كتب إليّ في الخاص يسألني: «أنت فاضل السباعي صاحب قصة "العينان في الأفق الشرقي"؟»، أتاني صوته، بُعَيد منتصف الليل، وكأنه قادم من عمق الصحراء التي انتهت فيها القصة! أجبته: «نعم!». فأنشأ يقول: «قد قرأتها يا سيدي وأنا فتى يافع في مجلة كانت تصدر بمصر اسمها "الكاتب". قصة من الكوميديا السوداء، ولكنها تحرّض على الاحتجاج ضدّ الظلم والقهر. حفرت في نفسي منذ كنت في الخامسة عشرة من عمري!». أقول لكم، أيها الأصدقاء: تحت وطأة أنظمة الحكم الشمولي التي سادت غير قليل من الدول العربية، وما تمارسه من الملاحقات الأمنية للمواطنين في شؤون حياتهم، استوحيت (عام 1967) - فيما جريت على كتابته من القصص المسيّسة، فكرةَ أن تلاحق السلطة الناسَ في آرائهم مذ تكون مجرد أفكار تدور في الرؤوس! موظف يمرّ عند انصرافه من الوزارة أمام مشهد في ساحة عامة. كان في المشهد قهرٌ من نوع غريب، فانبثق في صدر هذا المواطن شعور بالتعاطف ودار في رأسه اعتراض... وما هي إلا لحظة حتى كان رجل أمن يقترب منه، فقد أبلغت الأجهزةُ المركزية الراصدة هذا الأمني كي يقتاده... ثمّ تروي القصة (في نحو خمسة آلاف مفردة) ما وقع لهذا المواطن في القبو المعتم، وما تعرّض له من إهانة وإذلال، وقد اضطرّه العسكريُّ إلى أن يقبّل بِسْطاره (البوط، الجزمة)، وفي ابتعاده عن المكان يستردّ كرامته، ويتوجه إلى الصحراء، ينبطح على الرمال، ويبكي طول الليل، وعيناه إلى الأفق الشرقي! قدّمت القصة إلى مجلة "الموقف الأدبي" (التي كانت قد صدرت حديثا عن اتحاد الكتّاب العرب بدمشق)، وكان المكلف برئاستها زميلا لي يكتب قصصا على غرارها. ظلت القصة في حوزته اثني عشر شهرا وهو يماطل، إلى قال لي: طويلة! كان هذا الزميل - ودعوني أسمّيه "عبقريّ القصة السورية" - مقرّبا من النظام إلى درجة الاحتضان، كان ما إن يترك رئاسة مجلة حتى يعهدوا إليه برئاسة أخرى. وقد أورثه احتضان النظام له قسوة وتجبّرا، إلى أن جاء أجلُ إبعاده، فخرج من البلاد، وحين فنّح الربيع انضم إلى المقهورين! هل كان يساوره شعور بالندم؟ في مؤتمر عُقد في الدوحة تحت عنوان "وطن يتفتّح في الحرية" (حزيران 2012)، ضمّ معارضين سوربين، من مثقفين وحملة أقلام وريشة ونغم، جاؤوا من مختلف البقاع، ودعيتْ إليه ابنتي الفنانة التشكيلية "سهير" من أمريكا، اتفق أن تلاقيا، العبقريُّ والابنةُ البارّة التي نشأ أبوها منذ نعومة الأظفار على شجب الظلم والظلام. همس لها: «أنا بعرف، أبوك زعلان مني لأني ما نشرت له القصة!». ولكنه تناسى أنه وضع كلّ ثقله في منع نشر مخطوطتي "حزن حتى الموت" ضمن منشورات الاتحاد، ثمّ نشرت في بيروت ثلاث مرات، والرابعة في الدار التي أحدثتُها، والخامسة في باريس باللغة الفرنسية! عودة إلى صديق منتصف الليل... يقول: «ما زلت أذكر الاسم الملتبَس لبطل القصة "محمد مأمون الشريف"، والحوادث وكل التفاصيل. كنت أرويها لأصدقائي في مثل سني، وأحيانا أقرؤها عليهم رغم طولها عشرين صفحة، إلى أن أعرت المجلة لصديق فضاعت. للعلم أنا لست كاتبا، فإن كتبت فبتكاسل، وقد أكون إنسانا هامشيا. ولكني يا سيدي قادر على صيد اللؤلؤ، وقد كنت أنت عندي الكاتب المختلف. وظللت أتتبع ما تنشره في المحلات العربية وخاصة "العربي" الكويتية». ضاعت المجلة. زارني اليوم وقد وخط الشيب رأسه، وعاد بالكتاب الذي يضمّ "العينان في الأفق الشرقي"، وقد رأيته لحظة وقعت عينه على عنوان القصة في الكتاب وكأنه بستردّ عالما من الذكريات، وربما هو الساعة يعيد قراءتها ويتذكر. في كل حين أتعرف على "صيّاد لؤلؤ" جديد. أحيّي صديقي الجديد "خليل...".