بعدما تمكن الاسكندر الأكبر من غزو جهات الخارطة الأربع، ابتلاه الله بداء العُجب الذي ضاجعه حكام المشرق كما تضاجَع الإماء وأنجبوا منه أشهر الطواغيت على مر العصور، فطاب له أن يخلع نعلي الإنسانية ويترقى لرتبة إله، هكذا بلا مقدمات. وإيثارا للسلامة، رضخت أغلب المدن اليونانية لمشيئته ووضعت أثينا جبهتها بين قدميه إتقاء لشره. وبدأت التماثيل الحجرية تنتشر في ربوع البلاد، وصار النحاتون أشهر من فنانينا ومطربينا وطبالينا. وعند إخمص قدمي الاسكندر الحجرية، تجمعت النخبة لتلاوة التراتيل والتمسح بسيقان طويل العمر صاحب الفتوحات المفدى.إلا أن الإسبرطيين رفضوا أن يتنازلوا عن شواربهم، وأبوا أن يدخلوا حرملك الإسكندر طائعين. كانوا يعرفون بغريزتهم القتالية وأنوفهم المدببة أن في اليونان موقعا يسمى السرملك، لا يدخله إلا من تجاوزت رقبته منكبيه، فوقف الرجال أمام التاريخ وقفة رجل واحد لحماية الإنسانية من إخصاء مبكر. قال الاسبرطيون يومها لجنود الاسكندر الذين حاصروا فحولتهم ليدخلوهم بيت الألوهية المستحدثة كرها: "لو كان الاسكندر إلاها حقا، فليثبت لنا أنه كذلك."وسقط تمثال الرجل الذي اجتاح بخيله ورجله بلاد فارس ومصر وسوريا والهند تحت قدمي رجال عرفوا مواقعهم فوق التراب الإنساني، وتدحرجت رأس التمثال بين قدمي طفل قرر فجأة أن يفرغ ما في مثانته. لكننا لم يصلنا من تراث أتراكنا إلا المشربية والبرقع. أكاد أجزم أن ثلاثة أرباع أبناء قهرنا التاريخي لم يعرفوا من قصور السلاطين إلا الحرملك، ليس تعاطفا مع القوارير لا قدر الله، ولا لشبقنا الرجولي وتفتيشنا الدؤوب عن المرأة، ولكن لأن مصطلح السرملك لم يترجم إلى لغاتنا اللينة، فقد كتبه الإسبرطيون بلغة لم تجد من يترجمها عندنا من رجال.لكن إن يغفر التاريخ لقدمي رجل وطئتا بلاط ملوك عصره وركلتا مؤخراتهم فيض العنجهية، كيف يغفر لمدعي الألوهية من طواغيتنا إجبارنا على ارتداء أقمصة النوم الحمراء والرقص في شوارع بلادنا عارين من تراثنا الإسبرطي الرجولي؟ صحيح أن من رؤسائنا من تجاوز عمر الاسكندر حكما، ومنهم من حاز لقب صاحب الشهقة الأولى، ومنهم من جاب أرض العدو بطائراته الورقية، وعاد منها بأرض محتلة، ومنهم من فتح فاه ولم يستطع أن يغلقه، لكن هذا كله لا يبرر أن تجبر أقفيتنا المكتنزة على التمدد تحت فيوض صفعاته والتبرك ببصقاته التاريخية. لا ننكر أن العبودية ملة واحدة، وأن النائمين في بلاط الحريم يشجعون السلطان دوما على العبث بمؤخراتهم، لكن كيف بالله يقارن التاريخ اسكندرهم الذي وقف فوق قبور أعدائه ملوحا في وجه التاريخ بإسكندرنا الذي لم يبسط رداءه فوق حدود الوطن يوما، ولم يرفع سبابة في وجه أحقر جنودهم، بل دافع عن حق حدودهم في الزحف نحونا، وفي اغتيال خيرة شبابنا والعبث برجولتنا المنسية منذ زمن. وكيف للمؤرخين أن يبرروا مقارنة غير موضوعية بين أناس جرفهم الغرور والخوف نحو طاعة قائد طالما تقدمهم في ميادين النزال مدافعا عن فحولتهم، ورجال بلغ بهم الخوف من قائدهم ومن عدوهم ومن مستقبلهم آمادا بعيدة، وتحولوا إلى مواطنين من الجنس الثالث فوق وطن مغتصب؟ لماذا يتخلى رجال عهرنا الأشاوس عن ما بين أفخاذهم طواعية، ويرضون بالحياة خصيانا لملك لم يدون له التاريخ موقعة ولم يسجل له مأثرة. وأي عذر لطغاتنا في ادعاء الألوهية ولم يقدموا قدما على قدم في مواجهة عدونا التاريخي أو يرفعوا لواء عصيان في وجه رعاة الظلم الكوني؟ إن كان حكامنا يريدون أن يدعوا البوبية هنا، فليَثْبُتوا وليُثْبِتوا أنهم كذلك بالفعل.