تحتل المؤسسة العسكرية والأمنية الصهيونية حيزاً واسعاً في الفكر القومي للمجتمع والنخب السيّاسية والأمنية داخل الكيان الصهيوني المحتل، وهذا ما يفسر ربما الدعم الكامل الذي يمنحه أوري أفنيري في معظم كتاباته للمؤسسة العسكرية الصهيونية، باعتبار أن هذا الكيان المحتل، قام على استعمال القوة العسكرية المفرطة، و بنا كياناً استيطانياً توسعياً من خلال الحروب التي خاضها ضدَّ العرب، وبالتالي فالتقديس والتقدير الذي يحظى بها جيش الاحتلال، لا ينحصر عند القيادات السيِّاسية أو الأمنية، أو حتى عند كبار الحاخامات في الكيان الصهيوني، بل يمتد جتى إلى مفكري اليسار الإسرائيلي المعروف عنهم في العادة الاعتدال في الطرح، والبحث عن الحلول الوسط، والميل إلى السَّلام، عوض استعمال القوة والعنف لتحقيق حلم الوطن القومي الأكبر لكل يهود المعمورة، مثلما ينادي بذلك من ينتمون إلى التيار اليمني الأكاديمي المتطرف. فأوفنيري يشبه إسرائيل بدولة اسبرطيا اليونانية والتي قامت على استعمال القوة العسكرية، والاعتماد على المهاجرين والبدو، وإجبارية تجنيد الشباب لبناء إمبراطورية سيطرت على كل ممالك اليونان لفترة طويلة، فالروح القتالية العسكرية التي كان يتمتع بها المقاتل الاسبرطي، تشبه إلى حدٍّ كبير حسب رأيه، الروح القتالية التي يتحلى بها الجندي الصهيوني، بالإضافة إلى صفات أخرى كالصرامة العسكرية والانضباط وحب المجازفة من أجل حماية ما يطلق عليه بالوطن القومي. فالسَّلام بهذا المنطق لن يتحقق إلاَّ من خلال امتلاك القوة العسكرية الكافية، لأنه بدونها سيصبح مجرد وهم خادع وراسب لا وجود له، إذ يقول في هذا الإطار" في الواقع أن الجميع في إسرائيل، يعتقدون بأن السَّلام وهم، وبالنسبة للكثير من الإسرائيليين، السَّلام هو خطر، هنا يكمن الخطر الحقيقي للتحول إلى بروسيا جديدة، وهناك أغنية تعزف اليوم تعرف نجاحاً شعبياً في إسرائيل، مثل أكثرية الأغنيات الرائجة، يقصد هنا- أغنية مآثر الأيام الستة- أنها تنتهي بهذه العبارات" والدبابات ستأتي بالسَّلام" ضعوا هذه الجملة في اللغة الألمانية، وسترون كيف ستتسم فوراً بلهجة التهديد، كتاب إسرائيل ص 202. فهو بالتالي يبجل المؤسسة العسكرية، ويرفع أبنائها إلى مصاف الأبطال والأساطير، غير عابئ بكل ما ارتكبه هذا الجيش طوال حروبه مع العرب، من مآسي وجرائم بشرية مروعة، وحتى أن كان بعض قادته موصوفين بأنهم مجرمين وقتلة، وممنوعين من دخول الكثير من الدول الغربية، ويقرن الجيش الصهيوني وقادته بالعبقرية الفذَّة، حيث يقول في هذا الإطار" إن الجيش هو الذي أصبح يعبر عن العبقرية العسكرية، فهو يجتذب خيرة الرجال، إن المرء لا يتحدث عنه إلا بلهجة الاحترام العميق، وهي اللهجة عينها التي يتحدث بها في اسبانيا للتكلم عن الكنسية، أو عن النظام الملكي في انجلترا، أو عن الرأسمالية المصرفية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، أن السِّياسي الأقل لمعاناً، ينجح في إحياء خطاب سياسي تافه، بمجرد ذكر جيشنا الباسل، إسرائيل ص 163-199. فالجيش حسب أوفنيري هو نقطة الإجماع الوحيدة التي لا يختلف عليها أحد في الكيان الصهيوني، ويتفق عليها كل المختلفين إيديولوجياً، وفكرياً وسياسياً ومصلحياً، وحتى ثقافياً، إذا يقول: في فقرة له من نفس المرجع السَّابق،" في إسرائيل الجميع ينتقد الحكومة، قد يحقد على الأحزاب، ويسخر من المنظمة الصهيونية، ولكن الجيش لا يمس، لأن الجميع يحبه". فالجيش الصهيوني، قد استفاد قادته ومنذ عهد ديفيد بن غوريون، من هذه الصورة النمطية المجتمعية المكرسة عنه في أذهان النخب والرأي العام الداخلي الإسرائيلي، إذ أصبح كما يرى أوفيري أقوى مؤسسة رسمية في تل أبيب، إذ لا يجد قياداته حرجاً في التدخل في الشؤون السِّياسية للبلاد، بل وإعلان دعمهم المطلق لسياسات زعماء وقادة سياسيين وحتى أحزاب، كما فعلوا مع غولدا مائير، أو كما يفعلون مع بن يامين نتنياهوحالياً، إذ أن الجيش من خلال سلطاته الواسعة نفَّذ ولا يزال الكثير من العمليات الأمنية والعسكرية داخلياً وخارجياً، دون حتى أن يحصل على إذن القيادة السِّياسية، مثلما فعل في خمسينيات القرن الماضي، مع قضية لافون الشهيرة 1953-1954م، حيث قامت المخابرات الإسرائيلية بسلسلة من الأعمال الإرهابية التخريبية في مصر، ضدَّ مصالح أمريكية وانجليزية بالأساس، وكانت تهدف من ورائها إلى تعكير صفو العلاقات بين القاهرة وبين هاتين الدولتين؟، ودون أن تكون الحكومة المركزية في تل أبيب على علم بتفاصيلها، أو حتى بأنها ستفذ في مصر، وحتى وزير الدفاع في ذلك الوقت بنحاس لافون لم يكن على علم بها، كتاب إسرائيل ص104-105، بالإضافة إلى تنفيذ القوات الإسرائيلية لعملية انتقامية ضدَّ قرية فنية في الضفة الغربية، من الأردن حيث تم تدمير أربعون منزلاً، وقتل خمسون شخصاً في تلك العملية، رجالاً ونساءً وأطفال. وبالرغم من أن هذه المجزرة المروعة التي نفذتها الوحدة 101 المدربة، وهي من العمليات العسكرية السِّرية التي كان الجنرال موشي ديان الذي كان يشغل منصب نائب وزير الدفاع مشرفاً على تنفيذها شخصياً، و التي كشفت الوجه الحقيقي لجيش الاحتلال الصهيوني، بالرغم من ما ألحقته من ضرر بالغ بسمعة الكيان الصهيوني، وما لاقته من استنكار دولي واسع وقتها، والتي لم تكن الحكومة الإسرائيلية على علم بها، مثلما يؤكد على ذلك أوري أفنيري ولكنها غضت الطرف عنها، ولم تجرأ على أن تدخل في سجال عقيم مع قيادات الجيش الكبار، وبالتالي فالمؤسسة العسكرية هي من تقرر ما يجب أن تفعله المؤسسة السِّياسية في إسرائيل، وليس العكس. فأوفنيري ينطلق في تحليلاته وفي نظرته المنبهرة بالجيش، من الثقافة التوراتية الدينية اليهودية، التي تمجد القوة والسلطة العسكرية، وتجعل من يمسك بزمامه سيداً مطاعاً، وبطلاً قاهراً، بشرط أن يكون صهيونياً حتىَّ لنخاع، وداعماً لوحدة وقومية إسرائيل، وأماَّ سلسلة الجرائم والمجازر المروعة التي ارتكبها ولا يزال هذا الجيش المغتصب لأراضينا العربية، والقاتل لمئات الآلاف من الأبرياء، فلا تعتبر حسب وجهة نظره أو بنظر غيره من أساطين الفكر السِّياسي الصهيوني، سوى دفاع مشروع عن النفس، و الوسيلة الأمثل للحفاظ على كيانهم الاستيطاني، الذي أسس عن طريق استعمال القوة والاستيلاء على أراضي الغير، والإفراط في سفك الدماء البريئة المعصومة. عميرة أيسر-كاتب جزائري