يقول نيتشه صاحب ولادة التراجيدبيا "في الحقيقة ليس هناك أي فنان يوناني يتعامل مع جمهوره لمدة، بوقاحة كبيرة وادعاء إلا أوريبيد" امام عجز الأغلبية الحكومية، المنبثقة من شفافية صناديق الاقتراع، عن اقناع الكتلة الناخبة و عموم مكونات الشعب المغربي، الذين اوصلوها لتذبير الشأن العام، بانجازاتها السياسية و الاقتصادية، و العمل على ترجمة وعود حملاتها الانتخابية ونسب النمو المهولة، على ارض واقع المعيش اليومي لعموم الشعب المغربي المغلوب على أمره، من شدة الارتفاع المهول لأسعار مواد القوت اليومي. فإن المتتبع للشأن السياسي المغربي لن يحيد عن الاعتراف إن ضمنا أو صراحة، "بولادة التراجيديا السياسية"، التي تجد تبريرها الأول في صراع أحزاب الأغلبية الحكومية فيما بينها حول مشروعية اتخاذ القرار، و الذي توج بالموقف الشجاع، المتصل بقرار انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة، بسبب الخلاف العميق، حول القرارات المصيرية اتجاه الشعب المغربي، لاسيما قرار الرفع من ثمن المحروقات، و تحيين مشروع اصلاح صندوق المقاصة، و صناديق التقاعد، و قضية استئناف الحكومة لحكم المحكمة لصالح الموقعين على المحضر المعلوم. أم المبرر الثاني الموجب لولادة التراجيديا السياسية فيمكن رده الى الطبيعة المفارقة لمكونات المعارضة، بسبب غياب الخيط الناظم، لتوحيد الرؤية السياسية و الاستراتيجية الحزبية، للقيام بدور جبهة مدنية تاريخية بالتحالف القوي مع الملكية كصمام واقي للفصل ما بين الدين و الحداثة، عبر مشروع وطني متكامل يسمح بالتدبير العقلاني لمغرب التعدد. و الواقع المؤلم، هو ان تجليات ولادة التراجيديا السياسية، يمكن تلقفها اعراضها على مستوى فرجوية الخطاب، و شعبوية اللغة و صدامية طبيعة التواصل بين الفرقاء السياسيين، ناهيك عن ضبابية الانتشار المهول لمفهوم الاصلاح، و تراجع حس المسؤولية في جلسات البرلمان، و مجلس المستشارين العمومية و الإعلام السمعي البصري. إنه اخطاب سياسي و اخلاقي، الذي لا يليق بمكتسبات الحراك السياسي وحجم الاصلاحات الدستورية و انتظارات الشعب. وعليه ففي الوقت الذي نعجز فيه عن الفهم التلقائي لهذه الولادة القيصرية لمفهوم التراجيديا السياسية، فلن نجد خيرا من مرجعية المفكر المغربي عبد الله العروي العلمية او الأكاديمية في "ديوان السياسة"، التي تؤكد على أن ولادة التراجيديا السياسية، لا يمكن ان ترفع عن تجربتنا السياسية الناشئة: (إذا لم يحصل عندنا بعد الفطام الضروري بين الغريزة و العقل. بين الإتباع و الاستقلال. وإذا لم ننتقل مثلا من التواكل الى الهمة، و أما ما يجعل السياسة بئيسة هو بالضبط شموليتها. فلا تتكون نخبة سياسية تتأهل و تتجدد باستمرار) . و في سياق ولادة التراجيديا السياسية، التي ما فتئت بعض الأحزاب السياسية "الديمقراطية" تكرسها، من خلال تقاعسها الشديد اتجاه القضايا الوطنية المصيرية، في مقابل الاخلاص المطلق للعمل الحزبي الاستقطابي الضيق، و التفاني في تأطير القواعد الانتخابية في صراع جهنمي ضد الزمن. فإن الوضعية المؤلمة التي عاشتها الدبلوماسية المغربية، في الفترة الأخيرة، قد كشفت بما لا يدع الشك عن مظاهر عجز المؤسسات الحزبية، و قصور الديبلوماسية الحكومية و غياب شبه تام لديبلوماسية المجتمع المدني الموازية في اتجاه الضغط على الولاياتالمتحدةالأمريكية لتطويق مقترح مجلس الأمن الدولي، والقاضي بتوسيع صلاحيات بعثة الأممالمتحدة "المينورسو" لتشمل مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء. ماذا كان سوف يكون عليه وضع المملكة، دون تدخل العاهل المغربي الحاسم و الاستباقي لدى الدول العظمى، لتعود الأمور إلى نصابها ؟ هل اقتنع المتربصون بحاكمية و صلاحيات الملكية الديمقراطية التنموية، بأهميتها و جاهزيتها في درء الأخطار و المصائب على الأمة؟ وفي اطار هذا السياق الوطني الدقيق و الحساس، نسائل بكل روح وطنية وحدوية، شبيبة حزب العدالة و التنمية، التي طالبت في مؤتمرها الأخير بالملكية البرلمانية للتخلص من ازدواجية السلطة، و كذلك حركة التوحيد والإصلاح،المشتل الخصب لتكوين و تأطير أطر حزب العدالة والتنمية، التي تتهم الدولة العميقة بصنع الأزمة الاقتصادية و التشويش على مشروعها الاصلاحي، كيف يمكن للتأويل السلفي للدستور الذي يتبناه "ربيع حراك الاسلام السياسي" في الوطن العربي بصفة عامة و المغربي بصفة خاصة، والذي يعتبر الدولة المغربية دولة إسلامية. فيترجم حسب العروي العبارات و الألفاظ، على المتعارف لدى الفقهاء الاصوليين. فيصير الدستور نتيجة وثيقة محررة مبسطة منسجمة، و الملك امام، الحكومة وزارة، المراقبة حسبة، الخزينة بيت المال، الضريبة معونة، التشريع اجتهاد، البرلمان شورى، التصويت نصيحة، الانتخاب تزكية، الخ)، ان يحمينا هذا التأويل السلفي للدستور في اقصى درجات دقته ووضوح براهينه أن يخلصنا من المراقبة الدولية للشأن الحقوقي و الحكومي؟ أو يقوي من مواقفنا التفاوضية بشأن القضية الترابية و الصيد البحري و التجارة الخارجية، و ان يفيدنا في جلب الاستثمارات و الترواث و الدفاع القوي عن المصالح الحيوية للبلاد؟ أليس من العبث، و الصدفة و العشوائية ان لا نجد تشخيصا علميا دقيقا و تحليلا عميقا لدى الأغلبية الحكومية، للمسيرة التي عرفتها مدينة العيون مؤخرا، و التي جابت شوارع عديدة بالمدينة، مطالبة بتقرير المصير. ما الذي يمكن للسيد رئيس الحكومة، ان يقول للشعب الذي صوت على حزبه بصدد، هاته الواقعة الشاذة أو الظاهرة السوسيو سياسية المستجدة، التي هزت كيان المغاربة، مخلفة نوعا من الدهشة والاستغراب لدى عموم المواطنين، الذين لم يسبق لهم أن شاهدوا مسيرة رفعت فيها أعلام البوليساريو، و الذي لم تتطرق سيادته ولو بكلمة واحدة للقضية الوطنية، في مؤتمر الشبيبة، أمام حوالي 3000 شاب ؟ وعليه فإن غياب الضمانة الروحية والسياسية التي تمثلها الملكية، قد تقتحم الفضاء العمومي و السياسي بالمغرب كائنات لا تاريخية، قد تؤدي جذريتها الرفضوية للنظام السياسي، إلى تحالف لا يعلم الا الله مصيره، على اساس ان التساهل الثقافي و السياسي، قد يؤدي الى نسف الديمقراطية من الداخل. واعتقد انه في الأفق المنظور، سوف يشتكي المغاربة مظلمتهم للملك كحكم، في غياب حزب سياسي ديمقراطي وطني، الحزب " الطبيب" يقع عليه اجماع كل مكونات المجتمع المغربي في كل من العالم القروي و الحضري، و قادر على إنجاز التحديث المطلوب،بما في ذلك تحقيق الاجماع الوطني بين الفرقاء السياسيين، لاسيما في ظل ثنائيات المغرب الانثربولوجية و السوسيولوجية، التي كثيرا ما استفاض فيها د عبد الله العروي من جهة التحليل العرب/البربر، الحضر/ البدو، التقدميين/ المحافظين، الحداثين/ العلمانيين، في بنية مجتمع لم يعرف التناغم الاجتماعي بإطلاق، و الوحدة السياسية بشكل نهائي. وقد يحدث التحدي الأكبر في المستقبل المنظور، أي ما بعد تراجيدية حكومة "الحراك الإسلامي"، عندما تتوفر الإرادة العامة لتعاقد تاريخي وسياسي مثين ما بين الإرادة الملكية الشابة والشباب المثقف، أي "جيل مغرب ما بعد الحرب الباردة" كنخب ثقافية وطنية واعية بمسؤوليتها التاريخية، و المنعطف السياسي و الايديلوجي، الذي يمر منه المغرب، في ظرف دولي و اقليمي جد دقيقين، كما ان هذه النخبة جاهزة للكفاح التنويري لتحرير الطاقات الفكرية و السياسية، التي لم تجد من يسندها سياسيا، وحزبيا وثقافيا لأداء وظيفتها السياسية و التاريخية .