إذا كانت الماكينة الدبلوماسية الإسرائيلية تعمل على الحد من القوانين الأوروبية التي تهدّد مجرمي حربها بالملاحقة القضائية، فإن هذا يطرح على الجانب الفلسطيني مهمة بديهية تتمثل بتفعيل الدعاوى المرفوعة ضدّهم ومتابعتها أعلنت الحكومة الإسرائيلية (2/11) أن الحوار الاستراتيجي الثنائي بينها وبين بريطانيا, لن يستأنف ما لم تعد لندن النظر في قوانينها ذات العلاقة بتوقيف المشتبهين بارتكاب جرائم حرب.. وجاء الإعلان الإسرائيلي, بالتزامن مع زيارة رسمية, تستمر ليومين لوزير الخارجية البريطاني وليم هيغ إلى إسرائيل.. وتأكيدا للإهتمام الإسرائيلي البالغ بهذه القضية, صرح الناطق باسم الخارجية إيغال بالمور لوسائل الإعلام بأن «القوانين البريطانية والمشاكل التي تفرزها, على تحرّكات المسؤولين الرسميين الإسرائيليين, تحتل الأولوية في برنامج زيارة هيغ». هذه التفاعلات في قضية الحوار البريطاني الإسرائيلي الثنائي, وربما العلاقات البريطانية الإسرائيلية ككل, بدأت منذ شتاء العام 2008, حين فوجئت وزيرة الخارجية الإسرائيلية في حينه, بمذكرة توقيف صادرة بحقها عن محكمة «ويستمينستر» البريطانية, لدى وصولها إلى لندن، بناء على دعوة مرفوعة ضدها، تتهمها بالمشاركة في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية, في غزة. وذلك أثناء الحرب التي شنتّها إسرائيل على القطاع والمسمّاة ب «الرصاص المصبوب». تضاربت الأنباء في ذلك الوقت, حول سؤال هل نزلت ليفني إلى لندن, وتم إبلاغها بالأمر لتسهيل هروبها, أم أنّها بقيت حبيسة مطار «هيثرو» إلى أن تم إعادتها من حيث أتت, بطريقة التفافية, لتفادي الاعتقال. لكن وبغض النظر عن حقيقة ما جرى, فإن الحادثة المذكورة, كانت البداية لإفراز واقع جديد, حوّل مطار «هيثرو» العريق, إلى شبح سجّان يطارد العديد من المسؤولين الإسرائيليين في حكومة أولمرت السابقة (منفذة «الرصاص المصبوب»), بالإضافة إلى عدد من الضباط الإسرائيليين.. رئيس الحكومة البريطانية السابق غوردن براون, نظر بعين الأسف إلى مذكرات التوقيف الصادرة بحق المجرمين الإسرائيليين, واعداً إياهم بالبحث في تعديل القوانين البريطانية, لتفادي صدور مثل هذه المذكّرات التي سبّبت لحكومته الحرج.. لكن وعود براون بقيت عند حدودها الكلامية, حيث لم يستطع أن يدخل أي تعديل على القانون البريطاني في هذا الشأن, ومن المعروف أن إدخال تعديلات على القوانين في دول كبريطانيا, عمليّة صعبة ومعقّدة, نظراً لما تتمتّع به هذه الدول, من استقلال سلطتها القضائية عن سلطتها التنفيذية.. وكانت النتيجة أن استمرت «فوبيا هيثرو» عند المسؤولين الإسرائيليين, بدلالة إلغاء زيارة لوزير شؤون المخابرات ونائب رئيس الحكومة الحالية داني مريدور, إلى المملكة المتحدة (2/11), خشية تعرّضه للاعتقال بناءً على شكوى مقدّمة ضدّه, لإرتكابه جرائم إبادة ضد الفلسطينيين.. وأمام هذا الحصار الذي جعل بريطانيا «أرضاً حراماً», بالنسبة للعديد من المسؤولين الإسرائيليين, لم تقف الدبلوماسيّة الإسرائيلية مكتوفة الأيدي, فهذه الماكينة الدبلوماسية, لم تأل جهداً, في استغلال أية مناسبة, للضغط على الجانب البريطاني, بغية إعادة النظر في قوانينه الخاصة بتوقيف المشبوهين بارتكاب جرائم الحرب.. والخطوة الإسرائيلية المتمثلة بإيقاف «الحوار الاستراتيجي» الثنائي, تأتي في سياق منظومة العمل الدبلوماسي, الضاغط على الجانب البريطاني, ووضعه في موقف دبلوماسي بروتوكولي حرج. وبالتأكيد ليس مصادفة صدور القرار, بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية, بما يحتوي ذلك الأمر على دلالات وإشارات سياسية جليَّة للعيان. أمام هذه المعطيات يرى المراقبون، أنّ تداعيات هذه «الإحرجات»، التي سبَّبها القانون البريطاني، مرشَّحة للتصاعد بين الطرفين، ولم يخفِ إسرائيليون تخّوفهم، من أن تنعكس هذه «الإحراجات»، قطيعة دبلوماسّية، في ظل وجود حكومة نتيناهو اليمينيّة، التي تضم أفيغدور ليبرمان، بما ينطوي عليه ذلك من وجود نوع من الفجاجة الدبلوماسية، والتي ظهرت في أكثر من مناسبة، لا مجال للحديث عنها.. وذلك لا ينفي بأي حال استمرار دوران العجلة الدبلوماسية الإسرائيلية، نحو الضغط على بريطانيا لإعادة النظر في قوانينها، على الرغم من عدم وجود اعتقاد بأن بريطانيا ستعتقل مسؤولين إسرائيليين، وأنها ستلجأ في كل مرّة إلى الالتفاف والتحايل، لتهريب أي مسؤول إسرائيلي، في حال ذهابه إلى لندن، دون علم منه بصدور مذكرة توقيف بحقه. وتجدر هنا الإشارة إلى أن بريطانيا، ليست الوحيدة أوروبيا، التي أصدرت مذكرات توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين. بالنظر إلى ما ذكر آنفا، وبإحالة الأمور إلى مقلبها الفلسطيني، والمقصود هنا الدبلوماسية الفلسطينية، ومن خلفها العربية، سنجد أننا أمام موقف فلسطيني وعربي، يكتفي بحالة المراقبة و الانتظار. ومن المعروف أن أحد أهم منجزات الاعتراف الدولي ب م.ت.ف، هو افتتاح قنصليات و ممثليات للمنظّمة في أنحاء العالم. وهذا يطرح سؤال الدور المنوط بهذه الممثليات، أمام التطوّرات الأخيرة، التي تفتح على خيارات دبلوماسية كبيرة، تجاه منع الكف الإسرائيلية وردعها، عن استمرار جرائمها ضد الشعب الفلسطيني.. فإذا كانت الدبلوماسية الإسرائيلية تعمل على الحد من القوانين الأوروبية، التي تهدّد باعتقال ومحاكمة مجرمي حربها.. فإن هذا يطرح على الجانب الفلسطيني مهّمة رفع الدعاوي القضائية وتفعيل المرفوعة منها ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين، والسعي وبكافة السبل على الارتقاء بالقوانين القطريّة الأوروبية التي تبيح توقيف ومحاكمة مجرمي الحرب، نحو تدويلها، وإعطائها إطارا أوسع، على طريق عزل مسؤولي هذه الدولة الخارجة على القانون. وهنا نستذكر أيضا، الخروج الإسرائيلي على عشرات قرارات ونصوص القانون الدولي، بدءاً من استمرارها في استيطان الأرض الفلسطينية المحتّلة، وليس انتهاء ب«تقرير غولد ستون»، حول جرائم الحرب في غزة و فتوى «محكمة لاهاي» الداعية إلى إزالة جدار الفصل العنصري، الذي يلتهم الأرض الفلسطينية، ويضع الفلسطينيين في سجن كبير. إن هذه المهمة الدبلوماسية، التي تقع على الجانب الفلسطيني وأشقائه من العرب، تطرح نفسها كجزء من الإستراتيجية البديلة عن المفاوضات العبثية، وكورقة تسلحّ إضافية، في يد الجانب الفلسطيني، في ظل تعنّت الجانب الإسرائيلي تجاه هذه المفاوضات، وإصراره على المضي قدما في مشاريع الاستيطان التي تلتهم الأرض الفلسطينية المحتلة.. فلماذا لا يتم استغلال هذه الورقة فلسطينيا والتسلّح بها، كإحدى محاور العمل الفلسطيني، التي تضاف إلى المحاور الأخرى (المقاومة الشعبية مثلاً)، بدلاً من التعويل على سياسة الخيار التفاوضي الوحيد، وانتظار ما تجود به الإدارة الأميركية، من ضغط (مفقود) على إسرائيل؟!.. الأسلحة موجودة، ومحاور العمل حاضرة، وما على الجانب الفلسطيني والعربي، إلا أن يفتح أعينه عليها، كبديل عن الحول الذي أصابه ل 20 عاما مضت، في التعويل على «راعي» التسوية الأميركي. محمود نوارة [email protected]