نظر إلى أوراق النتيجة التي تكدست على الطاولة، فتذكر أنه لم يقم بقطع أوراقها منذ فترة، نظر إليها فوجد أن العام قد انتهى بالفعل، فتعجب كيف مر ذلك العام بهذه السرعة ولم يشعر، وكيف لم يتذكر الأيام والشهور التي تمضي ولا يزال في عزلته، فهو يجيد الطبخ والتنظيف وغسيل الملابس أيضا. ولا يحتاح إلى أحد يعينه على تلك الأشياء التي اتقنها كإحداهن علاوة على أنه يعني بحديقة منزله ونجح في زراعة شجرة لوز متأنقة في جانب الحديقة ليستظل بها في عصاري الصيف الخاملة. وكان أحيانا يعزف على البيانو المستقر في بهو المنزل ليملأ البيت بموسيقى بيتهوفن. وفي إحدى الليالي الصيفية وبعدما انتهى من العزف صنع كوبا من القهوة ثم جلس في إحدى شرفات المنزل الست في ليلة قد غاب عنها القمر وأخذ يتأمل النجوم السابحة في السماء وشرع في عدها. سمع أصوات طرق على الباب، نظر من شرفته فلم يجد أحداً، ترك القهوة ثم نزل الدرج وفتح الباب وأخذ يسير في الحديقة، فلم يسمع إلا صوت قدميه على الحشائش الندية وصوت صرصار الحقل في جو مشبع بالبخار. ودار حول شجرة اللوز ولكن لا شئ، فعاد إلى المنزل وأخذ يصنع كوبا آخر من القهوة فعاد الطرق من جديد ولكنه لم يعبأ به وصب القهوة في الكوب وحملها إلى الشرفة ومازال الطرق مستمرا، وأخذ يتأمل النجم القطبي الذي لا يبرح مكانه أبدا وقد استمر الطرق حتى الساعات الأولى من الصباح بشكل متقطع وبعد ذلك دخل الى غرفته ونام. كانت أصوات الطرق تحدث بين الحين والآخر ولكنه أعتاد عليها حتى لا تقطع عزلته التى أحبها كثيراً. وفي يوم جمع مرايا المنزل بأكمها، فقد كانت في كل مكان وعندما يخطو في المنزل يشعر أن هناك من يرقبه فيلتفت سريعا ليدرك أنها مرآه، وشعر أن وراء كل واحدة منها شخصاً يرصده ويقوم بتدوين حركاته في سجل يومي وكان ينظفها كل يوم بعناية، فقام بجمع اربعة عشرة مرآه ووضعها في قبو المنزل. لم يجد تفسيرا لذرات التراب التي تتجمع كل يوم على الأثاث والفرش والصحاف والأطباق والزهور فقد كان يقوم بتنظيف المنزل كل أربعة أو خمسة أيام، أما الآن فهو يقوم بالتنظيف يوميا، لقد صار عملاً مملاً إذن ولم يعبأ بعد ذلك بهذه الأتربة، إلا بعد عدة أيام كما كان يفعل وتحولت إلى أعمال شاقة حتى أنه لم يستطع تمييز الأشياء مما تجمع عليها من غبار. ولكن ذات يوم جمع نشاطه وقام بتنظيف جميع الغرف من الأتربة وغسل الحوائط والسقُف والأرضية، وكل شئ كانت تقع عليه عيناه و وضع الزهور في كل مكان، واشتري أيضا نتيجة للعام الجديد ووضعها على الحائط، ثم تحول إلى الحديقة التي عانت أيضاً من الاهمال، فقام بتقليم الأشجار وتهذيبها وازالة الحشائش الضارة وزرع الزهور في كل مكان وغسل شجرة اللوز حتي صارت لامعة كسابق عهدها، ثم نام بعد عناء استمر عشرين ساعة. استيقظ في اليوم التالي وكأنه لم يفعل شيئا فقد كان المنزل يغوص في بحر من الغبار الناعم، نفض الغطاء فتناثر الغبار في كل مكان كما لو كان دخانا وأخذ يسعل كثيرا ثم قرر أن يقوم بالتنظيف مرة أخرى فقام بازالة الاتربة وغسل كل شئ بالماء ثم نام بعد عناء استمر لعشرين ساعة أو أكثر. واستمر هذا الحال لمدة شهرين حتى أنه كان يستيقظ ليجد أن الغبار قد تراكم على جسده فكان يبدأ بتنظيف نفسه أولا ثم يقوم بتنظيف المنزل ثم ينظف نفسه مرة أخرى ثم ينام، دائرة مفرغة لا تنتهي حتى أن البيانو لم يعد يعمل لكثرة ما تكدس الغبار على أوتاره. وفي كل مرة يجد أن الحال يزداد سوءا فإلى جانب الغبار، كان يستيقظ ليجد أنسجة العناكب قد اتصلت بين الحوائط، و لاحظ أيضاً أن كلس الجدران بدأ في التقشير والسقوط ولكنه لم يهتم هذه المرة ونام، وعندما استيقظ لم يجد الحال بأحسن مما كان عليه، ازدادت خيوط العناكب حتى تدلت من السقف، وسقطت مساحات كبيرة من الكلس حتى ظهرت قطع القرميد وماتت الأزهار بعدما كساها طبقة كثيفة من الغبار ولم يعد يري غير اللون الرمادي حوله. حاول أن ينهض فتداعي به السرير فانتظر قليلاً يفكر ولكنه استبعد أن يستعين بأحد فتذكر الحديقة فهرع إلى الشرفة فرأى كوب القهوة مازال موضوعا وقد امتلأ بالغبار ثم نظر إلى الحديقة فرأى الدمار قد حل بها ماتت الأزهار واكتست الأرض بأوراق الأشجار الجافة تذروها الرياح في دوامات متلاحقة، وماتت الحشائش بما فيها الضارة منها وتحولت شجرة اللوز إلى كائن اسطوري بعدما جفت تماما تمد أغصانها في السماء كمن يستجير هرع إلى القبو وأتى بمرآه ومسحها ونظر الى وجهه الذي لم يره منذ زمن وقد استطالت لحيته بدرجة رهيبة ثم نظر إلى النتيجة ونفض عنها الغبار المتراكم ليجد أن العام قد انتهى بالفعل. أحمد مصطفى
التعليق: قصة جميلة، محكمة البناء، بالغة الدلالة، تقوم الفنتازيا فيها بدور قوي. واللغة أصبحت أكثر تماسكاً وسلامة فيما عدا خطأ واحد. هكذا نتقدم للأمام بخطوة، أحييك عليها. د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة