كيف أتيحت لابن التاسعة أو العاشرة لذاذات الحب الصبياني, منطلقا يجدل بعض حبائل مصيدة الأنثي, والأنثي في مثل العمر؟ وتمضي اللعبة مختبئين وراء الساق السامقة لنخلتها الباسطة الظل علي البستان, تنسكب غدائرها تخفي وجه الطفل الغارق في وقد النزوات المشتعلة, بين نقيق ضفادع أزعجها ليل مقترب, وسماء حبلي بغيوم توشك أن تساقط أمطارا رعدية, بدأت قطرات منها تغسل وجه صغيرين اثنين, تلاصق وجه في وجه ويد في يد, حتي يشتد الرعد ويندلع البرق, يولي صاحبنا مذعورا, يخترق حقولا وحقولا, يتقافز فوق القنوات, ويقعي في المنحدرات, ويسقط خلف سياج من شجرات القصب أو الذرة, ويعجب كيف يطول الآن طريق سار به آلاف المرات وخوض فيه, وكان الظن بأن البيت قريب, وسيلمس وجه الجدران! وماذا تخفي القرية للقادم من قلب مزارعها,من دار تسبح في الخضرة ما بين نخيل طال وهاش, وسدر في طعم العسل ورائحة التفاح, وتوت مصقول أبيض يحدوه زيتون العائلة, تراكم في موسم جني المحصول, الصبية كالقردة فوق الاغصان, أواعيهم تمتليء بحبات الزيتون,تدور القسمة بين الاعمام, وترتفع الاصوات, فهنالك دوما من يتجاسر في حصته الكبري مغتصبا, وهنالك من يؤثر أن يغضي أو يتسامح, هل يخسر إخوته في يوم القسمة لو فازوا بنصيب أكبر في الميزان؟ الآن تركت الأرض الريانة بالخير, وعالمك المخضوضر والمغسول بأنداء الفجر, جئت إلي الشارع والحارة, وزقاق ينسد فيصبح مأوي لحكايا مرعبة, سكنته عفاريت الليل, ويقتسم العشاق نصيبا فيه قبيل حلول الظلمة, ثمة قمر ونجوم, هل تطرد أشباح الليل؟ وتنحسر, يغيب الضوء, وتبدأ مملكة الليل العظمي, يرتجف القلب لغيبة وجه كان يضئ الشرفة في الجهة الاخري, عيناك عليها من قبل مغيب الشمس, منتظرا أن تشرق منها حين تطالعها كل صباح, وتري فيها ميزان حياتك حين تروح وحين تجيء, تتراقص في إيقاع الوطء, وفي لفتات الجيد, ودورة خصر يفصح عن بعض لدونته, ويشب بداخلك البركان! تقترب الساعة أم يقترب اليوم المطبق في شفق ينساب ويغمر كل فضاءات القرية. تتنفس من حولك عطرا هو عطر فتاة الشرفة, وترفرف ألوان شتي مثل طيور تهبط من أعلي, تفرد أجنحة بيضاء وسوداء وزرقاء, ترفرف مثل ملائكة من النور, تنشر هسهسة ونداءات تفصح عن رغبتها, وهديل حمام يرجع للأعشاش وللأبراج قبيل حلول الظلمة. الآن القرية توشك أن تتداخل ملء أزقة هذا الليل وتغفو, تاركة بعض الاسرار لديك وغموض حنين في صدرك يكبر,منجذبا نحو فضاء العطر, وثمة غمغمة في الشفتين كأنك تحتال لانغام فيك تود لو انطلقت, صارت لحنا عذبا يحمل ميلاد الكلمات الاولي المرتعشة. هذا يوم للكلمات وللانغام وقد جئن معا, يوم ستحدق فيه غدا أو بعد غد, مأخوذا بفجاءته, وتأهب دنياك للحظته, وتظل تردد في دهش: للشعر أوان! الآن ستدرك كيف يجيء الشعر؟ ومتي يأتي؟ ومهادك يا ابن القرية ليل ونجوم وقمر, وبساطك نهر وفضاء أخضر يسبح فيه نبات وشجر, ورحيقك وجه سيظل يصاحبك طويلا, وجه من نور, يسطع في المرآة أمامك, ليس يغادر, إلا حين تودعه وتصدق أنك ذات زمان قادم لامست المثوي. في الشرفة, ظل الوجه يقودك, يشعل فيك الصبوة والحلم الاول, يصنع منه خيالك زادا للرحلة حين تغادر قريتك الوادعة وراءك, تتسرب من بين أصابعك الايام, وتشغلك مدينتك الكبري أم الدنيا , ها هي ذي تصنع سدا, وتقيم زمانا مزدحما, وتجرب فيك مفاتنها, وتهيئ هذا القلب الغض لنيران الاشواق وزلزلة الاعماق. تتقلب فوق الحدين, وأنت نزيل الغربة والوحشة والإملاق, تمتد يداك إلي صدرك, وإلي جنبيك, وأنت تهديء من فوران الشجو, تسكن من أوجاع الروح, تثبت من زلزلة القلب, وأنت تهدهده وتقول: هذا قلب تنضجه النيران!!. المزيد من مقالات فاروق شوشة