»بالنسبة لي، لا أدخل إلي اللوحة بخطة مسبقة، بل أدخلها بريئا كطفل .. وأنتظر من سطح اللوحة الأبيض النظيف – أحيانا- والعشوائي- أحيانا أخري- أن يلهمني بموجوداتي الفنية التي لا تلبث أن تتسلل من ذاكرة مسكونة بالبحر وبالكثبان الرملية والأطلال والعمائر الفطرية وأحزان الحرب والتخلف. ويظهر الضوء عاصفا مرة متسللا مرة أخري، ساعيا في كل الأحوال إلي تجاوز تلك العوائق.. وأجدني وقد تقمصتني روحان متعارضان، روح صائد الآلئ، وروح المتعبد الزاهد من أجل سلامة روحه وسلامة أرواح الآخرين.. في زمن مات فيه الفنان/النبي واحتل مكانه الفنان رجل الأعمال والناقد السمسار.» ربما كانت هذه الكلمات التي كتبها الناقد والفنان الراحل محمود بقشيش عام 1996 هي مفتاح الدخول إلي عالمه كتشكيلي وكناقد فني لا يشق له غبار بما له من إسهامات وكتابات ومؤلفات نقدية وبحثية جادة، إذ نراه متعلقا بالنور متشبثا بكل قيمة رابطا بين دور الفنان ورسالة الأنبياء ومتحملا أعباء الكلمة والريشة بكل صدق، وقد كان بقشيش فنان متعدد المواهب .. لا يسجن نفسه في أسلوب واحد، بل اتسم بثراء أعماله التي تنوعت كما ذكر د.خالد سرور بين التجريدية والتعبيرية والبورتريه. ومنتقلا بين الأبيض والأسود والألوان، وبين القلم الرصاص والرابيدو إلي ألوان، الزيت والألوان المائية. وقد جاء المعرض الاستيعادي الذي استضافه مؤخرا مركز سعد زغلول الثقافي لأعمال الفنان الراحل محمود بقشيش (1938-2001) متضمنا ما يقرب من 83 عملا من أعماله بعد غياب ما يقرب من 19 سنة عن آخر معارضه وسبعة عشرة عاما علي رحيله فرصة طيبة لمن لم تواته الفرصة لأن يري تلك الأعمال مجتمعة في مكان واحد، حيث اشتهر بقشيش بكتاباته النقدية التي طغت علي شهرته كفنان تشكيلي، وإن كان قد سبق هذا المعرض عرض لمجموعة من أعمال الفنان الراحل من خلال معرض »مبدعون خالدون» الذي استضافه جاليري ضي منذ فترة غير بعيدة. بالنسبة لي، لم يكن هذا المعرض الذي استضافه مركز سعد زغلول فرصة للتعرف علي أعمال بقشيش الفنية- والتي رأيت كثير منها رؤية عين لأول مرة- فحسب، ولكنها كانت فرصتي لتتبع أثره في كلمات كل من حوله، إذ أن هناك ثلاث سمات رئيسية لا يمكن الدخول إلي عالم محمود بقشيش بدونها أولها ولعه بالنور الذي هو مفتاح قراءة أعماله علي تنوعها، ثانيا شخصيته الهادئة الأقرب للتصوف، أما ثالثا فهو إيمانه بالقيم وارتباطه بالجذور والهوية والقيم المجتمعية. أما عن علاقته بالنور فهي علاقة وطيدة إذ نراه يكتب في تقديم معرضه الاستيعادي عام 1999 : إنني من الفنانين الذين سكن أرواحهم ولوحاتهم النور، وتناسل الضوء في لوحاتي من نقيضة العتمة، كنت ألمحه في صبايا من نافذة بيتنا وكانت تطل علي البحر المتوسط بمدينتي بورسعيد.. وعن ذلك يقول الفنان مجدي عثمان مدير مركز سعد زغلول الثقافي إن أهم ما يميز أعمال بقشيش هي فكرة النور النابع من داخل العمل.. أما الناقدة فاطمة علي فتقول : هذا الفنان المتصوف عاش مراحله الفنية في بحث دائم عن النور الرمز والتعبير في لوحاته.. كما كتب عنه الناقد سامي البلشي قائلا : اختار الفنان محمود بقشيش الضوء ليكون العنصر الأول داخل اللوحة، يحاور المشاهد من خلال درجة تواجده، فالضوء بديل الحضور الإنساني. وهو في بحثه عن النور صوفي زاهد فقد كان أكثر ما يميزه كما يذكر الفنان والناقد د. عز الدين نجيب أنه كان يطل إلي الداخل أكثر من الخارج، إذ أنه نموذج للفنان الروحاني وهو ما نجده في أغلب لوحاته، فليس للنور مصدر محدد إذ أنه يخرج من أعماقه، ويتحدث د. خالد سرور قائلا: إنه عالم المبدع محمود بقشيش عالم متصوف يرتكن فيه للنور المتجلي بين ثنايا الظلام وتلعب مفرداته شديدة التلخيص دورا في توازن البناء التشكيلي وتحديد ماهية العمل ورؤية صاحبه. أما فيما يتعلق بالهوية فقد كتب بقشيش في مقدمة كتالوج معرضه الذي استضافه أتيليه القاهرة في الثمانينات »ماذا أريد ؟ ما أريده لنفسي هو ما أريده للآخرين .. أن يشغلنا سؤال حضاري نبحث به عن هويتنا في عصر الاجتياح .. أن نكتشف صيغة مستقلة لا هي تابعة للنموذج الأوربي ولا هي ناسخة لإنجازات الموروث المصري والعربي بل محاورة لها ولإنجازات العالم الثالث في الفن، آملا في تشكيل ملامح جديدة لفن قومي إنساني» وهو ما علق عليه د. عز الدين نجيب قائلا : كان بقشيش شديد الإيمان بضرورة ارتباط الفنان بلغة العصر الحديث وبمفهوم التقدم، وهو نفس ما طبقه علي أعماله الفنية، لكنه لم ينسق وراء مدارس الحداثة التشكيلية البحتة في الغرب، بل سعي لتحقيق حداثته الخاصة عبر البحث عن جذور الهوية الروحية والرمزية الكامنة في الواقع، من جدران ونوافذ تشع بصيص النور المختال بين ظلمات كثيفة وقد تكون ظلمات النفس أو ظلمات الواقع أو ظلمات الغيب المتربص بالإنسان. وفي رأيي أن واحد من الجوانب المهمة والتي لا يمكن إغفالها في حياة هذا الفنان الجميل المرهف الإحساس هي تلك الرابطة القوية التي جمعته بزوجته الكاتبة هدي يونس إذ أتذكر ما قرأته عنه في الحوارات ذاكرا كيف كانت دوما هي السند، وهي دافعه لإقامة المعارض وناقده الأول، وربما كانت تلك الرابطة ممتدة إلي اليوم حيث لا يأتي ذكر الفنان دون ذكر للمجهود الذي تقوم به هذه السيدة العظيمة في إحياء ذكري زوجها إذ أنها هي الدينامو المحرك وراء إقامة هذا المعرض الأخير الذي استضافه مركز سعد زغلول الثقافي وقد وجدت أن أختتم أول ما أكتبه عن هذا الفنان المتصوف المتشبع بالنور بما كتبته عنه زوجته المحبة: أرحل في أزمنة من حرر النور من ثبات مصدره، وجعله يتحرك بنعومة ورفق متسللا تارة ومقتحما تارة، وفارضا وجوده .. ضوءك قادر علي منحي القدرة وإبعاد الوساوس حتي نتلاقي .. تضمني وتسري تميمة روحك في أعماق ذاكرتي، حينها أتساءل من منا أنا، أعيش عالم محمود بقشيش مجسدا رؤية مفكر وشاعرية شاعر، وتحليل فيلسوف وعفوية مبدع حر وأسئلته لا تنتهي لفهم الوجود.