انقطع التيار فجأة، فأسدل الليل ستائره، وراح الصمتُ يغرس نابه منقضاً على ضجيجٍ أبكم، تقوقع الجميعُ مكانه ساكناً لا تسمعُ إلا همساً، بكاء الصغار يقطعُ أنينَ السكون، وصوتُ ارتطام كرسيٍّ بصاحبه يأتيك من طرفٍ خفي، واجتمع محاقُ الشهر وبرده مع غضبِ عواصفَ، ورابعهم قيلولة التيار،تحولتْ القرية إلى أشباح وآذان صاغية، هدأ صوت الطفل رويداً على ثدي أم التقطه جزعاً لا جوعاً، أو فناء شمعة تطعمنا نورها ليذوبَ داخلنا مانحاً أماناً ودفئا نلتمسه. أهاج الظلام في النفوس نوماً غير مأمول، وحرك في آخرين يقظة أفئدة ناسكة، أو شهواتٍ مسعورة مكبوتة، والتمستُ مذياعي القديم تريد أركانه أن تنقض، يقيم أوده أستيك فقد صفته حتى لا تخرج أحشاؤه، ورحتُ أستجديه عله يسامرني ظلام ليّلي، أدرته برفق، أخرسه الليل وأصمه البرد، هززته بلين كي ينفضَ ما علاه من قسوة الهجر، أبى نطقاً كمن يعاقبُ حين مقدرة، رحتُ أتحسس بطاريته بغيظٍ، فصرختْ وتقيأتْ بصدأ وصديد في جوفها ... وفاض ليعدي جيرانها، انقطعت أمعاءُ الرجاء لديَّ في صديق أصارع معه أبابيل الليل العاصفة، تأففت وحدتي، بحثتُ مرغماً عن سِنةٍ أو نومٍ، تهتُ في أغطية تشبه كفن ميتٍ في إحكامها، واتخذتُ رجاء النوم وسادة علَّ الجفنَ يثقله نوماً، أو ينقضُّ عليه حلمٌ ضلَّ صاحبه، لكن صوت الريح يعلو ويعبث بحباتِ رمالٍ يتيمةٍ تطرق نافذتي، تبحثُ عن ملاذٍ آمن، وأنى لي أن أرقَّ بحالها؟ الأشجار تنتحب وتصك وجهها تلتمسُ هدوء عاصفة، رب المطر في أردافها، مناشر الغسيل تكاد تنفك من عقالها، تاركة بناتها تذروها الرياح، هدها معانقة العاصفة رغبة ورهبة، تتأوه تصرخ، تنادي على خلانها أن تجلدي واصبري. أحكمتُ الغطاء ليسكتَ النباحُ داخلي، تناومت، ثقلت الأجفان رويدا، وأرختْ رموشها لتعلنَ استسلاماً لباقة نوم تغازلها، ولكن سرعان ما عاد النوم أدراجه مولياً، لتسمع عيني أنين قطةٍ بالباب، إنها جارتي .. تشاركني السطح، أعرف نغمها من بين كل القطط، انتظرتُ ليغادرني صوتها، لكن لم ينقطع المواء، تريد أن توقظ البابَ النائم، تعضُّ عليه بأنيابها، لابد أن صقيعَ الليل أتى عليها، أو رُبَّ سنورٍ أهوج يتحرش على غير رغبة منها، أو أنها تخشى أبا صغارها، اشتد المواء، تحاول إمساك المقبض بأسنانها، انتبه الآخر الذي بداخلي، علا صوته يعاتبني ويعنف، أتدعي السمو والرحمة؟ فهاهي ربما بعثها الله ليختبرك، ربما كانت ملك في هيئة قطة، أن انهض يا هذا قد تشهد لك أو عليك . انتبهتُ مذعوراً، وقذفت بالغطاء الذي يكبلني دفئه بعيداً حتى تعدم يدي التقاطه، أشعلتُ قداحتي، فتحت البابَ لتلجَّ على عجل، أبتْ، داعبتْ قدمي اليمنى ثم اليسرى، وكأنها تسلم وتشكر أن فزعتُ لها، عاد إليها بعض أمانها، فهزتْ جلدها ليجففَ شعراتٍ بللها خوفٌ، فتأوه قدمي من رذاذ صقيعها، احدودب ظهري وجلستُ إليها .. ظننتها للبطن خاوية، آلمني لهبُ قداحتي، فتناولتها بالأخرى، وصعدتُ بعض درجاتٍ لتأمنَ معي ما يخيفها بالأعلى، هزتْ ذيلها، لا أريد صعوداً، وأشاحتْ بوجهها، أن انزل، تحسستُ بقدمي درجاتِ سُلمٍ متقرح بذنوبي نازلة، فأسرعتْ أمامي شاكرة، اتجهتُ نحو الباب الموصد، سمعتُ من خلفه مواء صغيرتها كانت رابضة في زقاق، يبدو أنها طاردتْ فأرة، فانجحرت في شقٍّ حتى ضعفتْ وجهدتْ، فردتْ أمها بنونوةٍ عالية النبرة ممتزجة بحروف المد، نوووو..ناووو..نيييى لتهدأ من روعها، ففهمتْ من نونوتها أن انتظري حتى يُفتحُ الباب، وسأتيك صغيرتي، ففتحتُ لها البابَ وتركته لنفسي موارباً.