عندما بدأت أكتب عن الوطن، بت ممزقة شاردة…لا أملك أمام حرقة بعدى عنه سوى أن أمسك الغيمة وأهزها لتُسقط علىّ بقايا دموع فى غيابى عنه… لا أهرب إلى أىّ مكان فى هذه الحياة سوى إلى مكان واحد وهو هذا الوطن الذى يملأ علىّ المكان عبقاً… باتت نظراتى إليه كتأملات طفلٌ رضيع خرج تواً شارداً للحياة… أو كضحكة إمرأة مات زوجها الذى كان يكسرها بقيده… فأنا يا وطنى الحزين لا أملك شيئاً إزاء طيفك إلا أن أناجيك، بربك عنى لا تغيب… ما كانت الذّكرى يوماً يا وطنى فى غيابك إلّا لتُذكر، غير أنّه لا عدلَ فى حِيادِها لطرفٍ واحد، فطَرَفٌ يَذكُرُ ويُقهَر والآخر يَنسى ويَعبُر… وإليكم نص كلماتى اليوم: لماذا تتشبثين دوماً بمثل هذا الكلام عن الوطن؟… لا أعلم لِمَ أقول هذا؟… كلّ ما أعلمه هو أن الذِّكرى المؤلمة لا تَتلاشى مِن النّفس بسهولة، كلٌّ يعيشُ وفى جوفِه ألف ذكرى وذكرى حُفِرت، فلا مفر الآن يا سيدى… فالشفقة بسبب حبى اللعين لهذا الوطن باتت دون إِصغاء، والإِصغاء بات دون تفهُّم، والتفهّم بات دون حِراك لماذا أراكِ دوماً حزينة؟…. أنا جد حزينة لأننى تعبت حقاً فى حب هذا الوطن، هو وطنى، يلمحُنى وأنا أجرّب أن ألمسَ ترابَه وأوصى كلّ قادم بأنْ يجلبَ لى معه حفنةً من رمل بلادى، أنه يا سادة وطنى الذى أحاورهُ دوماً فى الخفاء مبرّرة رحيلى عنه بأنّ الأوطان خُلِقَت لنحبها مِن بعيد، أنا أؤمنُ بذلك، هى حقًّا لا تكونُ جميلة كفاية إلاّ عندما نغادرها، ونديرُ ظهورَنا لها مودّعين جلست على الأرض أبكى فى وجه وطن لا يقوَ على الوقوف أو حتى الدفاع عن نفسِه أمامَ جُملةٍ من التساؤلات كانت تحشُره فى الزاوية، أنا لا أريدُ أن أحاربَ عتْمتك أيها الوطن بمفردى، فأنا لا تُخيفنى الغربة، بل يُخيفنى الإغتراب بداخلك هل حقاً أدمنتِ ما يسمونه بلعنة حب الوطن؟… لا يا سيدى فالأمر ليس كما تتصوره، أننى أعلّم نفسى ألا أدمن كثيراً على حب الوطن، وفى غيابى عنه كنت ألهو بما كان ينسينى فيه، وقلما أشعر بأننى صرت معتادة عليه، لكن الحقيقة أننى بت معتادة على طريقته فى ذبحنا بحبه بلا هوادة، والتى جعلتنى أتنازل عن نصيبى من التعقل فى حضرته صرخت فى وجه محدثى معاتبة… عليك بأن تنسى أنك أعطيت الحب وستتلقى الحب من حيث لا تدرى… وكما يقول أفلاطون أنه إذا أردت أن يدوم حبك فأحسن أدبك! من أعظم ما علمتنى الحياة واقعياً هى أنه فى آخر مشهد من مشاهد الدراما الإنسانية ستبقى ثلاث شخصيات فقط وهى: الإيمان والأمل والحب، ولكن أعظم شيء فيها هو الحب… ولا شئ آخر غير الحُبْ! هل أنتِ غريبة حقاً فى وطنك؟… بكيت بعمق وأنا أشرد بعيداً بعيداً، فنحن يا سيدى صرنا غرباء فى وطن المنفى، وظلت الغربة لنا وطناً!…نضجت، وبدأت أفهم أن الحياة لغز، ونضجت الغربة بداخلى، فأصبحت أعمق، كانت غربة الطفولة حلُماً، وغربةُ الصبا وطناً، أما غربةُ النضج فهى مثل حمل ثقيل!… فالوطن بداخلى غريب أينما حملته، لا وجود له إلا فى قلبى… ولا أعرف إن كان ذلك حقاً يكفى! أتذكر أصعب سؤال وجهته لى جدتى، ما هى خلاصة تجاربك فى هذا الوطن؟… فأجبت جدتى باكية بكاء السنين بأنه: صار الوطن أصعب، لكنه صار أجمل، صار أثقل لكنْ أغلى، صار أبعد لكنْ أطهر… ثم مضيت بعيداً بعيداً منهكة خائرة القوى، ولم أعد بعد ذلك أقوى حقاً على الحركة أو الفرار… ثم إلتفت إلى جدتى صارخة، ولكن الغربة الأصعب يا جدتاه حين لا يكون لنا أحداً ممن حولنا وطناً عندما اشتدت وطالت غربتى، بعثت لى جدتى برسالة خطية طويلة، جاء نصها: إن لم يكن لكِ ترف الإختيار فى إغترابك، فلا داعى للإغتراب يا إبنتاه، سواء كان الأمر حباً بتجربة أو حلماً بجديد؛ وإلا؛ إن لم يكن من هذا الإغتراب بد أو داع؛ فلتحللى دوماً لماذا إغتربتِ، وإستندى على هذا الجواب، وتداً لعواصف الأيام؛ وعيشى تجربتك حتى أقصاها، وأقصاك… فرحمةُ الله عليك يا جدتاه! هل أحببتِ يوماً فى غربتك يا إبنتاه، وبماذا تصفين ذلك الحُب؟… أجبت محدثى بأنه لا يكتفى الأحبة بالإيمان بك، بل يطلقون قدراتك التى كدت أن تنساها، ويجعلون العالم بأسره يؤمن بك… معهم لا تلتفت لإعتبار المكان أو الزمان، فهم وطنك الذى تحزمه مع الحقائب أينما ذهبت، وهم السلوى على مر الزمن هل أنتِ إنسانة هشة كما يصفوك؟… إعتدلت باكية، فأنا حقاً تلك الإنسانة الهشة التى تسقط دمعتها كلما تذكر حنينها لهذا الوطن قبل إندلاع الحرب، وهذا ليس بذلك العار الذى يجعلنى أندم، وإنما هو ذكرى عظيمة تذكرنا بجمال هذه الحياة على أرض ذاك الوطن، وجمال هذا العمر الذى أنقضى فى بعدى عنه… لذا، فأتركوا قلبى وشأنه كى يعبر عن حبه لوطن دمرته آلة الحرب اللعينة، فقلبى ساعة وقوع الحرب هو ذلك الجزء الذى لا يمكننى أن أنفصل عنه مهما تكالبت على الظروف والحياة هل نام أبيك؟… أعتقد ذلك، فاليقين الوحيد لدى الآن هو أنه حقاً قد نام، ولم يستيقظ رغم أننى حاولت إيقاظه حين كلمته طويلاً، وكم إستغربت حينها من طول إنصاته دون أن يجيب… وقتها نظرت لأمى باكية، وسألت مستنكرة: لو أنهم أعطوننا الجناح، لتمكنا من إيقاظه من موته، لِمَ لمْ يعطونا الجناح يا أمى؟، صمتت أمى، وتكلّمت دموعُها، لم أفهم منها الكثير، لكن الأيام المتتابعة والدموع المتتالية كانت كفيلة بالشرح وأخيراً، هل أنا حقاً أستطيعُ أن أصِفَ حبى لهذا الوطن فى جُملٍ أو حُروفٍ أو مقالاتٍ أو روايات؟… لا يا سادة لا، فما أشعره نحوه لا يوصفُ، يكفى أن أنظُر فى عينيه فقّط، لأنسى من أنا ومن أكون؟… فأنا يا وطنى سأظل وحيدة لو إحتفل بى الملايين دونك، فأنا لستُ سوى انعكاساً فى عينيكَ، أنتَ مرآتى التى أرى فيها نفسى، فمتى ما فرحت يا وطنى بى، فأنا أملُكُ الدنيا وما فيها، فأنا إبنتك المدللة مهما بلغتُ من الكِبر عتيّاً، أنا المُتطرَفِة فى حُبّك، ولو كنت أملُكُ يا وطنى حق العودةَ إلى أحشائِكْ والبقاءُ مُختبئة فيكَ مدى الدهر، لفعلت… وهذا هو كل ما فى وسعى الآن كى أصف لكم حبى لهذا الوطن العظيم، فهل تروننى أوجزت وأنصفت؟