بعد انتهاء يوم ممطر من أيام الشتاء بمدينة الإسكندرية, وبعد أن أفرغت السماء ما بها من أمطار, وإبتلت الأرض, وإغتسلت الأشجار, وتلاحمت أمواج البحار مع قطرات الأمطار, ثم هدأت الرياح واستكانت الأجواء. إختار عدد من الشباب الجلوس علي الدرجات الواقعة أمام تمثال الإسكندر الأكبر بمنطقة الشلالات, ذلك التمثال الذي يزين نهاية شارع أبي قير.. وقد جلس الشباب, فلفتوا بصوتهم إنتباه الإسكندر الأكبر وكأنه قد دبت فيه الحياة... هذا التمثال دليل علي عمق العلاقات المصرية اليونانية منذ القدم و حتي الآن, فقد قدمته اليونان كإهداء بمناسبة افتتاح مكتبة الإسكندرية عام2002, حيث صنع علي شكل بطل يوناني جاء إلي مصر فاتحا ممتطيا جواده الشهير جوسيالوف, ووضع نهاية ميدان عبد المنعم رياض عند المدخل الشرقي للمدينة القديمة. سمع الإسكندر إسمه يتردد علي لسان هؤلاء. إذ يبدو وكأنهم للمرة الأولي يتنبهون إلي جمال التمثال وقوة قائده و فحولة حصانه. فإذا بالشاب الأول يثني علي التمثال, والثاني يشيد بحسن إختيار المكان. أما الثالث فيرغب في نقله إلي ميدان فيكتور عمانويل بسموحة, والرابع يريده علي شاطئ البحر. بينما الأخير لا يعرف إذ أنه لم يسمع بالإسكندر من قبل. وبينما هم يتحدثون والإسكندر صامت يفكر. كيف يتشاورون في الأمر و كأنه غير موجود؟ هل يثأر لنفسه ؟ أم يعتصم هو الآخر؟ إنه الإسكندر الأكبر لا يقل عن المصريين حبا لمصر عامة و للإسكندرية خاصة, فهو منشؤها.. وهي مدينته.. إنه يطالب بلوحة أكبر تحكي قصة حياته وليس مجرد لوحة رخامية تشير إلي أسماء عصرية... فكرالإسكندر في ثناء الشاب الأول علي التمثال, بالطبع فلن يجدوا مثل ملامحه القوية وخصلات شعره المتهدلة علي جبينه... أما حصانه, فتظهر عليه ملامح القوة. ثم تذكر كلمات الشاب الثاني والتي أشاد فيها بحسن اختيار المكان, وبالفعل يتفق معه الإسكندر فهذا المكان يليق به حيث يواجه المدينة القديمة. و تصله نسمات البحر القادمة من شارع قناة السويس العمودي علي الكورنيش, فتمتزج الرائحة مع عبير الزهور التي تفوح من حدائق الشلالات... فأي مكان أفضل من هذا ؟ يعيبه فقط ضوضاء السكندريين وسياراتهم. ثم ينتبه إلي الاقتراح الثالث الخاص بنقله إلي ميدان فيكتور عمانويل. فيغضب لنفسه كيف يوضع بمنطقة سموحة التي لم تكن ضمن مخطط المدينة القديمة ؟ إنه الإسكندر الأكبر صاحب النظرة العالمية في إقامة مدينة الإسكندرية لتكون مركزا للعالمية. أما ما استمع إليه الإسكندر في غيظ فهو إقتراح ذلك الشاب بنقله للإقامة علي شاطئ البحر. فكيف يعتني به هناك ؟ إن ملوحة البحر ستؤثرعليه وعلي حصانه لا محالة, وسوف تصيب ملابسه بالتلف فيضيع رونقها. لا! لا! إنه يفضل البقاء في مكانه قرب البحر وبجوار الورد.. وسط المدينة الحديثة و أمام المدينة القديمة.. كما أن لهذا المكان حنين عميق في نفسه فهو بجوار مقابر اللاتين حيث مقبرته الرخامية.. فيفكر الإسكندر, ألست أنا القائد الشجاع ؟ ألست أنا الملك الحكيم حتي آخر لحظات حياتي.. إنني عندما حضرتني المنية أدركت أن انتصاراتي وجيوشي و ممتلكاتي سوف تذهب أدراج الرياح فجمعت حاشيتي و أخبرتهم بوصيتي فلا يحمل نعشي إلا أطبائي حتي يعرف الناس أن الموت إذا حضر, لا ينفع في رده طبيب ولا بشر. والوصية الثانية... أن ينثر في طريقي إلي المقبرة, قطع الذهب والفضة وأحجاري الكريمة التي جمعتها في حياتي ليعلم الناس أن كل وقت قضوه في جمع المال كان هباء منثورا.أما الوصية الاخيرة فأخرجوا يداي من الكفن وابقوها مفتوحتين حتي يعرف الجميع أني لم آخذ معي شيئا فقد قدمنا إلي الدنيا وخرجنا منها فارغي الأيدي.. بالفعل كان الإسكندر الأكبر قائدا غزا العالم بسلاحه و أفكاره وأعطي العالم درسا لم يفقهه البشر.فعاش ملكا ومات خالي اليدين لكنه دخل التاريخ من أوسع أبوابه.