ، في تواصل مع رسالة "ونوس" الخالدة. وينتقد البطولة الزائفة لنماذج فردية من مجتمعاتنا ، تأكيدا تطبيقيا أدائيا لأسماء بعينها نص عليها كتيب العرض( البروشور نفسه) الذي أشار إلى اسم مغن عربي شهير يتقنع بغنائه لقصائد محمود درويش الثورية ، مدعيا النضال بالغناء في حين يتخذ منها وسيلة ارتزاق ، فضلاً عن غيره ممن يتغنون ببطولات وشعارات لا تطبيق لها على أرض الواقع ، وفي لقطات متكررة يستعرض المخرج انتقاداته لأمثلة من العنتريات التراثية أيضا بتناوله لعنترة وعبلة في مشهد معاد تشخيصه بمسرح العرائس ، ساخراً من تفاخر البطل العربي المغوار أمام النساء بينما هو في حقيقة الأمر ذليل خانع أمام سيده ؛ مرتعشاً أمام أوامره !! كما لم يخف انتقاده لسخرية المجتمع العربي الرسمية من المرأة ، وموقفه من تولي المرأة للسلطة باعتبارها جسداً للمتعة والسيطرة لا أكثر . اعتمد العرض بإخراج الفنان( ناصر الرقيشي) على وحدات إيقاعية متشظية غير متجانسة ، وعلى دائرية الأسلوب ، كما احتفى بجماليات ثنائية تبادلية بين (الإضاءة والإعتام - البكائية والسخرية - الوعي والشعور). وتراوح التجسيد الإبداعي للعرض بين أساليب الرمزية والملحمية وفنون مسرح العرائس الماريونت) بأجساد الممثلين، بعد أن علقهم بخيوط علوية ، لتتطور فكرة اللعبة المسرحية والدمى اليدوية الخيطية ، لينتهي بتجسيد الممثلين أنفسهم للأدوار بعد تعليق أجسادهم في الخيوط العلوية المتدلية ، لتكتمل منظومة إعادة تصوير الحدث بكل المستويات التغريبية ، تأكيداً على أهمية الوعي الاجتماعي بانحراف الصفة الاجتماعية في حياتنا السياسية. كما اعتمد العرض على موسيقى مصاحبة معروفة تستخدم في إعلانات تليفزيونية على القنوات الفضائية إسهاماً في استكمال منظومة التغريب ، بهدف قطع التفاعل الوجداني بين المتلقي والمنصة ، جنباً إلى جنب مع دخول الممثلين بملابسهم التقليدية المعاصرة آناً والتاريخية أحياناً . وقد زاوج العرض بين بعض الشخصيات التراثية والعصرية( الممرضة وشهرزاد) حيث ارتدت ممثلة دور شهرزاد معطف التمريض الطبي المعاصر فوق ملابس شهرزاد التراثية دلالة على أن العقل العربي منذ القدم وهو في حاجة إلى التمريض. كما شكلت الأقنعة الدبلوماسية الزائفة جنباً إلى جنب مع الحقائب الدبلوماسية البيضاء سجناً رباعي الأضلاع يسجن صرخات خطاب ونوس ويمنعها من الانطلاق خارج إطارها ، ومن ناحية أخرى فقد خلقت دائرية الأسلوب لفتة عبثية جمالية حيث ينتهي الحدث من حيث بدأ ، فما أمسينا عليه نصبح فيه!! هذا العرض يستحق الإشادة به ، ففيه من الخيال وجودة الأداء فضلاً عن الحفاظ على سلامة اللغة العربية في أداء الممثلين بعد أن أصبحت عملة نادرة في عروضنا المسرحية وفي محافلنا السياسية ومنافذنا الإعلامية.