مامن شك أن الدول التى تحترم قوانينها ومواطنيها تحقق التقدم لصالح شعوبها وتحقيق الرخاء والرفاهية لهم ..ولا ريب أيضا أن الأجهزة الرقابية والمباحثية والأمنية فى الدول المتقدمة تدرك دورها جيدا فى المنظومة العامة للدولة .. لكن الحال فى مصر يبدو مختلفا كثيرا .. فيفهم المسئولون هذا النوع من الأعمال أو السلطات على أنه تمييز خاص بهم يجعلهم فوق العباد.. أمن الدولة .. هذا الجهاز المرعب الذى أزعج المصريين وسرق النوم من عيونهم ..وجعل حياتهم جحيما لايطاق من أجل عيون النظام .. كل النظام .. ساسة ورجال أعمال .. حتى رجاله من المخبرين كانوا يمدون أيديهم الى ضعاف الناس من صغار الموظفين يبتزونهم مقابل منحهم الأمان والقوة والسطوة .. وبالتالى تستغل هذه النوعية من البشر هذه القوة المشتراة والسطوة الممنوحة فى فرض إملاءاتهم على من حولهم .. فتحول بعض الناس فى المجتمع الى وحوش تلتهم الناس .. كان جهازا يهدم ولا يبنى .. يهدد ولا يحمى ..لى معه بعض الذكريات المزعجة التى كانت تملؤنى بالغضب ولا أستطيع إتخاذ موقف فى مواجهتها.. ليس خوفا منهم .. وإنما تقديرا لظروف هذه المواقف .. لكن كيف عرفت هؤلاء الناس ؟ .. كان لى صديق من قريتى جمعتنى به زمالة الطفولة .. ومشتركات الإبداع فى بدايات الدراسة.. إلتحق هو بكلية الشرطة يوم أن كان القبول بها لايخضع لما خضعت له فى الأربعين عاما الماضية من الرشوة والمحسوبية .. بعد أن وصل الى رتبة نقيب فى ميرية أمن الوادى الجديد تم نقله إلى جهاز أمن الدولة بالمنصورة ؟.. وبالطبع كانت مفاجأة لى بعد إنتهاء خدمتى بالقوات المسلحة .. أن أجد صديقى الأثير فى نفس المدينة التى أعيش فيها حيث كنا نلتقى فى نهاية اليوم لقضاء بعض الوقت فى نادى الشرطة .. وبالطبع تعددت زيارتى له فى هذا المقر .. كان صديقى هذا شاعرا جيدا .. لكنه ولظروف وطبيعة العمل لم يواصل الكتابة فى مجال الشعر حيث بدأ الإبداع مبكرا ونحن طلبة صغار.. وأخذته أعمال وظيفته الشرطية وأوقفته عن الإستمرار بينما كان يحفزنى على مواصلة كتابة القصة .. إلا أننى حفزته بعد ذلك حتى أصبح له مشروعا شعريا خاصا به لم يمهله القدر لإستكماله.. وعلى سبيل المثال كتب قصة سيدنا يوسف فى قصيدة واحدة متباينة البحور والقوافى .. وأصدرها فى ديوان بعنوان (يوسف الصديق) وكتب مقدمته وناقشه فى نادى الأدب قصر ثقافة المنصورة الأستاذ الكتور محمد رجب البيومى عميد كلية اللغة العربية فى هذا الوقت أمد الله فى عمره .. ثم أصدر ديوانه الثانى بعنوان (إبراهيم الخليل) وتناول فيه بالطبع قصة خليل الله إبراهيم عليه السلام.. ثم كتب قصة سيدنا موسى عليه السلام أيضا واقتربت أبياتها من الألف بيت الى أن حال المرض بينه وبين إكمالها وكان على وشك الإنتهاء وقرأها على بيتا بيتا يوم أن كان مفتشا لمباحث أمن الدولة بمحافظة المنوفية .. فى هذه الظروف التى لم تمكنه من إستكمال الموضوع إقترحت عليه جمع قصائده المتناثرة فى بعض المجلات العربية والتى لم تنش وإصدارها فى ديوان بعنوان (همسات قلب) .. وكتب مقدمته الشاعر الكبير عصام الغزالى .. هذا هو صديقى الشاعر اللواء المرحوم أحمد نور الدين والذى تضمنت أسمه موسوعة البابطين .. كان هذا فى منتصف السبعينيات عندما انضم إلى هذا الجهاز الذى لم يكن يتفق وتركيبته الانسانية التى أعرفها عنه جيدا .. كنت فى هذا الوقت عائد من القوات المسلحة - كما قلت – بعد إنتهاء الحرب.. وأريد التعرف على المبدعين فى مدينة المنصورة .. فتعرفت على فؤاد حجازى الذى كان التعرف عليه فى هذا الوقت شبهة قد تأخذك الى الإعتقال السريع ووصمة سياسية بلغة أهل النظام والسلطة فى هذا الوقت .. تعرفت أيضا على الشاعر زكى عمر والشاعر محمد يوسف رحمهما الله وإبراهيم رضوان وعبد العزيز الشناوى والحماقى المنشاوى وشوقى وافى ومحمد محمود عبد العال وغيرهم من الكتاب والشعراء .. لكن المفاجأة عندما ذهبت الى الكاتب عبد الرحمن عبد الفتاح الجمل فى مكتبه بالسكة الحديد للتعرف عليه لاول مرة .. وبينما أمد له يدى ناطقا إسمى فوجئت به يباغتنى بسؤال كما السكين على رقبتى قائلا : ( إنت علاقتك إيه بأمن الدولة ؟ ).. شعرت لحظتها بالدوار والحرج .. وأن الأرض تميد تحت قدمى .. ولم أستطع أن أتحدث غير أنى استدرت شاكرا دون ان أنبس بحرف واحد .. ومشيت أحدث نفسى .. و أدركت أنى وقعت فى فخ بسبب هذه العلاقة التى لايمكن أن أقطعها بدون سبب منطقى .. هو صديق طفولتى وهذه طبيعة عمله .. وأنا أعرفه كما أعرف نفسى تماما .. لكن هذا الجهاز فى هذا الوقت كان يمثل أداة القمع للكتاب والمفكرين والمثقفين والأدباء خاصة أولئك الذين تلتصق بهم تهمة الشيوعية أو الإنتماء للماركسية أو كلمة اليساريين .. وبعضهم كان من الذين يتم إعتقالهم احترازيا كلما حدث أمر يقض راحة النظام .. وكان النظام قد بدأ يضيق بالمثقفين والكتاب وحواراتهم ومناقشاتهم وإعلان أسباب رفضهم لإتفاقية كامب ديفيد والتعبير عن ظروف الناس والأوضاع الأقتصادية المتردية للشعب و إنتظار عام الرخاء الذى كان يحلم به الرئيس السادات ولم يأت حتى تم إغتياله.. ولم يأت حتى الآن أيضا فى عهد مبارك .. ويبدو أنه ضل الطريق حتى الآن .. مما جعل الشعب يثور ثورته الطاغية بحثا عن هذا التائه وذات يوم وأنا أجلس فى مكتب صديقى الشاعر طلبه مفتش الفرع ..وفوجئت بأحد الضباط الذين كنت قد تعرفت عليه من خلاله يدخل مسلما ويجلس متبسطا وبدأنا حديثا عاديا عن الصحة والاحوال .. وأثناء الحديث فوجئت به يسألنى عن الكاتب فؤاد حجازى.. أصابنى هلع مفاجئ .. لكنى كما يقولون -عملت عبيط- وقلت له : كويس .. لكنه بدأ يسألنى أسئلة أدركت أنها (مباحثية عن فؤاد حجازى ) فلم أحتمل .. نهضت واقفا وقلت له فى غضب مهذب : أنت أخطأت الطريق يافلان بيه .. ولو كنت تظن بحكم زيارتى لفلان أنك تستطيع أن تأخذ منى حرفا واحدا عنه أو عن غيره تكون قد ضللت الطريق تماما .. حاول أن يدعى عدم القصد .. لكنى إستأذنته وتركته وخرجت غاضبا مما حدث .. ومكثت عدة شهور لاأزور صديقى فى هذا المكان الابعد أن قابلنى هذا الضابط فى إحدى المناسبات واعتذر لى وصالحنى .. وبعد ذلك لم يستطع أن يوجه لى سؤالا فى أى وقت أو لقاء .. تمر السنوات وتشتد المعركة بين أمن الدولة والجماعات الاسلامية .. ويتم إتهام صديقى فى قضية التعذيب الشهيرة ومعه عدد من الضباط .. وبعد أن برأتهم المحكمة .. سألته أن يذكر لى حقيقة ما سمعته حول هذا الموضوع معتبرا أن الدولة قد تكون تدخلت فى صنع هذه البراءة .. وهددته بحكم ما بينى وبينه بقطع علاقتى به إذا لم يؤكد لى حقيقة الأمر أو أن يكون قد شارك فى تعذيب من رفعوا دعوى التعذيب أو غيرهم فنفى ذلك نفيا قاطعا و أكد لى أنه لا علاقة له بمثل هذه الأمور وانى أعرف ديدنه .. و لكنى قلت له أن هذا النفى المجرد والمرسل لا يكفينى طالبا منه أن يقسم بالله ثلاثا أمامى على مايقول – ورغم دهشته- من طلبى أقسم بالله ثلاثا أنه لم يفعل ولن يفعل هذا طول عمره .. وتصادف بعد سنوات طويلة أن تعرفت على أستاذ كبير فى كلية الطب جامعة المنصورة وهو الأستاذ الدكتور عبد الجواد شعيشع رحمه الله أيضا فأكد لى وشهد شهادة أقسم هو عليها أنه كان عندما يقبض عليه ومعه أستاذ آخر فى نفس كلية الطب أمد الله فى عمره أنه كان يعاملهما معاملة حسنة ويتناقش معهما بمنتهى الأدب والإحترام ولم يصدر منه لهما ما يؤلمهما أو يضايقهما نفسيا أو جسديا . .............. موقف آخرعندما فكرت فى إصدار صحيفة تحقق و تخدم اهداف وأغراض جمعية رعاية المرضى غير القادرين لمركز ومدينة المنزلة والتى أشرف برئاستها.. ونجح مجلس إدارتها فى إنشاء مستشفى تابع للجمعية باسم ( أهل الخير) .. والصحيفة تحمل نفس الاسم .. وقد خاطبت المجلس الأعلى للصحافة من أجل إصدار الترخيص الخاص بالصحيفة .. وكان مقررا أن يرأس تحريرها الكاتب الصحفى الكبير والمرشح الآن لرئاسة الجمهورية الأستاذ أحمد عبد الهادى والذى كان يرغب مساعدة الجمعية فى تنفيذ أغراضها لرعاية المرضى غير القادرين .. وتمت أكثر من مخاطبة بين الجمعية والمجلس الأعلى للصحافة .. فى هذه الأثناء فوجئت بأمن الدولة بمدينة المنزلة يستدعوننى عن طريق نفس المخبر والذى أتُهم بالرشوة بعد ذلك ويبدأ السيد مدير المكتب إستجوابى بطريقة أشعرتنى بالضيق والغيظ والاستفزاز عن هذه الصحيفة وأسباب إصدارها ؟ وماذا سنفعل بها ؟ وما هى الموضوعات التى سنكتبها فيها ؟ وأماكن توزيعها ؟ ومن هم الكتاب ومن رئيس التحرير ؟ ورئيس مجلس الادارة ؟؟؟؟ وأسئلة أخرى شعرت أنها سخيفة وغير بريئة وأنها تعيد المجتمع الى الوراء.. وبعد الإنتهاء خرجت من المكتب مستعيذا بالله من الشيطان الرجيم بعد ساعتين من الإستجواب المقيت وقد أيقنت أنها لن تصدر .. وصدق حدسى بعدها عندما فوجئت فى أحد إجتماعات مجلس الإدارة أن بعض الأعضاء يطلبون طرح الموضوع مرة ثانية على الجلسة تحت بند ما يستجد من أعمال .. ودار نقاش طويل إضطرنى لإعادة طرح قرار الإصدارعلى المجلس والتصويت عليه .. وكانت المباغتة أن فرق التصويت بين الذين صوتوا لصالح إصدارها وبين الرافضين هو صوت واحد فاحترمت قرار الأغلبية .. وأقسمت أننى لن أعيد التفكير فى إصدارها مرة ثانية .. ولما راجعوا أنفسهم بعدها بعام تقريبا وحاولوا إقناعى بإعادة الإصدار كنت قد فقدت الحماس للتنفيذ ولم أستطع نقض القسم . ............. ومنذ عامين تقريبا فوجئت بنفس المخبر يزورنى فى الجمعية ويطلب منى على لسان المدير الجديد للمكتب أن أفصل عضوين من الجمعية العمومية حدد لى اسمهما .. سألته عن السبب: ولماذا أفصلهما ؟! .. أجابنى السيد المخبرأنه لايعرف.. مضيفا أن هذه هى التعليمات .. قلت له أبلغ السيد مدير المكتب أننى لاأستطيع فعل ذك لأن أحدا من العضوين لم يقترف ما يجعلنى أفصلهما .. لكنى كنت أعرف السبب.. فالعضوان ينتميان الى جماعة الإ‘خوان المسلمين أحدهما صيدلى وهو الدكتور كامل النجار والثانى مدرس لغة انجليزية .. ولهما نشاط ملحوظ داخل صفوف الجماعة .. لكنى فوجئت فى اليوم التالى بمدير المكتب يتصل بى وكنت قد تعرفت عليه قبل ذلك فى مناسبة من المناسبات التى تتعلق بشئون الجمعية ويطلب منى ويصر على فصلهما .. ودار حوار طويل بينى وبينه عن أن هذا الفصل ليس له ما يبرره سيكون فصلا تعسفيا ودون سبب .. وأنهما سوف يلجآن للقضاء وسيحكم القضاء لهما.. وكلام كثير أدركت من سياقه أنه مُصر على فصلهما مؤكدا لى على أنهما لو رفعا دعوى أمام القضاء فالقضاء سيحكم بما نريد .. ولم يكن أمامى غير عرض الأمر على مجلس الإدارة خاصة وأنه أنهى حواره معى بجملة (ان كان لديكم حرص على استمرار الجمعية فعليكم بتنفيذ الفصل) .. ولم يكن أمامى أيضا غير أن أعرض الموضوع على العضوين.. وكانت المفاجأة أنهما قبلا تنفيذ قرار الفصل حرصا على استمرار الجمعية لأداء دورها فى خدمة المرضى غير القادرين خاصة وأنها جمعية لايستفيد منها أعضاؤها أى نوع من الخدمات الشخصية.. لكن المدهش فى هذا الموضوع أن هذا الضابط تعرض بعد ذلك لقضية رشوة جعلت كل الألسنة تلوكها.. وبعدها بشهور أيضا تعرض لحادث سيارة خلف له مشاكل جسدية كثيرة عافانا الله وإياكم من كل شر وسوء .. وأيقنت الأية الكريمة .. (( إن ربك لا بالمرصاد )) .. أردت من عرض هذه الإستدعاءات الماضاوية القول والتذكير أن الباطل له نهاية .. وأن الله يُملى للظالمين حتى إذا أخذهم لم يفلتهم بظلمهم وجورهم .. وأن الليل لابد وأن يعقبه النهار.. وأن لكل ظالم وجبار نهاية .. وقد كانت نهاية هذا الجهاز صاحب السمعة السيئة والتاريخ الأسود و الذى حشد كل وسائل القسوة والتعذيب ليلهب ويرعب بها ظهور المسالمين من المواطنين المساكين الشرفاء الذين رفضوا ظلمهم للناس وأن على كل الأجهزة القادمة والجديدة والوزراء ورئيس الجمهورية القادم أن يأخذ الدرس والعظة مما حدث للنظام السابق وأن يرعو الله فى مواطنيهم وشعبهم .. ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم ..!