أسكن حجرة تفتح مباشرة علي قرافة القرية ، كان هذا أمرًا عاديًا جدًا ، ولكن منذ بضعة أشهر تقريبًا اختلف الأمر بعض الشىء ، أصبحت أخاف خوفًا عظيمًا من فتح النافذة المطلة علي القرافة ، لا أعلم لماذا ؟! ربما ظهر هذا بعد وفاة خالى الاستاذ الجامعى الذي لم يترك بلدًا لم يسافر إليها ، ولا مؤتمرًا لم يشارك فيه علي ظهر البسيطة بأسرها ، والذى لم أحضر تشييع جنازته ، ولم أعلم خبر وفاته إلا بعد شهر كامل بعدما قد رقد في ثرى هذى القرافة الحمقاء . ذات يومٍ قرابة الساعة الثانية عشر ليلاً .. كنت أفكر في أن أخبئ جسدي أسفل سريرى ، مثلما كنت أفعل في صغرى ، كنت أحاول فتح النافذة الملاصقة للسرير ، لكنني أشعر دومًا بأن هناك ثمة من يقف خلفها ، ربما سوف ينقض عليّ ويخطف روحي مثلما قد خطف روح خالي دون أن يدري ، هواجس ربما تكون خيالية بعض الشىء ، ربما ! لكن فى الحقيقة ما يحدث معي دومًا ، يزداد رعبًا يومًا بعد يوم ، ولا أعرف سببًا واضحًا لهذا البلاء. في هذه الأثناء جاءت لي روح - ربما هي روح خالي الطاهرة - قائلة لي بعدما أمعنت النظر إليّ : ماذا بك ؟ - قُلت لها : لا شىء ؟ ثم من أين علمتي مكان تواجدي هذه المرة ؟ - قالت لي: خالك كان يحبك جدًا .. وكثيرًا ما قد تحدث معي عنك ، وأخبرنى عنك كل شىء ، خاصةً ما كنت تفعله في الخفاء .. ثم صمتت الروح فجأة . - قُلت لها : ماذا بكِ أيتها الروح الطاهرة ؟ وهي صامتة ولا تستجب لي .. فتيقنت تمامًا أن رحيلها قد أزف . جال بعقلي ما قالته لي ، فأقبل عقلي علي الانفجار من كثرة التفكير فيما قالته ، فلا يزال يتردد علي سمعي جملتها التي وقعت عليّ كالصاعقة " ما كنت تفعله في الخفاء " ، حزنت حزنًا شديدًا لهذه الجملة ؛ ربما لأنها جعلتني أتذكر الخطايا التي كثيرًا ما فعلتها في الخفاء .. خالي في الحقيقة كان يعرف عني كل شىء ، ما كنت أفعله في السر ، وما كنت أفعله في العلن . جدران الحجرة لم تعد تقدر علي الوقوف طويلاً ، وسريري بدأ يشعر بالغثيان ، فالكل لا يحرك ساكنًا مما يراه ، أقلب عقلي يمنةً ويسرةً .. أفتش عن ما تقصده تلك الروح الطاهرة . فإزداد فزعي حينما رأيتُ الباب يهتز ، دقات مدوية ومتسارعة . -قُلت: من الطارق ؟ من الطارق ؟ ولا أحدٌ يجيب ، أمر غريبُ حقًا . فأنا أعيش بمفردي في هذه الشقة - التي ربما سكنتها الأشباح - أقوم من علي سريري فزعًا ؛ لأسلك طريقي في اتجاه الباب ، لأعرف من الطارق .. فإذا بي أسقط أرضًا ، علي إثر اصطدامي بمدفأة الحجرة - التي كانت تتوسطها - ، أتحسس جبهتي بيديّ اليسري بعدما قد وقفت هزيلاً ، فإذ بي أجد الدماء تنهمر من جبهتي بلا توقف ، أكمل طريقي للوصول إلي الباب ، وأنا أحاول أن ألتقط أنفاسي الأخيرة . أتساءل ما هذه الحالة العجيبة ؟ أضع يديّ علي مقبض الباب ؛ لأقوم بفتحه فتحة صغيرة ؛ لأري من بالخارج ، وفي النهاية ، لم أجد شيئًا يقف خلف الباب مثلما كنت أزعم ، جعلني هذا الشعور المخيف أن أفتش الشقة بأكلمها علَّني أجد شيئًا ، لكنني لم أجد .. رجعتُ مرة ثانية إلي حجرتي ، حاملاً معي ما تبقي مني ، وصلتُ إلي سريري مرتميًا عليه ككتلة صماء لا تقدر علي أن تحرك ساكنًا ، توقف عقلي عن العمل ، أغمضتُ عيناي بصعوبة ؛ كي أهرب من كل هذا ، فأعطيتُ المجال لجثماني الهزيل أن يستريح برهةً . بعدها انقطعت الكهرباء ، وانطفأ المصباح ، بعد نصف ساعة تقريبًا من نومي ، أتي لي كابوسًا أفزعني من مرقدي ، كنتُ أريد أن أظل هاربًا من واقعي .. بنومي هذا ، الذي أردت أن أهنأ به ، لكن الأشباح تأبي أن تتركني - هذه المرة - قبل أن أعثر علي الأجابة ، لذا يتوجب عليّ أن أعتصر عقلي ؛ لأجد ضالتي ، وأعترف بما كنت أفعله في الخفاء . قمتُ فجأة من علي سريري ، قاصدًا درج مكتبي ، وقمتُ بفتحه ، نعم فلقد وجدت ضالتي أخيرًا .. رأيتُ طاقم الأسنان الذهبي الذي عثرت عليه بجوار قرافة القرية .. ولا أعرف حقيقة من أرشدني لهذا . صمتُ برهة ، ثم أردفت قائلاً : وما المشكلة في ذلك ؟ جاءت في هذه الآثناء الروح الطاهرة مرة ثانية قائلة لي : إن هذا الطاقم الذهبي يخص المتوفي الذي يرقد بجوار خالك . - قاطعتها قائلاً : وما المشكلة في ذلك ؟ - قالت لي .. وقد ارتسمت على وجهها علامات الاستغراب : إن روحه جاءت ليلة البارحة إلي خالك تشتكي له فعلتك الشنعاء . - قاطعتها مرة ثانية قائلاً لها : تبًا ، فأنا لم أقم بسرقته .. ثم صمتُ طويلاً وتنهدت أكثر من ذي قبل . أردفت قائلاً : أعلم بأنني أقترفتُ من الذنوب ما لا يحصي ، لكنني بكل صدق لم أقم بسرقته مطلقًا ! ولست بحاجة إليه .. لكنني بحاجة إلي أن أرتمي في أحضان خالي باكيًا شاكيًا .. وعلي أية حال إرجعي هذا الطاقم الذهبي إلي صاحبه .. واتركيني وحدي ، ولا تنسِ أن تأخذي معكِ الأشباح التي قد سكنت الحجرة منذ أن دخلها هذا الطاقم الذهبي اللعين ، وأبلغي خالي الذى يرقد هناك مني السلام والتحية . ------------- تمت