شموس نيوز – خاص محمود بقشيش (1938-2001) فنان من طراز فريد، هادئ الطباع، خفيض الصوت، صاحب قيم أخلاقية وإنسانية رفيعة كما يصفه اصدقائه، خرج الى الحياة في مناخ سياسي/ثقافي يمور بالصراعات السياسية الحزبية والحركات الداعية الى طرد الاحتلال البريطاني، وتيارات ثقافية وفكرية داعية الى النهضة والتنوير. تفتح وعيه في مراهقته الأولى على اساطين الفن والغناء والأدب والشعر والصحافة في ذلك الوقت، حتى قامت ثورة يوليو 1952 ووضعت حدا لرياح التجربة الليبرالية التي كانت استجابة لتفاعلات يمور بها المجتمع المصري ونخبته في ذلك الوقت. لكن شبابه المبكر كان مفعما بالمثالية والرغبة في تغيير العالم، عاين انتصارات كبرى وانكسارات، هيمن عليه سلطان الفن ودعاوى الاشتراكية والتحرر الوطني في الستينيات. دخل كلية الفنون الجميلة وتخرج فيها بامتياز مع مرتبة الشرف والأول على دفعته، وكانت صدمته المبكرة والجسيمة مع الواقع الجامعي الفاسد والمتحيز الذي يرفض الاختلاف، رفضوا تعيينه بالجامعه وتم اقصائه بعيدا. بقشيش تملك قدرة مدهشة في السيطرة وكبح جماح فوران الداخل وبراكينه االثائرة في سبيل ان يبدو للعالم في صورة هذا الكائن الرقيق، يكسو الحزن ملامحه، عيناه تطالعان آفاق وملامح وأشياء غير التي نطالعها. يستخدم حيلة أو آلية دفاع نفسية نبيلة يحقق من خلالها توازنه النفسي وتكيفه مع واقعه والآخرين. هذه الآلية الدفاعية يطلق عليها في علم النفس التحليلي الفرويدي مصطلح ” التسامي” Sublimation، وهي واحدة من أكثر الاليات الدفاعية النفسية قبولا، يتم من خلالها التعبير عن التوترات الداخلية والغضب والتمرد المعتملين بالداخل بصورة مقبولة اجتماعيا، وفي حالتنا كان الانغماس في الرسم والتشكيل وكتابة القصة القصيرة والكتابات النقدية الملهمة هي مخرج محمود بقشيش لاستعادة توازنه النفسي والتعبير عن طريق ذاته الواعية وغير الواعية. تمثل التسامي في مقدرته الفائقة على التعبير عن رفضه للواقع الرديء الذي ينسحق فيه الانسان البسيط بالرسم والتشكيل والألوان، وكذلك كان مخرجا للتمرد على السلطة القامعة سواء في محيطه الصغير (الساحة الفنية وزملاء المشوار الفني) أو محيطه الكبير (الدولة ومؤسساتها) والمهددة عن طريق تماديها في اجراءاتها القمعية باحداث تصدعات وانهيارات في بنية بلده “مصر المحروسة” التي يذوب فيها عشقا وتوحدا. يقول بقشيش في أحد حواراته الصحفية ” أحاول في لوحاتي أن ادين العبث والاهتزاز والانهيار في المجتمع”. وفي سياق آخر يقول ” الملهم لي في اعمالي هو الانهيار الحادث في الواقع العربي والمصري، وان العالم الانقلابي الموجود اليوم هو عالم التشوهات المعاصر وهو ملهمي”. ان امتزاج العام بالخاص حالة مألوفة في أعمال بقشيش لم ينكرها، يقول ” مادة الالهام عندي هي الظرف العام الذي نعيشه في واقعنا، هو الملهم الحقيقي، الأحزان الخاصة والاحزان العامة تجسد في اعمالي منذ معرضي الأول. ثم يلخص أزمة الانسانية من منظور صراعاته الداخلية بقوله في ذات الحوار الصحفي ” الانسان ضائع في كل المتاهات”. نحن اذا بصدد حالة فريدة من التمرد لايمكن ابدا ان يكون مردها فقط مجرد الأزمة الشخصية التي واجهها في شبابه المبكر حين انتهك حقه في الجدارة والامتياز ورفض تعيينه في الجامعه على الرغم من ترتيبه الأول على جميع أقرانه، ولا بسبب ذلك الموقف الغريب من أقرب اصدقائه في لجنة تحكيم بينالي الاسكندرية الذي قرر حجب الجائزة المستحقة عنه!. بل الأمر أبعد من ذلك بكثير، ان المثالية الغريزية لدى محمود بقشيش هي التي دفعته الى الشغف بحب البحث والحقيقة، وتقديس العقل والمنطق، وهي ذاتها التي منحته صكوك الاعتداد بالنفس والكرامة والحرية والتسامي فوق قبيح وكل ماهو محسوس، والتطلع دائما الى ما هو أبعد من المرئيات. والنتيجة كانت في حتمية اصطدامه بالواقع الرديء الذي يجبر الكثيرون وخاصة من النخبة على تقديم التنازلات، لكنه ابدا لم يفعلها. وكأن الغصة العميقة الغور التي خلفها حادث اقصاءه من الجامعة حولته بين ليلة وضحاها الى ملاك يمشي على ظهر الأرض، يحمل هالة ضخمة من الضوء يشحن بها فرشاته في كل مرة يرسم لوحة أو تخط أنامله بالقلم الرصاص على ورقة عادية. هكذا تحول الشاب الرسام النابه محمود بقشيش الى ملاك يحمل في يده فرشاة من الضوء يحارب بها الواقع البائس والأشرار أيضا. الضوء بالنسبة لمحمود بقشيش كان طوق النجاة وحيلة التسامي التي قمعت توتراته وغضبه واحزانه الداخلية. والمدهش كان في امتلاكه لتلك الحرفية الهندسية الفائقة في توزيع بقع الضوء في اللوحة لتشكل حالة فريدة من تمرد الفنان المبدع النبيل دمث الخلق على عالم رديء لم يكن بأي حال يستطيع ان ينتمي اليه. لكنه يسعى الى تغييره بالفن والنبل. يقول محمود بقشيش ” حاولت في اعمالي ان اؤكد انني ابن العالم الثالث”. هكذا موقف الملاك الفنان صاحب فرشاة الضوء، والذي اعتاد على التسامي على الغبن والظلم والأحقاد والتجاهل. ومثل أي فنان تمر السنون وتتطور الخبرات، يتنقل من مرحلة الى أخرى ومن مدرسة فنية الى أخرى نتيجة أو صدى لجداله وتماسه بالواقع والناس وكذلك صراعاته الداخلية التي تتغير ويعاد تشكيلها وفقا للمواقف والظروف والأحداث والناس، والالهام الذي يتجدد شكله وابداعاته، لكن ظلت أحزانه معه لم تفارقة، ورفضه وتمرده لم يهدءا، حتى وهو في ذروة التجريب يستكشف المتابع الوانا واضواء ومساحات وكتل وفراغات تقطر مرارة الواقع والانسان الذي لم يغيب عن وعيه لحظة واحدة. بنفس القدر الذي تقطر فيه تلك الألوان والأضواء شاعرية وأحلام وآمال. وفي كتاباته الابداعية الموسوعية يستكشف لغة جديدة في الابداع النقدي التشكيلي. ولأنه فنان بدرجة مفكر، ورجل متصالح مع نفسه على الرغم من اعتراك الداخل وتوتراته، وفي عمليات تسامي مستمرة يلتزم بقشيش بميزان العدل المطلق وفقط حتى عندما يتعرض لأعمال اولئك الذي ناصبوه الخصومة والحقد والتجاهل. انه محمود بقشيش الفنان النبيل الذي كان في حالة تسامي مستمرة رغم أزمات الداخل، وكان في حالة فريدة من التصالح مع الذات رغم مرارة الواقع وقسوته، ووحشية الفساد وعبثية العالم والعلاقات الانسانية التي تربطه بالبعض في النهار ثم يجدهم يتربصون به وينقلبون عليه في االمساء. كان بالتأكيد صاحب قيم أخلاقية وانسانية رفيعة كما ذكرنا آنفا. د. احمد الباسوسي استشاري العلاج النفسي وعلاج الادمان كاتب وعضو اتحاد الكتاب