عندما كنت صغيرة كثيرا ما كنت أقوم من نومي منزعجة باكية لأنني حلمت أني أقع من أعلى جبل عال، أو أنني وحيدة وسط الزحام أبحث عن والدي ولا أجدهما، كان جميع من في المنزل يستيقظ منزعجا على صوتي ويظل والداي يهدئان من روعي وينبهان علي بعدم الإفراط في الطعام قبل النوم، أو أن أحكم الغطاء فوقي أثناء النوم. نفس ما كان يحدث لي وأنا صغيرة يحدث لابنتي الآن.. صرخة فزع رهيبة تقلق جميع من في المنزل، تظل ملامح الرعب بادية على وجهها مع لهاث وقشعريرة تشمل كل جسدها .. زاد الأمر سوءا حتى صار يحدث كل ليلة وأحيانا أكثر من مرة في الليلة الواحدة.. أما أنا فلم أنم.. أظل متيقظة في انتظار الصرخة البغيضة حتى أهرع إليها لأطمئنها.. كنت أحاسب نفسي حسابا عسيرا وأحلل الأسباب والنتائج ربما لأنني في الفترة الأخيرة عاقبتها بشدة أو أفرطت في تأنيبها على كلمة نطقت بها رغما عنها.. قررت في نفسي أن أغير معاملتي معها وأن أخفف من عقابي لها.. جلست وزوجي نتجاذب أطراف الحديث، كان الحديث عن الأحلام أيضا، لكن ليست الأحلام المزعجة إنما أحلام المستقبل .. كانت أحلامنا كبيرة لكن ظروف الحياة تقف حائلا أمامنا دون تحقيقها.. كنا نحلم بمسكن فخم في منطقة راقية تليق بقدراتنا وإمكانياتنا حيث أعمل أستاذة في الجامعة وزوجي صحفي مرموق وأديب واعد، لكن ما نحصل عليه من وظائفنا لا يحقق لنا التغيير الذي ننشده، بالإضافة إلى ما ننفقه نحن الاثنين سواء على أبحاثي أو على كتبه ومع ذلك كنا سعداء، واستطاعت أحلامنا الصغيرة أن تجعلنا نحتمل ضيق المكان وبؤس العيش.. وتساءل أحدنا أو تساءلنا معا نفس السؤال الذي كنا نسأله لأنفسنا خلال رحلة الكفاح هذه.. - إلى متى؟.. إلى متى سنظل في هذا العناء.. طريق طويل ممل نقطعه سيرا على الأقدام في الذهاب والعودة ومعنا طفلتنا الصغيرة، أليس من حقنا أن نستريح بعد طول عناء؟ يصيح زوجي بنبرة يائسة ممزوجة بالأمل: - ومع ذلك استطعنا أن نحقق في هذا البيت جانبا كبيرا من أحلامنا.. دكتوراه وخمسة كتب أقول رغما عني وقد نفد الصبر: - طظ.. سكرتيرتي الخاصة تسكن في بيت فخم في المهندسين، بل إن عم شوقي الساعي الذي يقدم لي الشاي لديه عمارة ملك.. - هناك فرق كبير بين المستوى الاجتماعي والمستوى الاقتصادي.. - ده قصر ذيل .. أضطر لأقول ذلك مخففة من حدة النقاش حتى لا يتحول إلى شجار وأنا على يقين من أن كلانا ليس له ذنب فيما نحن فيه.. يطرق زوجي قليلا، ثم يقول بمرارة : - اليوم قرأت إعلانا في الجريدة عن حاجة بعض الجامعات العربية إلى مدرسين مساعدين بمرتبات مجزية.. بضعة أعوام نقضيها هناك ثم نعود ومعنا السيارة والمنزل الفخم والمستقبل المضمون.. ما رأيك لو جربنا؟ رحت أنظر في عينيه لأرى بريق الأمل وهو يختلط بالألم ويتحول إلى صرخة بالرفض نطقتها عيناه قبل لسانه، فرحت أقول: - لا .. السفر مرفوض يا أستاذ.. السفر معناه ضياع فرصة عليك في عالم الأدب والكتابة.. فرصتك هنا. إنني لا أطمع في جاه أو سلطان، بل حياتي معلقة بين صفحات كتاب من كتبك أو مؤلف من مؤلفاتك. ألمح في عينيه نظرة سرور وامتنان.. ينظر لي بوله ويقول: - يا حبيبتي.. تصوري.. كنت أخشى أن تقبلي.. لكن مستقبلك؟ أقول بسرعة حتى لا أدعه فريسة لتأنيب الضمير: - أنا أيضا حياتي هنا.. إن من مصلحتي أن أظل هنا حتى لا تفوتني فرصة الترقية.. ترتسم على شفتيه ابتسامة.. يضمني إليه مقدرا مدى التضحية التي قمت بها، فكانت ضمته بمثابة بساط ريح طفت به العالم كله في لحظات قلائل .. منتصف الليل تماما .. البيت كله نيام وأنا وحدي متيقظة أنتظر الصرخة البغيضة التي ستطلقها ابنتي بعد قليل.. أفكر في الكلام الذي دار بيني وبين زوجي هذا المساء.. أي اثنين إذا جاءتهما فرصة السفر سيتركان كل شيء ويرحلا إلا نحن.. لأننا لا نستطيع أن نعيش بجسد واحد في مكانين مختلفين.. سنظل في صراع دائم بين الأحلام والواقع .. ليتنا كنا بلا أحلام ، لكنني أعلم أنها ليست بأيدينا .. آه .. هاهي الصرخة البغيضة تنطلق مدوية من قلب الصغيرة النائمة لتشل رأسي فأخف إليها ، يلحق بي زوجي إلى غرفتها .. - مالك يا إيناس.. مالك يا حبيبتي .. أنا جنبك أهه.. لأول مرة أجد الصغيرة تتكلم: - أشعر أني مخنوقة.. كرهت هذا البيت، كرهت الشارع والناس .. زهقت من كل الأماكن.. - أتكرهين بيتك يا إيناس؟ البيت الذي فيه بابا وماما؟ راحت إيناس تكمل بانفعال، وقد بدأت الدموع تنهمر من عينيها: - نعم كرهت البيت.. أحلم ببيت جميل له حديقة واسعة بها قفص عصافير كبير وشارع نظيف تصطف فيه الأشجار على الجانبين.. وسيارة كبيرة حمراء ترحمني من عناء السير على قدمي إلى المدرسة.. ليتك يا ماما تدخلين الحلم معي، وأنت أيضا يا بابا حاول أن تعيش حلمي لتراه بنفسك . في الصباح التالي.. كنا الاثنان أمام مبنى شاهق، على واجهته وضعت لافتة " سفارة إحدى الدول العربية " ورحنا نشق طريقنا بين الزحام الكثيف ليتسنى لنا الحصول على عقد العمل .. وقد أدرك كل منا أنه لا بد له أن يدخل أحلام الآخرين ليعيش فيها .. حتى ولو كانت " أحلام صغيرة "