«التوأم» رواية الكاتب السويدي غيربرند باكر (حائز جائزة ايمباك دبلن الأدبية العالمية) صادرة عن «شركة المطبوعات» ليست إلا استنطاق واحد طويل للحياة. استنطاق تأملي هو الأساس الذي بُنيت عليه هذه الرواية التي تستنطق زمناً عاطفياً هو زمن الطفولة والشباب بالطبع. أجواء مشحونة صالحة لتكون روائية بامتياز، تستعرض العلاقات الأسرية والصراع بين أفرادها. رجل في منتصف الخمسينيات ينتبه فجأة إلى كونه وحيداً، فيحاول استعادة السيطرة على حياته، في أجواء نفسية وصراع مع الذات يتخلله الإحساس بالندم والخطيئة والعقاب الشديد في جدلية الخير والشر الأزليين. حب يودي الى الموت، وموت يستنهض حياة جديدة، وعلاقات جديدة في مزرعة ريفية نائية، حيث لا شيء باهراً فيها سوى المشاعر الإنسانية. أب متسلط يفرّق بين توأميه، ويتحكم بعواطف ابنه الذي أخطأه الموت، وبطموحاته وأحلامه، ليجدد هذا الأخير الطموحات والأحلام، في إبن شقيقه التوأم المتوفى، مستعيداً كل ما كان أجهز عليه والده. نُعجب بما قدمه الكاتب من خلال إمساكه بكافة مفاصل روايته، وتقديمه أكبر كمية من المعلومات عن شخصياتها، لنقترب منها إلى حد التماس، من زمنهم الفعلي وطريقة عيشهم وما شاب هذا العيش من تعقيد. أيضاً قدّم باكر، ما جعلنا نتعرّف على ماضي شخصية الرواية الرئيسة (الأب) ما ساعدنا على فهم كل دوافعه في تصرفاته التي أتاها مع توأميه. شخصيات وفر لها الكاتب، استقلالها الكامل، عبر اختفائه ككاتب بكل وجهات نظره، مُجنباً القارئ الوقوع تحت تأثيرها، تاركاً له الاستمتاع بالوهم، وبالاعتقاد بأن الخيال حقيقة. في الرواية يجد القارئ هذه الجملة: «كل حياته، ما هي إلا استمرار لحياة والده». فإذا تحدث باكر عن الأب، فليس لتسجيل معلومات عن نفسه أو ذاته هو شخصياً، ولكن لأن الأب هو موضوع الرواية الرئيسي، والإبن هو استمرارية لأبيه، وجوهر مشكلته متجذر في تسلط ذلك الأب. لم يجعل باكر شخصية الأب أقل حياة لمجرد أنه يكرهه، بل جعلها حية بشكل صحيح، بغية الوصول إلى عمق مشكلته الحياتية، وإلى لبّ المشاكل والمواقف والأفكارالرئيسة، وحتى بعض الكلمات التي تشكلها والتي تبدو «لازمة» ومفصلاً في وجع الإبن الشاب. ثمة ذلك الحنان المكبوت والفكر الساخر، في مواضع وصفية في الرواية، تلحظ معاملة الإبن لوالده المتقدم في العمر: «نقلتُ والدي إلى الطابق العلوي. واضطررت قبل ذلك إلى إجلاسه على أحد الكراسي لأتمكن من تفكيك السرير. جلس في مكانه أشبه بعجل رضيع لم تمض على ولادته أكثر من دقيقتين، ولم تلعقه أمه بعد لتنظف جسمه». نلمس حنان الأب رغم ماضيه المليء بالعنف حيال توأميه ما أفضى إلى موت أحدهم. الإبن الشاب الذي غدا خمسينياً مع ذلك، لم يستطع تحمّل مشاهدة ضعف والده، الضعف الذي يثبطه ويُهينه. ضعيف وبلا دفاع بعد سنوات من الجبروت حطّمت حياة التوأمين، أحدهما بالموت، والآخر بالاختناق بضعفه الخاص حيال والده، وبرغبته التي لا تقهر بالسقوط، وبفكرته البائسة بأنه ينتمي إلى معسكر الضعفاء. لكن اللحظة المفصلية الدرامية في الرواية جعلت الإبن الشاب في سياقات روائية يتعرفها قارئ الرواية، يخرج عن سيطرة والده، ويتوقف عن طاعته، ويبذل كل جهده للإمساك بما تبقى من حياته، عبر تمرير كافة أحلامه وطموحاته، إلى إبن أخيه المتوفى، ومساعدته على تحقيقها كما لو أنه حققها هو نفسه. «التوأم» واحدة من الروايات الجيدة، مليئة بالحياة والحقيقة، والمواقف الإنسانية فيها ليست خلفية روائية، بل هي بذاتها حياتية وجوهرية حول المفارقات الفاصلة، والاستلهامات التي تنسحب كلها من حياة تلك العائلة الريفية التي يرتسم مصيرها بغموض في البدايات، خلف العالم الحقيقي، لكن الظلم يبلور أخيراً ذلك المصير، ويبدو في النهاية أنه يتنبأ بمستقبل أكثر رضى، ممسكاً أخيراً بإمكانية حياة معقولة. المصدر: السفير اللبنانية.