الدكتور/ جمال عبد الناصر محمد ابو نحل ها هو قطار رمضان يمضي مسرعًا كالبرق الخاطف، وها هي الأيامُ العشرة الأولي من شهر الصبر والرحمة والمغفرة والعتق من النار شهر رمضان تنقضي؛ فعلينا أن نسارع في الخيرات وأن نلحق الركوب قبل أن يمضي قطار رمضان والذي فيه المغفرة والرحمة؛ برغم المشقة والحر فالأجر والثواب على قدر المشقة، فهذا شهر الصبر، ولقد وصف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم شهر رمضان بشهر الصبر في أكثر من حديث ، منها ما رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ) وجاء كذلك في الحديث الشريف عنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ فِي سَفَرٍ لَهُ ، فَلَمَّا نَزَلُوا وُضِعَتِ السُّفْرَةُ ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي ، فَقَالَ : إِنِّي صَائِمٌ . فَلَمَّا كَادُوا أَنْ يَفْرَغُوا جَاءَ فَجَعَلَ يَأْكُلُ , فَنَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِهِمْ , فَقَالَ : مَا يَنْظُرُونَ قَدْ وَاللَّهِ أَخْبَرَنِي بِأَنَّهُ صَائِمٌ , فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : صَدَقَ , إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , يَقُولُ : " صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَصَوْمُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ " ، فَقَدْ صُمْتُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ، فَأَنَا مُفْطِرٌ فِي تَخْفِيفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَائِمٌ فِي تَضْعِيفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , رَوَاهُ النَّسَائِيُّ؛ وإن الصبر هو الأساس الأكبر لكل خُلُقٍ جميل ، والتنزه من كلِّ خُلُقٍ رذيل ، وهو حبس النفس على ما تكره ، وعلى خلاف مرادها طلباً لرضا الله وثوابه ، ويدخل فيه الصبر على طاعة الله ، وعن معصيته، ولا يتم هذا إلا بالصبر فالطاعات الشاقة كالجهاد في سبيل الله ، والعبادات المستمرة كطلب العلم والمداومة على الأقوال النافعة والأفعال النافعة، والصوم لا تتم إلا بالصبر عليها ، وتمرين النفس على الاستمرار عليها وملازمتها ومرابطتها ، وإذا ضعف الصبر ضعفت هذه الأفعال وربما انقطعت وكذلك كفُّ النفس عن المعاصي ولا يتم الترك إلا بالصبر والمصابرة على مخالفة الهوى وتحمُّل مرارته؛ والاستعانة على الشدائد والمصائب بالصبر والصلاة والصيام؛ وشهر رمضان شهر الصبر فيه مدرسة عظيمة وصرح شامخ يستلهم منه العباد كثيراً من العبر والدروس النافعة التي تربي النفوس وتقوِّمها في شهرها هذا وبقية عمرها ، وإن مما يجنيه الصائمون في هذا الشهر العظيم والموسم المبارك تعويد النفس وحملها على الصبر، وأخرج الإمام أحمد عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وذكر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ ))(2) ، وروى النسائي عن الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صمْ شهرَ الصبرِ وثلاثةَ أيامٍ من كلِّ شهر"، وشهر الصبر رمضان فيه الصيام، وفيه القيام، وفيه تلاوة القرآن ، وفيه البر والإحسان والجود والكرم وإطعام الطعام والذكر والدعاء والتوبة والاستغفار وغير ذلك من أنواع الطاعات ، وفيه كفّ اللسان عن الكذب والغش واللغو والسب والشتم والصخب والجدال والغيبة والنميمة ومنع بقية الجوارح عن اقتراف جميع المعاصي وهي تحتاج إلى صبر ليقوم بها الإنسان على أكمل الوجوه وأفضلها؛ ويقول ابن القيم رحمه الله :" والنفس فيها قوتان : قوة الإقدام ، وقوة الإحجام ؛ فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه ، وقوة الإحجام إمساكاً عما يضره ، ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به وثباتُه عليه أقوى من صبره عما يضره فيصبر على مشقة الطاعة ولا صبر له عن داعي هواه إلى ارتكاب ما نُهي عنه ، ومنهم من تكون قوة صبره عن المخالفات أقوى من صبره على مشقة الطاعات ، ومنهم من لا صبر له على هذا ولا ذاك ، وأفضل الناس أصبرهم على النوعين ، فكثير من الناس يصبر على مكابدة قيام الليل في الحر والبرد وعلى مشقة الصيام ولا يصبر عن نظرة محرمة ، وكثير من الناس يصبر عن النظر وعن الالتفات إلى الصور ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين بل هو أضعف شيء عن هذا وأعجزه ، وأكثرهم لا صبر له على واحد من الأمرين ، وأقلهم أصبرهم في الموضعين؛ فالإنسان منا إذا غلب صبرُه باعثَ الهوى والشهوة الْتحق بالملائكة ، وإن غلب باعثُ الهوى والشهوة صبرَه الْتحق بالشياطين ، وإن غلب باعثُ طبعه من الأكل والشرب والجماع صبرَه التحق بالبهائم" وقد أمر الله بالصبر وأثنى على الصابرين، وأخبر أن لهم المنازل العالية والكرامات الغالية في آيات كثيرة من القرآن وأخبر أنهم يوفون أجرهم بغير حساب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [آل عمران:200] ، وقال تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } [البقرة:45] ، وقال سبحانه:{ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [155] الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ[156] أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة:155 157]، وقال تعالى: { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [البقرة:177] ، وقال عز وجل:{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }[البقرة:153] ، وقال تعالى في جزاء الصابرين وأجرهم : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر:10] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ))(6)، وقال صلى الله عليه وسلم : ((وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ) ومن أعظم أنواع الصبر في هذا الشهر العظيم، شهر رمضان المبارك، الذي يصبر فيه الإنسان على مرضات ربه، بامتناعه عن الأكل والشرب، وجميع أنواع اللذات، ابتغاء وجه ربه جل وعلا، لا يريد به رياءً للناس، ولا شكوراً منهم، ولا جزاءً، ولذلك أيها الإخوة: كان الصوم من أعظم أنواع الصبر، التي يوفى بها الإنسان الصائم يوم القيامة، ولذلك أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصوم فقال لأحدهم وهو أبو أمامه رضي الله عنه: (عليك بالصوم فإنه أو لا عدل له). وجعل الله عز وجل من علامات حسن الخاتمة أن يموت الإنسان وهو صائم، فإن من مات وهو صائم كان من أهل الجنة، إذا كان صيامه لأجل الله عز وجل، وقد قال حذيفة رضي الله عنه فيما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ختم له بصيام يوم دخل الجنة). صلى الله عليه وسلم: "صم شهر الصبر رمضان؛ ورمضان إلى رمضان صوم الدهر؛ وإن الصيام يأتي يوم القيامة كما قال عليه الصلاة والسلام: (يشفع صاحبه فيه فيقول: أي رب منعته الطعام والشهوات في النهار، فشفعني فيه، فيشفع فيه؛ وفي حديثٍ آخر يقول صلى الله عليه وسلم أن: (خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) فقال بعض العلماء: أن خلوف فم الصائم أطيب من دم الشهيد، ولكن هذا لا يلزم منه تفضيل الشهادة على الصوم، وإنما يفيد تفضيل الخلوف، هذه الرائحة الكريهة المنبعثة من أفواه الصُيّام لله عز وجل؛ تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال وتقبل منا الصيام والقيام وصالح الأعمال وحرر أسرانا وأقصانا ووحد صفوفنا اللهم أمين. الدكتور/ جمال عبد الناصر محمد أبو نحل الكاتب المفكر والمحلل السياسي نائب رئيس المركز القومي للبحوث العلمية