هدى المهداوي توسلها عبر الأثير لتأتي ولكأن لسان حاله يردد تلك الأغنية العراقية القديمة:” بس تعالوا بس تعالوا وفرحوا روحي معذبتني؛ أتريدكم” . بتردد وخجل تجيبه” ربما، سأحاول”. شاكرة الله إنها تكلمه عبر الأثير كي لا يرى ما يعتريها من ارتباك. بدأت تُأقلم قلبها، تكيّفه وتمرنّه قبل أن تراه. تسلّسله بأضلعه وتقّفل عليه بحجابه الحاجز، تحيطه بأسلاك شائكة من شرايينها كي لا يتهلل طربا حين يراه أو ينوح تأوها حين يغادر. حين عزمت على لقائه؛ ارتدت ملابسا أعدتها لذلك اللقاء الذي انتظرته سنوات عمرها التي ما عادت فتية. حين سالت مرآتها بعينيها وهي تدقق بأدق تفاصيلها؛ ابتسمت لها المرآة وكأنها تقول” أنت كسجادة فارسية؛ العتق يزيدها جمالا ويؤطرها هيبةً”. اطمئن قلبها وغادرت وهي تسير على أطراف أصابعها فرحا وتوقا. وصلت دارهم ودلفت المجاز المؤدي إلى حجرة الاستقبال. حيّت من استقبلها من أهله وهي تصارع كل حاسة من حواسها اللواتي تدافعن وانتشرن، يتلصصن باحثات عنه وهي تستميت لتلملمهن كي لا تشرد فلا تجيب على سؤال يطرح عليها. تسمع أبواب تُفتح وأخر توصد؛ كل مرة يأتي أحدهم جاء الجميع إلا هو. عجبا انه على بعد خطوات منها، هل أصاب قلبه الطرش ألا يسمع قلبها يعزف بكل آلات العالم أوركستراه؟ أين ذاك التوق واللهفة اللتان زرعهما في قلبها؟ تحاول التناسي والكلام مع من حولها وقلبها يطفح وجعا شيمته الكبر وأضلعها تُسحق وتعصر قلبها، كما يُعصر الزيتون ليستخرج زيته. عزمت على المغادرة بعد أن ملت الانتظار. لملمت نظراتها وشعث حواسها وجرت عطرها الذي أبى أن يغادر. ما أن همت بفتح الباب حتى جاء يتبعثر ويتعثر بجراحاته، يرجوها البقاء. رمقته بنظرة وهي تتصبب ندما اغتال عدم المبالاة التي تنكرت بها لتواري سوءة ضعفها. غادرت وكل ما فيها يولول لوعة وهي تناجي نفسها” قسما بلهفة قدميك راكضة ورائي، تستجدي بقائي، بعينيك وكل حواسك التي تأن حنينا؛ إلا فمك الذي ما نطق كلمة. قسما بتلك الومضات التي تكاد أن تحرق قلبي حين تتوهم أن عينيك ستبوحان بكلمة، أريدك؛ فإذا بها تخبو حين تتنكر شفتاك ولا تنطقها. بتلك اللوعة التي لازمتني عقدين من الزمان. بذلك الشرر المتطاير من قلبي؛ يحرق روحي ويذروها رماداً كما تُذرى أوراق كراس محترق. سأقول لك عكس ما في داخلي لأحبط كل محاولاتك الفاشلة وأدمر ترسانة هروب تلوذ بها وتفر كل مرة وأنا أحوج ما أكون إليك. وأن نطقت الآن تلك الكلمة الني انتظرتها عقدين من عمري فلقد فات الأوان وما عدت اشتهي سماعها. ما عدت تلك الصبية حافية القلب تمشي على إسفلت ترددك في قيظ فشلك؛ أبدا لن تعود كلمة ربما وشم يدمغ أيامي”.