رسائل حاسمة من السيسي بشأن سد النهضة ومياه النيل- "كل ما قاله الرئيس"    قيادي بالجبهة الوطنية: الشباب المصري في قلب الجمهورية الجديدة    سعر الذهب اليوم الثلاثاء 12 أغسطس 2025.. عيار 18 يسجل 3925 جنيها    وزيرة التخطيط تشارك في إطلاق الاستراتيجية الوطنية للشباب والرياضة 2025-2030    جوزيف عون: هدفنا بناء الثقة بين الشعب اللبناني والدولة والخارج    مفتى الجمهورية ينعى الدكتور على المصيلحى وزير التموين السابق    تقرير: إسبانيا تخاطر بعداء ترامب نتيجة سياساتها الدفاعية وعلاقاتها مع الصين    طرد نائبة نيوزيلندية من البرلمان بعد دعوتها لمعاقبة إسرائيل والاعتراف بفلسطين |فيديو    إيزاك يواصل الضغط على نيوكاسل من أجل الرحيل    فتح باب حجز تذاكر مباريات الجولة الثانية للدوري    شبانة يكشف: منتخب مصر يواجه نيجيريا قبل كأس الأمم    لن تتخيل.. سعر خاتم الألماس الذي أهداه كريستيانو رونالدو إلى جورجينا    المشدد 6 سنوات لسائق فى اتهامه بالإتجار بالمخدرات بسوهاج    الطقس غدا.. موجة شديدة الحرارة وأمطار تصل لحد السيول والعظمى 41 درجة    حجز نظر استئناف المتهم بقتل مالك قهوة أسوان على حكم إعدامه للقرار    جلسة حكى وأوبريت غنائى فى عيد وفاء النيل بمعهد الموسيقى الأربعاء    بعد تحقيقه إيرادات ضعيفة هل سيتم سحب فيلم "ريستارت" من دور العرض؟    خصم يصل ل25% على إصدارات دار الكتب بمعرض رأس البر للكتاب    وفد مجموعة الحكماء الداعمة للسلام يزور مستشفى العريش العام    خبراء: قرار إسرائيل احتلال غزة ينتهك حق الفلسطينيين بتقرير مصيرهم    "الجمهور حاضر".. طرح تذاكر مباراة الزمالك والمقاولون العرب في الدوري    بعد 6 شهور.. وائل جسار يعود لإحياء الحفلات الغنائية في أوبرا دبي    تجديد تكليف الدكتور حسن سند قائمًا بأعمال عميد حقوق المنيا    وكيل وزارة الصحة بالدقهلية يحيل المدير الإداري لمستشفى الجلدية والجذام للتحقيق    إنجاز طبي جديد بقنا العام: إنقاذ سيدة من نزيف حاد بتقنية دقيقة دون استئصال الرحم    "أبو كبير" تنعى ابنها البار.. ماذا قال أهالي الشرقية عن الراحل علي المصيلحي؟ -صور    الجمعة.. فرقة واما تحيي حفلاً غنائياً في رأس الحكمة    هاني تمام: "القرآن يأمرنا بالمعاشرة بالمعروف حتى في حالات الكراهية بين الزوجين"    قطع مياه الشرب عن مدينة ديرمواس بالمنيا غدا لمدة 6 ساعات    كامل الوزير: عمل على مدار الساعة لتحقيق مستوى نظافة متميز بالقطارات والمحطات    خاص| وسام أبوعلي يستخرج تأشيرة العمل في أمريكا تمهيدا للانضمام إلى كولومبوس كرو (صورة)    12 أغسطس 2025.. أسعار الأسماك في سوق العبور للجملة اليوم    المكتب الإعلامي الحكومي في غزة يفند أكاذيب الاحتلال حول سياسة التجويع في القطاع    25 أغسطس الحالي.. ترامب يستضيف رئيس كوريا الجنوبية لبحث تفاصيل اتفاقهما التجاري    الدقهلية تبدأ مهرجان جمصة الصيفي الأول 2025 للترويج للسياحة وجذب الاستثمار    القبض على بلوجر شهير بتهمة رسم أوشام بصورة خادشة للحياء    حملات موسعة لهيئة البترول للتصدي لمخالفات تداول وتوزيع المنتجات البترولية    مصرع طفل غرقا في ترعة باروط ببني سويف    الأمم المتحدة: أكثر من 100 طفل يموتون جوعا في غزة    تزامنًا مع ارتفاع الحرارة.. محافظ الشرقية يكلف بتوفير "مياه باردة" لعمال النظافة    وزير الصحة يبحث مع المرشحة لمنصب سفيرة مصر لدى السويد ولاتفيا التعاون الصحى    اليوم.. إعلان نتيجة انتخابات مجلس الشيوخ 2025    «تعليم كفر الشيخ» تعلن النزول بسن القبول برياض الأطفال ل3 سنوات ونصف    الجمعة.. قصور الثقافة تقيم فعاليات متنوعة للأطفال بنادي الري احتفالا بوفاء النيل    محافظ الجيزة يترأس اجتماع اللجنة التيسيرية لمشروع تطوير منطقة الكيت كات    محمد نور: مقياس النجاح في الشارع أهم من لقب «نمبر وان» | خاص    محافظ الجيزة يستقبل وكيلي مديرية التربية والتعليم بالجيزة    «العمل» تجري اختبارات للمرشحين لوظائف الأردن بمطاحن الدقيق    رسميًا.. باريس سان جيرمان يتعاقد مع مدافع بورنموث    موعد والقناة الناقلة لمباراة الزمالك والمقاولون العرب    تحرير 131 مخالفة للمحلات التى لم تلتزم بقرار مجلس الوزراء بالغلق    هل يجب قضاء الصلوات الفائتة خلال الحيض؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء 12 أغسطس 2025    أمين الفتوى: "المعاشرة بالمعروف" قيمة إسلامية جامعة تشمل كل العلاقات الإنسانية    لجان ميدانية لمتابعة منظومة العمل بالوحدات الصحية ورصد المعوقات بالإسكندرية (صور)    العظمي 38.. طقس شديد الحرارة ورطوبة مرتفعة في شمال سيناء    مواقيت الصلاة في أسوان اليوم الثلاثاء 12أغسطس 2025    أجمل عبارات تهنئة بالمولد النبوي الشريف للأهل والأصدقاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أعماله الفنية والإبداعية محملة بشجون وهموم الإنسان والوطن
عز الدين نجيب : يشغلني دائماً البحث عن الجذور وولادة الحلم من طين الأرض
نشر في أخبار الأدب يوم 17 - 03 - 2018

لا يزال شعار » عيش.. حرية ..عدالة اجتماعية»‬ يتردد قويا في قلوب الكثيرين من أبناء الشعب المصري ، فقد كانت هذه الكلمات السحرية الثلاث هي الهتاف الذي رج القلوب والحناجر أثناء ثورة 25 يناير .. ولطالما ارتبط مفهوم العيش في مصر بجوهر الحياة حيث لقمة العيش وحيث الحفاظ علي الروابط والمحبة أو بمعني آخر صون العيش والملح .. وربما لهذه الأسباب اختار الفنان عز الدين نجيب »‬العيش والحلم» عنوانا لمعرضه الذي تستضيفه قاعة الباب حاليا ويستمر حتي 24 مارس الجاري.
لكن الفنان عز الدين نجيب حين اختار لفظة »‬العيش» اختارها بالمفهوم الأشمل، لتخرج دلالتها عن لقمة العيش المجردة وتتسع لتشمل مفهوم الحياة ..فالعيش بفتح العين وتسكين الياء مشتقة من فعل »‬عاش» والتي تعني الحياة أو كما يقول الفنان أن نحياها بهمها وبهجتها ومسئوليتها ونضال الإنسان طوال حياته.
وإذا كان الشعب المصري قد ربط بين الخبز والحياة فأطلق لفظة عيش علي أرغفة الخبز، بما يحمله استخدام الخبز من دلالات ليس علي الصعيد المجتمعي فحسب ولكن علي الصعيدين الأدبي والفني، فإن الفنان عز الدين نجيب بدأ تجربته الفنية من منطلق التفكير في الخبز المرادف للقمة العيش، حيث كان العنوان المقترح في البداية هو »‬الخبز والحرية» إلا أن ذلك العنوان كان من شأنه حصر الرؤية في إطار أضيق من العيش والحلم. ولذا خصص الفنان أربعة لوحات لتصوير الخبز. وتصور رباعية الخبز عملية الخبيز بداية من غربلة القمح وصولا لخروج الخبز من الفرن، وتحمل الأعمال مدلولين الأول واقعي مباشر يتعلق بصناعة الرغيف، أما الثاني فيدل علي الكفاح والنضال الذي تقوم به المرأة المصرية وهي عمود العيش وبالتالي فهي صانعة الحياة.
ومما لا شك فيه أن هناك احتفاء واضحا بالمرأة في أعمال عز الدين نجيب علي امتداد التجربة الفنية، فهي بالنسبة له معادل لمصر يرسمها كثيرا بينما تتردد في أعماقه كلمات أحمد فؤاد نجم »‬مصر يا امّة يا بهية يام طرحة و جلابية..الزمن شاب وانتي شابة هو رايح وانتي جاية» .. فبهية هي المعادل لمصر .. وهي المرأة واهبة الحياة وهي المقاوم وهي رمز الحب والجمال .. أو ربما أحيانا تكون مستهدفة من قوي الشر.
المرأة في أعمال نجيب هي تارة المرأة الريفية التي تجلس أمام الفرن تخبز وتصنع الحياة أو ربما هي صانعة السلال أو بائعة الفخار بما تحمله كل تلك المفردات من دلالات متأصلة في المجتمع والثقافة الشعبية، وتارة هي المرأة العصرية التي تحلق في الفضاء، وتارة ترافق الحبيب وتارة تحمل وليدها وتتطلع نحو المستقبل والأمل.
والمرأة لا تظهر محلقة سعيدة في كل الأحوال فهي أيضا منكسرة وحزينة كما نجدها مثلا في لوحتي »‬هم الصبايا» و»‬صانعة الفخار» .. وقد ظهرت الآنية الفخارية أكثر من مرة في هذا المعرض ومنها لوحة »‬قمر وحليب» ، و»‬العودة من النبع» و»‬الصوامع الفارغة» حيث يقول نجيب: الآنية الفخارية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالإنسان المصري منذ قدم التاريخ ومنذ بداية وجوده في الحياة فقد صنع الآنية بالطين والنار من أجل أن يأكل فيها، والطين والنار رمزين شديدي البلاغة، والطين يذكرنا بالأرض وعلاقة الإنسان بها .كذلك فإنه بالنظر لتطور استخدام الفخار نجد أن ذلك يعكس تطورا مجتمعيا مهما، فبعد أن كانت الأواني الفخارية تستخدم في بيوت المواطن البسيط المنتج لها، انتزعت من بيئتها وأصبحت تستخدم للزينة في بيوت الأغنياء، فخرجت من بيئتها لبيئة أخري فاقدة معناها ودلالتها التي تعني الارتباط بالجذور.. لذا وضعت المرأة في لوحة »‬صانعة الفخار» وهي تجلس حاملة هما كبيرا وحولها آنيتها الفخارية التي لا تباع .
وربما يعكس توظيف الآنية الفخارية في أكثر من عمل جانب مهم جدا من جوانب شخصية الفنان عز الدين نجيب وهو اهتمامه بالحرف اليدوية، وهو ليس مجرد اهتمام عابر وإنما مقترن بمشاريع مهمة وجادة للحفاظ علي تلك الحرف، حيث يعتبر هذا المجال من أهم المجالات التي اقترنت باسم الفنان عز الدين نجيب وسعي كثيرا للنهوض بها والحفاظ عليها سواء من خلال عمله داخل وزارة الثقافة التي تقلد بها العديد من المناصب، من بينها المشرف العام علي مراكز الفنون التشكيلية بما في ذلك مركز الخزف بالفسطاط، ومديراً عاماً للإدارة العامة لمراكز الحرف التقليدية والتشكيلية، أو من خلال العديد من المبادرات الفردية التي كان الهدف منها دعم مجال الحرف اليدوية حيث كان صاحب فكرة تأسيس جمعية أصالة لرعاية الفنون التراثية المعاصرة، وكان صاحب الفضل في إصدار موسوعة الحرف التقليدية بالقاهرة التاريخية التي أصدرت عن جمعية أصالة سبعة أجزاء حتي الآن.
ولذا فإنه لا يمكن فصل تجربة عز الدين نجيب الفنان عن المناضل والمنشط الثقافي، فقد خرجت أعماله الفنية منذ البداية محملة بشجون وهموم الإنسان والوطن واتضحت في مجموعة كبيرة من المعارض كان من بينها »‬ترنيمة للصمود» (1969) ، و»‬عصفور النار» (1975)، و»‬دورة الحياة» (1976) ، و»‬حوار الأطلال» (1987)، و»‬المتاهة والملاذ» (1991)، و»‬حلم الصحراء» (1995)، و»‬تجليات الشجرة» (1998)، و»‬نداء الواحة» (1999) ، و»‬همس الحيطان» 2005، وأخيرا »‬فانتازيا الحجر».
تلك الرحلة التي تبدأ في الستينات بمعرض »‬ملحمة السد»1964 .. حيث يقول د.عز: لوحاتي عن السد في الستينيات كانت رمزا لمواجهة التصحر وشق شريان الخير .. وفي سنوات ما بعد الهزيمة 1967 استعرت أشجار الصبار العفية رمزا للمقاومة إذ تحيا بقطرات الندي، كما رسمت الخيول الجريحة في انتظار الفارس المخلص. وفي السبعينيات في أعقاب الانفتاح الاقتصادي رسمت أشجار عملاقة تتحول إلي مسوخ، وبشرا يتحولون إلي أشجار، ورسمت أطفال الشوارع عراة يواجهون قهر المجتمع بألعاب بهلوانية ويقفزون من طوق الخناجر، وفي الثمانينيات رسمت صخور سيناء تتعملق وتتأنسن فتصبح رجالا تقاوم، وفي التسعينيات رسمت أمواج البحر تلاطم صخور الشاطئ ، وعلي امتداد عشرين عاما ما بين أواسط الثمانينيات ومنتصف العقد الأول من الألفية الثالثة ظللت أرسم أطلال بيوت الواحات وسيوة متمردة علي الفناء ومستعيدة أنفاس أصحابها الراحلين فأصبحت معادلا لما تعرضت له مصر من خراب وأصبح للحيطان الصماء همس كأيقونة وبشارة للبعث.
وعن معرض »‬العيش والحلم» يقول نجيب : ككل معارضي السابقة ، يشغلني البحث عن الجذور وولادة الحلم من طين الأرض ورمل الصحراء وهمس الحيطان، فأري الأمل من بين طيات الظلمة وغلظة الواقع، وأحلق بأجنحة الحب والحرية، كما يشهد هذا المعرض عودة الإنسان بملامحه الطبيعية، بعد أن كنت في معارضي الأخيرة أستعيض عنها باستشعار أنفاس هذا الإنسان وهمساته عبر الصخور والجدران، فقد شعرت بحنين قوي إلي أن تلمس فرشاتي هذه الملامح الإنسانية، وإلي استدعاء صور واقعية عايشتها في الماضي، فأستعيد معها رحيق العيش في أماكن منسية في القري والواحات والصحاري .. وكم بحثت فيها سابقاً عن عبقرية المكان .
ويضيف نجيب : اليوم أحاول فتح الصناديق المتوارية لحياة الناس، بكفاحهم من أجل العيش، وبأحلامهم الصغيرة والكبيرة وبخوفهم من المجهول، فأراهم بعين الحلم والخيال وبثقافتهم الممتدة ورموزهم السحرية، وأُحلق معهم نحو واقعية بلا ضفاف، لا تتخلي عن مسايرة الحداثة والتقدم، فهاتان الكلمتان (الحداثة والتقدم) تحملان قيماً إنسانية، تتجاوز الأشكال والأساليب إلي جوهر المعاني الكبري حول الإنسان والعصر، وبدون هذا التفاعل تظل الحداثة مجرد أشكال فارغة معزولة عن الناس، منقطعة عن الواقع والحياة» ويعلق د.خالد سرور علي معرض »‬العيش والحلم » قائلا: لا يُمكن أن تُخطئ العين هوية الفنان أمام أعماله .. مصري لا مجال للتساؤل .. هذا هو الأستاذ عزالدين نجيب .. مشواره جزء لا يتجزء عن شخصيته الأصيلة الوطنية .. مشوار حافل بالفن والكتابة .. أسهم خلاله بتقديم العديد من الاسهامات للحركة الثقافية المصرية والعربية .. للوحاته رونق خاص .. سطوح تعبيرية تشخيصية تيماتها الهوية وشخوصها رجال وسيدات وأبناء وبنات جميعهم مصريون تحتضنهم بيئة وظفها الفنان بوعي وفهم للثقافة الشعبية المصرية .. عالم مهموم بحياتهم وقضاياهم وأحلامهم ومعاناتهم ..
والملاحظ أن أعمال المعرض - وهو المعرض الأول الذي يقيمه بعد المعرض الاستيعادي الذي استضافته قاعات أتيليه القاهرة عام 2015 احتفالا بالعيد الماسي أو ببلوغه الخامسة والسبعين تحت عنوان »‬أشجان ووعود» - تعكس تلك الجدلية المستمرة التي تعيش داخل وجدان هذا الفنان المناضل .. بين قهر الحياة وصعوبتها والشعور باليأس والاحباط ومقاومة الظروف المحيطة في رحلة كانت مليئة بالأشواك كان من بينها دخوله السجون والمعتقلات أكثر من مرة في قضايا فكرية تلك التجربة التي قدمها في عدة كتب منها »‬مواسم السجن والأزهار» ، و»‬المثقف والسلطة 97» ، وكتابه »‬رسوم الزنزانة 20» عن الهيئة العامة لقصور الثقافة .. وبين الأمل والتفاؤل والطموح والحلم بغد أفضل.
إنها الحالة التي كتب عنها حامد ندا في 1983 قائلا »‬عالم عز الدين نجيب هائم في دروب القلق فأحاسيسه تمتلئ نبضا وحياته ظاهرها ناعم طري، وباطنها صلب خشن ... مضيفا أن واقع العالم الذي يعيش فيه عز الدين نجيب ليس واقعا مألوفا كما يظهر للمشاهد العادي وإنما هو لغة الاستعارة عن حقيقة سيكولوجية مؤكدة تنفجر في جو من الضغط العاطفي الاجتماعي . إنه سلوك جماعي ووجدانية فردية.
ولذا فإن أعمال معرض »‬العيش والحلم» تنوعت بين مشاهد الحياة بصعوبتها وبين الأمل كما هو الحال في وجدان الفنان فخرجت بين »‬انطلاق» و»‬حلم الوليد» الذي يحبو بجوار أمه متطلعا للجواد الأبيض البعيد ، و»‬اكتشاف عالم جديد» حيث يخطو الطفل خطواته الأولي عاريا وصاعدا إلي أعلي .. وقد استخدم عز الدين نجيب الطفل ليصبح أيقونة هذا الحلم، لا سيما الطفل الوليد الذي أضحي رمزا للخير والبشارة بالأمل القادم.
كما تضمنت اللوحات لوحة »‬الطير المسافر» الذي تتطلع فيه الفتاة إلي الطير الأبيض في الأفق بينما يطير الهواء شعرها لينقل لنا شعورا بالحرية والحياة والأمل، وكذلك »‬طيف فوق الدرب» الذي تحلق فيه المرأة بثوبها الأبيض فوق البيوت.
أما الجانب المظلم الملئ بالإحباط فقد ظهر في عدة لوحات أخري من بينها »‬هم الصبايا» وغيرها من اللوحات التي تحدثنا عنها وعلي رأسها »‬أحفاد سيزيف» مذكرة إيانا بأسطورة سيزيف الذي كتب عليه القدر الشقاء طوال حياته، وقد قدم نجيب في لوحته اثنين من العمال المصريين البسطاء بملابسهم وعمامتهم يحملون أحجارا ضخمة ، حيث يظل المواطن البسيط في دائرة القسوة والبحث عن لقمة العيش بدون وقف للشقاء منذ فجر التاريخ.
وقد رمز نجيب لحياة الإنسان المصري بأكثر من مفردة ومن بينها رغيف الخبز والآنية الفخارية وكذلك قدرة الفول .. ففي لوحة »‬وجبة الإفطار» يستخدم قدرة الفول رمزا للفقراء فلا تخلو مائدة المصريين منه .. ولهذه اللوحة حكاية طريفة يرويها نجيب قائلا: رسمت هذه اللوحة في معالجة مختلفة سنة 76 واختفت مع تعرض مرسمي في المسافر خانة للنهب والتدمير آنذاك، وإذا بي افاجئ منذ بضعة شهور قليلة بأحد تجار اللوحات يعرض علي شرائها بمبلغ ضخم، ورغم سخرية الموقف إلا أنني ممتن له جدا أن أرسل لي صورة العمل ليذكرني بها وأقدمها في صياغة مختلفة بعد مرور كل تلك الأعوام.
ربما تخلو لوحات قليلة ومنها لوحة »‬وجبة الإفطار» من العنصر الإنساني، إلا أن العنصر البشري يحتل بطولة الغالبية العظمي من أعمال معرض »‬العيش والحلم»، يقول عز الدين نجيب عن ذلك: في هذا المعرض يعود الإنسان بملامحه المادية إلي أغلب اللوحات، بعد أن غابت عن معارضي السابقة – إلا قليلاً – حتي الثمانينيات، كنت خلالها أستعيض عن هذه الملامح باستشعار أنفاس هذا الإنسان وهمساته بين الصخور والجدران.. أشعر اليوم بحنين قوي إلي أن تلمس فرشاتي هذه الملامح الانسانية، وإلي استدعاء صور واقعية عايشتها في الماضي البعيد، فأستعيد معها رحيق العيش في أماكن منسية في القري والواحات والصحاري طالما بحثت فيها عن عبقرية المكان.. اليوم أحاول فتح الصناديق المطوية لحياة الناس بهموم عيشهم وأحلامهم الصغيرة، فأراهم بعين الحلم والخيال، عبر ثقافتهم الممتدة ورموزهم السحرية، وأحلّق معهم نحو واقعية بلا ضفاف، بعيداً عن صفة الرجعية وعدم مسايرة الحداثة والتقدم، فهاتان الكلمتان تحملان قيما إنسانية تتجاوز الأشكال والأساليب إلي جوهر المعاني الكلية في تعاملها مع الإنسان والعصر، وبدون هذا التفاعل تظل أشكالا جوفاء معزولة عن الناس منقطعة عن الواقع والحياة، إلا من خلال المتاحف وقاعات النخبة وبطون الكتب.
لكن الاحتفاء بالحياة في أعمال نجيب لا يتوقف عند الإنسان فتجربته الفنية أنشودة في محبة الحياة وتسجيل نبضها، فقد احتفي بالطبيعة وبالكائنات الحية التي كثيرا ما خرجت لتتضفر مع الإنسان أو ترافقه كما هو الحال في كثير من أعمال هذا المعرض وربما كان الجواد واحدا من المفردات المتكررة في أعماله ، فهو رمز النبل والفروسية والشهامة، وكثيرا ما يرتبط بنهضة الوطن، ففي أعقاب نكسة 67 قدم الفنان لوحة سقط فيها الفارس وانكسر ولكن الحصان ينهض وكأنه بذلك يشد الفارس ويستنهضه، كذلك فإن الحصان ظهر في لوحة »‬فرس السندباد» التي قدمها نجيب في معرضه الحالي رفيقا للحبيبين ووسيلتهم للخروج والانطلاق بديلا عن بساط الريح ..
وعلي الصعيد الآخر وظف الفنان عز الدين نجيب الطائر رمزا مرادفا للحرية والانطلاق، حتي أن المرأة أحيانا تكون هي الطائر المحلق لرغبتها في تجاوز الواقع ، فليس هناك حواجز في الفضاء »‬الطير المسافر» تتطلع الفتاة إلي الطير الأبيض فاردا جناحيه، حيث يقول الفنان : كانت اللوحة في البجاية تصور سربا من الطيور، ولكن في المعالجة النهائية اختزلت السرب في طائر واحد لأن السرب سيظل سربا لكن الطائر الواحد سيتحول قرينا للفتاة.
وبخلاف الطير والجواد تنوعت الكائنات التي ظهرت في أعمال نجيب ،ففي اللوحة التي تصدرت غلاف كتالوج المعرض »‬قمر وحليب» ظهر التمساح جليا في خلفية اللوحة، يقول الفنان : تحتل المرأة بطولة هذا العمل وهي رمز الخير وصاحبة الدار تحمل بكرمها وعاء اللبن للضيوف بينما تحمل القمر بيدها الأخري، وفي الخلفية يظهر البيت النوبي بزخارفه الممتدة أما التمساح فمن المعروف أنهم كانوا بالفعل يضعون تمساحا محنطا علي الأبواب قديما، والتمساح رمز ممتد من المصري القديم ، فقد كان المصري يلجأ للسيطرة علي رموز الشر بتقديسها .. والتمساح هو رمز للغدر.
إن رحلة الفنان عز الدين نجيب رحلة ثرية .. سمتها الأساسية هي الصدق، لذا يمكن التعرف علي ملامح رحلته الفنية والإنسانية من خلال كل تجربة يقدمها سواء كانت معرضا تشكيليا أو كتابا نقديا أو مجموعة قصصية ، حيث يأتي هذا المعرض بعد فترة وجيزة من صدور كتاب »‬عز الدين نجيب » الصادر في ما يقرب من 320 صفحة من القطع الكبيرة، عن جاليري ضي الذي أسسه ويديره هشام قنديل ، وبدعم من الشيخ طلال الزاهد الذي يكن تقديرا خاصا للفنان عز الدين نجيب.
خرج الكتاب في طبعة فاخرة وتضمن عددا كبيرا من اللوحات التي أنتجها عز الدين نجيب في مشواره الفني بما في ذلك الأبيض والأسود ورسوم الزنزانة.
وقد كتب هشام قنديل في تقديمه للكتاب: لقد أبدع عز الدين نجيب في تكوين مساحة ، بل ساحة فنية كبري لها لوحاتها، وقصائدها .. خيال مبدع وروح فياضة بثراء الأركان والأشكال علي حدة.
ويتضمن الكتاب عددا من المقالات النقدية التي تتناول رحلته الفنية بأقلام كبار الفنانين والنقاد من بينهم علي سبيل المثال لا الحصر محمود بقشيش ، وفاطمة علي، وحسين بيكار، ومختار العطار،وصلاح بيصار ومصطفي عبد العاطي وأبو بكر النواوي وكذلك محمود أمين العالم وجمال الغيطاني مع حفظ الألقاب.
ولعل واحد من تلك النصوص التي توقفت عندها كثيرا مجموعة الرسائل التي كتبها د. رضا شحاته أبو المجد لعز الدين نجيب ، والتي قيل عنها في الكتاب: كانت هذه الرسائل عبارة عن نصوص نشرها علي الفيس بوك في يناير 2001 وهو مقيم بالكويت لسنوات طويلة معارا للتدريس بكلية التربية الفنية ، دون أن يكون هناك أي اتصال بينه وبين الفنان عز الدين نجيب أو حتي إبلاغه بنشرها ، ولم يعلم بذلك إلا مصادفة بعد عدة سنوات وكأن كاتبها لم يهدف لشيء إلا للإفصاح عن مكنون ذاته لا غير.
تضمن الكتاب عشر رسائل، الرسالة الأولي : عز الدين نجيب الإنسان ، الرسالة الثانية: شهادة حية عن عز الدين نجيب، الإنسان ، الرسالة الثالثة : عز الدين نجيب كواحد من جيل الستينات، الرسالة الرابعة: الكتابة كفعل مقاومة عند عز الدين نجيب، الرسالة الخامسة: الناقد الكاتب عز الدين نجيب، الرسالة السادسة: روح الصحراء في لوحات عز الدين نجيب، الرسالة السابعة: البيت أو الكون الصغير في لوحات عز الدين نجيب، الرسالة الثامنة: المكان .. الخيال.. الذاكرة في عز الدين نجيب، الرسالة التاسعة: التشكيل بالنور في لوحات عز الدين نجيب، والرسالة العاشرة: الصمت وأصدقاء المكان في لوحات عز الدين نجيب.
يعلق د. رضا شحاتة عن تلك الرسائل قائلا: إنني أكتب عن تجربة شديدة الثراء وعن انسياب مفعم بالوطنية والحرية..أكتب عن رحلة عبور عز الدين نجيب للصحراء، هذا الرجل الحي الذي ترك أثناء العبور ما يستوجب التذكار.. ثم يقول في موضع آخر أكتب عنه لأنه ناقد هام هو الأكثر أصالة والأكثر جسارة والأكثر تفردا.
ربما يميز هذا الكتاب بخلاف تلك اللوحات الرائعة التي تضمنها ، تعريف القارئ بعز الدين نجيب علي كل المستويات ليس بوصفه فنانا فحسب ولكن بوصفه كاتبا للقصة وناقدا تشكيليا ومحركا ثقافيا وباحثا في التراث. كما يضم الكتاب سيرة ذاتية مرتبة زمنيا منذ ولادته في 30 إبريل عام 1940، والتحاقه بكلية الفنون الجميلة عام 1958 ، وهو نفس العام الذي بدأ فيه نشر أولي قصصه في جريدة المساء ثم التحاقه بمراسم الأقصر عام 1962 والتي تعرف من خلالها علي جذور الحضارة المصرية ، وعمله بقصر ثقافة الأنفوشي بالأسكندرية عام 963 ، ورحلته مع قصور الثقافة حيث أسس قصر الثقافة في كفر الشيخ وعين مديرا له ، كما عين مديرا لقصر المسافر خانة ومراسم الفنانين بحي الجمالية في عام 1968 ، وفي عام 1980 أسس مركز الجرافيك بوكالة الغوري ، وفي 1992 أسس مجمع الفنون بمدينة 15 مايو وعين مديرا له ، وعام 1995 انتخب رئيسا لمجلس إدارة أتيليه القاهرة ، كما كان قد أسس في عام 1992 الإدارة العامة لمراكز الحرف التقليدية والتشكيلية بوزارة الثقافة وعام 2000 صدر قرار وزير الثقافة بتعيينه رئيسا للإدارة المركزية لمراكز الانتاج الفني قبل إحالته للمعاش.
وككاتبا للقصة يذكر الكتاب أن نجيب بدأ في نشر إنتاجه القصصي بالصحف منذ عام 1958 ، وشارك في عام 1960 في المجموعة القصصية »‬عيش وملح» مع خمسة من الأدباء الشبان ، وفي عام 1962 فاز بثلاث جوائز في القصة من المجلس الأعلي للفنون والآداب في مسابقة الأدباء الشبان ، وقد صدرت له أربع مجموعات قصصية »‬أيام العز» 1962 ، و»‬المثلث الفيروزي» عن الهيئة العامة للكتاب عام 1986 وكتب لها المقدمة يحي حقي، و »‬أغنية الدمية» عام 1975 ، و »‬نقطة صغيرة قرب السماء» عام 2016، كما صدرت له رواية »‬نداء الواحة» له عام 2016 .
أما كفنان تشكيلي فقد أقام 31 معرضا خاصا (1964 – 2015) بخلاف مشاركته في عشرات المعارض الجماعية والمعارض الخارجية في مختلف دول العالم. وبوصفه ناقدا تشكيليا أثري المكتبة العربية بالعديد من الكتب منها علي سبيل المثال لا الحصر : أنشودة الحجر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 1999. وفنانون وشهداء عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان(2000)، والإبداع والثورة – الفنان حامد عويس عن الهيئة العامة لقصور الثقافة( 2002) ، وفنان وعصر الفنان محمود بقشيش عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2007. وموسوعة الفنون التشكيلية (3 أجزاء) دار نهضة مصر، 2008. والنار والرماد في الحركة التشكيلية المصرية الصادر »‬عن المجلس الأعلي للثقافة، 2010. و »‬جميل شفيق.. بين الحلم والأسطورة» عن الهيئة العامة للكتاب، 2016.. وغيرها .. كما رأس تحرير سلسة في الفترة من 2013 - 2014، أسس سلسلة كتب ذاكرة الفن بالهيئة العامة للكتاب . وقد حصل نجيب علي جائزة الدولة التقديرية في الفنون – المجلس الأعلي للثقافة، 2014.
ولم أجد هناك خيراً من هذه القصيدة التي كتبها عز الدين نجيب عام 1992 لاختتم بها تلك الرحلة القصيرة في مشواره الثري المفعم بالتجربة والحياة والتي قال فيها:
في بحار العواصف أري اللوحة قاربي
أبحث عن منابع البراءة وشواطئ اليقين
لكنه بدلا من أن يحملني إليها يدفعني إلي قلب العاصفة
أتماسك أحيانا .. مستوحيا الرسوخ من الموروث .. ولو كان أطلالا وما أسرع ماتأخذني العاصفة
أو التمرد إلي الشواطئ الصخرية أتلاطم بقاربي بين أمواجها وصخورها
من موت إلي موت
هأنذا
بين سكون يسبق العاصفة مبهور أن بدبيبها الزاحف
وسكون يعقبها مترع بالموت والأسئلة
أقف عاريا مولودا جديدا مع كل لوحة تؤكد
أرأيتم ماذا أعطاني الفن ؟
أعطاني أعياد ميلاد ضد الموت
أعياد ميلاد بعدد اللوحات التي رسمتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.