الأيام التي جاءت بعد الحادث كانت عسيرة . أدركت حينها إن مهمتي أوشكت على الانتهاء . هلت نحوي بوجه صبوح ، وابتسامة مبهجة ، احتوتني بشدة . كانت تتبختر داخل عباءة لونها أحمر قاني ، موشاة برسومات لطيور من خيوط الحرير باللون الفضي ومطرزة بحركات اليد البشرية الماهرة . كنت مستعدا للاحتواء والانزواء داخل ثناياها. لكنها توقفت عن الابتسام فجأة ، سحبت عينيها إلى الفراغ خلفي حيث كانت شجرة البوانسيانا العملاقة بأزهارها القرمزية والراسخة كالطود المنفوش الشعر الذي تتدلى من أطرافه مصابيح حمراء قرمزية وصفراء ، شعثاء ، على الناصية البعيدة من الشارع ، كأنها تحرسه وقد استحوذت على كل شيء. لم أدرك معنى أن تأتي اللهفة وتبتعد في نفس اللحظة غير الآن. لكني كنت متأكدا إن الأمور في طريقها للنهاية . بنايات ضخمة تتراص على جانبي الشارع ، تحجب الشمس وتحبس الهواء والضوء وكانت مترهلة ، متبلدة ، تمتلئ ضجيجا ، وعنفا ، وخيانة . اذكر إني استيقظت من نومي ذات صباح لأجدوني مسجى على سرير عريض بأحد شقق تلك المباني المترهلة . كنت وحيدا ، دهمني شعور عجيب بان قدري ربما تغير ، وإنني أوشكت على دخول نادي العظماء الذي يتحدثون عنه . خرجت سريعا للشرفة التي كانت موصدة ، وجدتني معلقا في السماء، والسحب البيضاء في الأسفل ، تتسارع، تتزاحم ، تصطدم بجدار البناية ، تحجب عني الرؤية . فركت عيني مرة ، ثم مرة ، كأن الدنيا أظلمت ولم تظلم . النور منتشر في الأركان، وفي الفضاء ، لكني لا أرى سوى غمام ابيض، شديد النصوع ، شديد الطيبة. دلفت إلى الداخل ، بدأت الصورة تتضح ، وتتشكل رويدا رويدا. الشقة خالية سوى هذا السرير العريض الذي يحتل منتصف الغرفة الواسعة . وكان هناك خطاب مختبئ داخل مظروف ازرق ، لمحت طرفه حيث انحسرت عنه الوسادة التي احتضنت رأسي طوال تلك الليلة التي غيبت فيها عن هذا العالم .ثمة صوت يرفرف من بعيد ، تتراقص اخباره في مسامعي . ولم يكن ثمة مصدر يمكنه أن يحدد من أين يرفرف هذا العزف السيمفوني البديع. كأنه بيتهوفن واقف هناك، ظهره للباب الدائري للشرفة التي فتحت ضلفتيها على اتساعهما ، والكيسترا ضخم مختبئ في الفضاء البراح خلفه، ومارش الجنازة يصدح بتواتر، ودوائر متداخلة ، حلزونية ، متصاعدة من النغم الباكي، كأنها تهبط من السماوات إلى أهل الأرض الذين طمرهم الضباب ، ناعية ، مواسية . ثم تتصاعد النغمات تدريجيا وبدون مفاجآت ، تخطف الروح من مرقدها، وتزهد في الحزن والحداد .كأنها إشارة خفية للبحث عن بطل . بتلقائية غير محسوبة قبضت أصابعي على المظروف الأزرق، كان مفتوحا ، وورقة صغيرة مطوية مختبئة في قاعه. أيقنت إن أمرا جادا ينتظرني، وان تلك القصاصة سوف تفصح لي عن أخبار المهمة المطلوبة مني . شعرت كأن السماء كانت تقرأ معي خطوط القصاصة، شديدة الجمال، شديدة الوضوح. وعاهدتني على الاحتفاظ بسر المهمة، ما يزال صوت العزف السيمفوني يداعب أطراف أذني وقد بهتت ملامحه وخفتت حدته إلى حد بعيد، حتى خلت انه متصاعد مع السماء التي كشفت سري . قفزت من رقدتي، لم اشعر بأهمية دخول الحمام على الرغم من الم ضغط المثانة، لامست قدمي الحافيتين بلاط الأرضية اللامع البارد جدا. سرت في أوصالي رجفة، مؤشر بوصلتي كان متوجها لمكان فريد ، الشرفة حيث كان بيتهوفن وخلفه البراح . توجهت خلف اللحظة الموعودة، لم يعد هناك بيتهوفن ولا موسيقى ، ولا ضباب يحجب عني أرضية الشارع من نافذتي المعلقة في الطابق الأخير . مشى التخدير في أطرافي وامتد نحو رأسي . كان الطريق مفتوحا ، ممهدا جدا لتنفيذ خطوط القصاصة وانجاز المهمة. أدركت إن أمامي مسئولية كبيرة نحو الآخرين . هؤلاء المساكين ، اللذين لا يدركون كم أحبهم إلى هذه الدرجة. وجدتني سابحا في الفضاء، وحولي أبخرة وضباب وطيور تحلق في الفضاء وتطالع الأسفلت ، وسيارات صافته وأخرى تتحرك بدون مشاعر ، بدون ود، وكانت البرودة طاغية بقوة على الشارع ، وعلى المارة ، وعلى الإفريز الذي بدا نظيفا على غير المعتاد ، وكأنه على موعد لاستقبال جسدي الهابط من السماء إلى جواره.لم اشعر بقوة الارتطام. ولا بالدماء الساخنة التي غطت وجهي وجسدي البائس ، ولا بهؤلاء الفضوليين اللذين تجمعوا حولي ، ويتحدثون بلغة لم أتمكن من التقاط نغمها أو فك شفرتها . لكنهم لم يدركون على أي حال إني أحبهم ، وأنجزت مهمتي من اجلهم. ربما انقشعت البرودة فيما بعد ، وتخلصت السماء من ركام الغضب الأبيض الذي طمرها الفترة الماضية ، ووجدتني مسجي على سرير ابيض ، وأسلاك كثيرة تقبض على جسدي ، وغرفة تتسع لعدة أسرة، وأشخاص آخرين على نفس شاكلتي، تراقبهم أجهزة الكترونية رقمية نشطة، ترصد كافة خلجاتهم الداخلية. اخبروني عن الحادث، وأسئلة كثيرة دارت تحت سقف الغرفة المعقمة ، وبين الأجهزة الكثيرة . وأخبرتهم عن المهمة ، والمغلف الأزرق وسطور القصاصة. لم يتفهموا. فوجئت بها تقف في منتصف الغرفة ، مشرقة الوجه والابتسامة خلف زجاج النافذة المستطيلة ، المثقوبة في ربع جدار الغرفة تقريبا، ومن خلفها نفذ ضوء النهار الباهر، و منظر شجرة البوانسيانا العتيقة العملاقة كأنها تحرسني من بعيد. احتوتني بقوة ، شعرت إن الأجهزة التي تراقبني تكاد تتفجر من الفرح . طلبت منها إحضار المغلف الأزرق وقصاصة المهمة . ابتسمت ، اختفت خلف الستائر البيضاء ولم تظهر مرة أخرى. أيقنت الآن إن مهمتي قد انتهت أو تكاد ، لكنهم لا يصدقون. لكن شجرة البوانسيانا ربما تصدقني، هي من رأتني أطير في السماء محلقا ، وهابطا لاحتضن الناس. كل الناس اللذين أحبهم. لكنهم أبدا لا يستوعبون، لا يصدقون.