إنه الطبيب والأديب العربي الكبير الذي أثرى المكتبة العربية بالعديد من الإبداعات التي تركت أثرا كبيراً في ضمير الإنسان العربي في كل مكان. عرفني إليه الصديق الكبير د. كمال الخالدي، خلال جلسة ثقافية ممتعة في الفندق الذي اعتاد الإقامة فيه أثناء زياراته المتكررة إلى دمشق، وبعدها، حرصت على حضور أمسياته الثقافية بعد أن شعرت أني أعرفه من زمن بعيد، فهو يتحدث بلطف وود فريدين، ويتصرف بتواضع جم لا يزيده إلا احتراماً وتقديراً، ومهما حاولت أن تقصر حديثك معه على المجاملات وجوانب الطب والأدب، فإنك لا تلبث أن تجد نفسك تخوض في الحديث عن هموم الإنسان والمجتمع والأمة. لقد كان يتنقل بمهارة وسرعة مدهشتين بين مواقف الأسى والمرارة من جهة، ومواقف الفكاهة والدعابة من جهة أخرى، ولا أزال أذكر حديثه عن شريط ذكرياته في جيش إنقاذ فلسطين عام 1948، وما تخللها من أحداث مريرة محزنة، وسرعان ما أتبعها ببعض مواقف الدعابة وقصائد الغزل، جعلت صورة المواقف التي رسمها أكثر إنسانية وأعمق تأثيراً، وأذكر أيضا في لقاء آخر، كيف مزج بين الطب والأدب والتاريخ في حديثه الشيق عن الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان وكيف شخّص لديه داء السكري رغم ابتعاده عنه أكثر من ألف عام. ولد العجيلي في الرقة عام 1918 - وتربى على يد جده تربية صارمة كما يذكر، ثم مضى إلى مدينة حلب، يتابع فيها دراسته، لكن المرض أعاده إلى الرقة ليقضي أربع سنوات في قراءة كتب التاريخ والدين والقصص الشعبي ودواوين التراث الشعري، ثم تابع دراسته في حلب ودمشق ليعود إلى الرقة طبيباً، يكد في خدمة أهل مدينته وقراها منذ ذلك الحين حتى تجاوز الثمانين، وقد حفلت حياته بالعديد من الأحداث الجسام، إذ أصبح نائبا في البرلمان عام 1947، ثم وزيرا عام 1962، وأخذت سيرته ككاتب روائي وشاعر تذيع هنا وهناك. كانت «بنت الساحرة» مجموعته الأولى في القصة القصيرة (1948) ثم أعقبها بالمجموعات التالية: «ساعة الملازم» (1951)، «قناديل إشبيلية» (1956)، «الحب والنفس» (1959)، «الخائن» (1960)، «فارس مدينة القنطرة» (1971)، «حكاية مجانين» (1972)، «الحب الحزين» (1979)، «فصول أبي البهاء» (1986)، «موت الحبيبة» (1987)، «مجهولة على الطريق» (1997). أما الرواية، فقد جاء العجيلي إليها أول مرة عام 1959 بروايته «باسمة بين الدموع»، ثم تتالت رواياته: «قلوب على الأسلاك - 1974» و «ألوان الحب الثلاثة - 1975» بالاشتراك مع أنور قصيباتي، و «أزاهير تشرين المدماة - 1977»، و «المغمورون - 1979». وسيكون علينا بعد ذلك أن ننتظر حتى عام 1998 قبل أن تأتي روايته «أرض السِّيّاد» ثم «أجملهنّ» عام 2001، ذلك أن ألواناً أخرى من الكتابة ستتقدم على الرواية، وفي رأسها (المقالة) التي تتلبس بها (المحاضرة)، وفيهما للكاتب: أحاديث العشيات (1965) - السيف والتابوت (1974) - عيادة في الريف (1978) - سبعون دقيقة حكايات (1978) - في كل واد عصا - 1984) - حفنة من الذكريات (1987) - جيل الدربكة (1990) - فلسطينيات عبد السلام العجيلي (1994) - محطات من الحياة (1995) - ادفع بالتي هي أحسن 1997) - أحاديث الطبيب (1997) خواطر مسافر (1997). له العديد من الحوارات واللقاءات الأدبية الثقافية، المحلية والعربية والدولية، وكانت مشاركاته لافتة وكثيرة، زينتها صداقاته الواسعة الكبيرة التي امتدت إلى شرائح عديدة من المجتمع. لقد تميز بمواقفه الوطنية والقومية، دون إدعاء أو تكلف، ولا زلت أذكر رده على مجموعة من الكتاب والصحفيين الفلسطينيين الذين أثنوا على مواقفه من القضية الفلسطينية، خلال ندوة دعوه إليها فقال: "لقد ردّدت دوماً أن ما يجري في فلسطين هو عندي ما يجري على شاطئ الفرات في بلدتي وفي منزلي، وأني حين أدافع عن حرمات تلك الأرض وحرمات شعبها، فإنني أدافع عن حرماتي الشخصية، وليس في هذا تجاوز مني ولا فضل يحسب لي.." لم ينقطع العجيلي الطبيب عن ممارسة مهنة الطب رغم ذياع صيته كأديب وروائي، ورغم انتمائه إلى عائلة ميسورة الحال، إنها ببساطة تقربه إلى الناس على اختلافهم، لذلك لم يتخلى عن ردائه الأبيض واستمر في العمل كطبيب عام في عيادته الخاصة، يداوي مرضاه بانتظام وإخلاص ومحبة، وامتد دوره أيضاً إلى الإسهام في حل النزاعات المختلفة بين أهل الرقة الذين يكنون له كل احترام. لم يغفل صحة مجتمعه في الرقة، فقد شارك رغم تقدم عمره بفعالية ونشاط في العمل الأهلي التطوعي، لاسيما منظمة الهلال الأحمر، والتحق بالعديد من الحملات الصحية والإغاثية، ولا يمكن أن ننسى جهوده في تعميم برنامج اللقاح أو التطعيم الشامل، والذي أثمر في تحصين آلاف الأطفال في محافظة الرقة ضد أمراض الطفولة لاسيما شلل الأطفال والسل، وهكذا كانت بلدته في ذلك الوقت من المناطق الأولى في سورية التي طبقت برنامج اللقاح الشامل الذي يكافح العديد من الأمراض السارية، وكثيراً ما كان يتحدث عن هذه التجربة للأطباء الجدد. حظي العجيلي بالعديد من الجوائز الأدبية والثقافية، وكون صداقات واسعة في الساحتين العربية والدولية. لقد أوصى العجيلي قبيل وفاته في الخامس من شهر نيسان/أيار 2006 ألا يجري له حفل تأبين رسمي ولا شعبي، ولا خطابات ولا قصائد، إنما جنازة عادية بسيطة مثله مثل أي إنسان عادي بسيط. نعم لقد كان العجيلي وسيبقى فارساً من فرسان الثقافة والأدب والمجتمع عبّر بصدق وإخلاص عن هموم وطنه وقضايا أمته، فارساً نشعر بوجوده من خلال أعماله ومواقفه، التي نتذكرها كلما استشرى فينا الضعف، والتمزق، وكلما اجتاحتنا حمى الاستهلاك وقوانين السوق والتسوق في قضايانا الوطنية والإنسانية. ما أحوجنا في هذه الأيام المؤلمة التي تمر بها بلادنا إلى أن نتذكر كل ذلك، ما أحوجنا إلى كل من يحب الإنسان والوطن. "وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر" "عرفتهم" ...زاوية ثقافية دورية يكتبها د. غسان شحرور