من الأمور التي لا ينتبه إليها البعض حين الحديث عن العقل أو التنوير أن المقصود به هو إعلاء المنطق فحسب...وهذا خطأ، فالتنوير يُرادف العقلانية، ولا يمكن تجاهل دور المشاعر في هذه العقلانية، لأن الإنسان ليس كائناً متبلداً بل هو كائناً روحانيا تُماثل قوة المشاعر لديه قوة المنطق، أي أن عملية التنوير أكبر وأشمل من المنطق، واختصارها في معادلة.."منطق+عاطفة=عقل"... أما المنطق هو جزء من عملية التفكير التي تتأثر بالعاطفة، وهي العلاقة الأزلية بين مشاعر العاطفة من حب وكراهية وحزن وسعادة وبين عناصر المنطق من ملاحظة ورصد وتحليل وتفكيك وتركيب. ولو افترضنا أن الخرافات والأساطير جزء من المشاعر والعواطف فيعني ذلك أن الأساطير جزء من عقل الإنسان، وعليه لا يمكن إغفال دور الخرافة في تاريخ الإنسان وتأثيرها عليه منذ نشأته. إن استعراض هذه الصفحات من تاريخ التنوير نعني به عرض جوانب من صراع الإنسان مع نفسه، بصورة صراع مع عقله، أي قوة المنطق أمام قوة العاطفة، فكل حدث تنويري يتضمن هذا الصراع بحذافيره، بينما نتائجه هي هي منذ أناكساجوراس وسقراط مروراً بابن رشد وجاليليو وجوردانو برونو وانتهاءً بعصرنا الذي بدأ بقمع طه حسين وعلي عبدالرازق ولويس عوض وانتهى بقتل فرج فودة وتكفير نصر أبو زيد . ولماذا نذهب بعيداً ولدينا في الجانب الديني تاريخ الأنبياء، فكل نبي هو في الأصل مُصلح فيلسوف قد اكتسب ثقة مجتمعه فعمل على علاج أمراض المجتمع الثقافية والبيئية، ولا يهمنا ما فعل أتباع الأنبياء بعد ذلك أو حتى ما فعل النبي نفسه، حيث في هذا السياق خلافات بنيوية أيدلوجية عميقة تكاد تقف بين نقيضين الأول يُثبت ويُبرر والثاني يَنفي ويُنزّه، كمثال الصراع بين التنويريين في الجسد الإسلامي وخصومهم من عَبَدة التراث وفقهاء المصالح والمتعصبين للمذاهب. ليس فقط داخل الجسد الإسلامي بل في الجسد المسيحي توجد نماذج شهيرة كالفيلسوفة .."هيباتيا"..المصرية، ماتت في أوائل القرن الخامس الميلادي أي قبل ولادة النبي محمد ب150 عاماً على الأقل، لكنها كانت في مصر حيث سيادة الدين المسيحي بنسخة متطرفة أدت بهم إلى قتلها بعد سحلها، والجريمة أنها تفكر وتُنكر على المسيحيين معتقداتهم، هنا اشتعل الصراع الشهير بين العقل والعاطفة، تعزز بوجود رموز متعصبة كالأسقف كيرلس أسقف الاسكندرية..خطب في الناس وشحنهم ضد هيباتيا بعد وصفها بكل أوصاف الكفر والمروق من الدين، وكان الرد سريعاً أن أحاط بها الهمج وسحلوها وقتلوها ثم مثلوا بجُثتها في حادثة بشعة سجلتها أقلام التاريخ لتصوير معركة من معارك التنوير. من المشهور عن هيباتيا أنها كانت إبنة العالِم الفلكي الشهير.."ثيون"..أي أنها من عائلة علمية مرموقة، وهذا يفسر شجاعتها في التعبير عن رأيها، على ما يبدو أنها اعتمدت على قواها العقلية في الإقناع ومركزها الاجتماعي بين العلماء، كان بإمكانها أن تعزف عن التعبير، وتحتفظ بعلومها لنفسها كمثل العديد من الفقهاء والمفكرين خشيةً على أنفسهم من البوح بما يجول في خواطرهم. وفي ذلك يقول الدكتور مراد وهبة عن الفيلسوف الألماني.."إيمانويل كانط"..ت1804م أن.." الكسل والجُبن هما السبب في بقاء معظم البشر في حالة اللارشد"..ويعني باللارشد أي الجهل والتخلف، ويقول كانط أيضاً.."كن جريئاً في إعمال عقلك"..ويُضيف.."إنه يطيب لنا أن نكون من غير الراشدين، بل يطيب لنا أن يكون الكتاب بديلاً عن عقلي، والكاهن بديلاً عن وعيي، والطبيب مرشداً لما ينبغي تناوله من طعام"..(ملاك الحقيقة المطلقة ص19). ومعنى كلام كانط أن الإنسان يستريح ويطمئن لجهله، وأنه يفضل أن لا يفكر كطبيعة راسخة فيه، ويعني هذا أن الكسل طبيعة من طبائع الإنسان المختلفة، فلو لم يفكر لأرجأ تفكيره إلى آخرين يفكرون بدلاً عنه، من ناحية أنه لا يبذل جهداً يُشغله عن أولويات لديه، ومن ناحية أخرى أن لا يتحمل مسئولية ما يقول فيدافع عن آراء لا يثق فيها أو يفهمها أو يقع في مواضع محرجة. لكن هيبايتا التزمت بمبادئها فلم تستسلم للكسل وللجُبن الكامن في طبيعتها، وأعلنت بشجاعة عن رأيها متحديةً أرباب الجهل والفسوق من أمثال كيرلس وبطرس القارئ وأتباعهم، صحيح أن ذلك كلفها حياتها.. ولكن نظراً لأن التنوير لا يأتي إلا بالشجاعة والتعبير عن الرأي بصراحة قامت بدورها لإيمانها بالتنوير وضرورة تثقيف الناس ، ونجحت في التأثير على تلاميذها حتى نشروا قصصها وحكايتها ومأساتها التي دونها التاريخ بعد أكثر من 1500 عام على قتلها. يُروى عن هيباتيا أيضاً أنها كانت حاضرة وقت إحراق المتعصبين المسيحيين لمكتبة الاسكندرية، وأنها استطاعت مع والدها.."ثيون"..وبعض تلاميذها من إنقاذ بعض الكتب والمجلدات من الحرق، وظهر ذلك في مشهد درامي من الفيلم الأسباني الأمريكي المشترك.."آجورا-agora"..للمخرج الأسباني .."أليخاندرو أمينابار"..وآجورا هي ساحة رئيسية في وسط أثينا لا زالت معالمها إلى الآن، كانت موطناً لالتقاء الفلاسفة من أمثال هيباتيا ، والفيلم يروى مفارقة لطيفة أن المتعصبين المسيحيين الذين أحرقوا المكتبة كانوا يضطهدون المرأة ويمنعونها من العمل والقراءة، وبالتالي كانت جريمة هيباتيا لديهم جريمة مُركبة، من ناحية أنها كسرت معتقداتهم وخرافاتهم ومن ناحية أنها امرأة ، في تصوير دقيق لموقف المتعصبين المسلمين ضد المرأة بالعموم. يقول الفيلسوف الانجليزي.."برتراندراسل"..في كتابه الموسوعي.."تاريخ الفلسفة الغربية ص101.." كان القديس كيرلس رجلاً غيوراً على الدين، غيرة فيها هَوَس التعصب، فاستخدم منصبه في إثارة المذابح ضد الجالية اليهودية في الاسكندرية، وقد كانت جاليةً كبيرةً جدا، وأشهر ما يُعرف به محاكمته ومعاقبته لهيباتيا غير مستندٍ إلى قانون، وهي سيدة ممتازة ، انصرفت في عهد التعصب الديني إلى الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، واتجهت بمواهبها إلى الرياضة، فانتُزعت من عربتها انتزاعاً، وعُرّيت من ثيابها، وجُرّت إلى الكنيسة، وذُبحت ذبحاً وحشياً على يد بطرس القارئ، وطائفة من المهووسين الغِلاظ القلوب، القُساة من غير رحمة، وكُشِط لحمها عن عظامها بمحار حادّ الأطراف، وقُذفت أعضاء جسمها في النار وهي ترتعش بالحياة"..انتهى ليس المقصود من التنوير هو القضاء على الجهل أو الجريمة بشكل تام..هذا غير ممكن، حيث من حكمة الخالق أن يدفع الله الناس بعضهم ببعض، وهذا يعني ضرورة وجود النقيضين أو المختلَفين، ليس كما تصور الجانب المتطرف للماركسية، حيث تصوّر ماركس أحياناً أنه يمكنه القضاء على البرجوازية، وأن نعمل على إشعال الصراع معهم حتى تسير عجلة التاريخ، والقائل يرى أن التاريخ لن يتقدم إلا بالصراع وأن يقضي طرف على آخر، بينما في الإسلام وفي كل الأديان لا يوجد صراع بل.."دفع"..أي المقصود هو إحداث عملية توازن وليس عملية إقصاء لضرورة وجود النقيضين كفريضة لاستمرار الحياة. أضرب مثلاً على ذلك أن مفهوم التدين الشائع يُعطئ صورة عن الرب أنه واحدُ متفردُ بائنُ من خلقه، وعلى هذا المفهوم كل الأديان تقريباً عدا بعض الفلسفات الهندية التي أثرت في المنطقة العربية ونادى بها الشاعر الصوفي الشهير.."الحسين بن منصور الحلّاج"..ت 309ه، الذي جرت محاكمته وقتله صلباً بعدما قال بهذا المذهب الهندي وآراء إصلاحية أخرى، واختصار هذا المذهب أن الله وجميع مخلوقاته هم كيان واحد في موجود واحد، فلا موجود حقيقي إلا الله، أما الإنسان والحيوان والطير...إلخ جميعهم صور مُشخّصة للإله في الأرض، وجميعهم يستمدون وجودهم الحقيقي من وجود الله، وهذا يعني أن مفهوم التفرد والإبانة عند جميع البشر المتدين ليس هو المفهوم الصحيح. هذا المذهب هو المشهور بمذهب.."وحدة الوجود"..وقد رد البعض عليه قديماً وحديثاً بنظريات عقدية أشهرها أن الله هو الوحيد الذي هو.."واجب الوجود"..أي لا موجود قبل وجود الله، أما المخلوقات فهم.."ممكن الوجود"..أي وجودهم بين الحقيقة والعدم لا يؤثر في وجود الله بذاته. المهم أن ظهور هذا المذهب جاء بسُنّة الدفع الوارد ذكرها في الأديان ، خاصةً الدين الإسلامي في قوله تعالى.."ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"..(البقرة:251)..أي وجود مثل هذه المذاهب ضروري حسب سنة الرب وحكمته في بقاء خلقه واستمرار الحياة، ولغاية تُفجّر طاقات الإنسان وإبداعاته في تصور الأفضل وسلوك الأميز، لكن الإنسان بفُجره وتسلطه يريد أن يحتكر هذه السنة لنفسه، فتنشأ الصراعات والحروب ويعلو المجرمين والطُغاه ليحكموا رقاب الناس بالباطل، فينتشر الجهل وتنحط الأمم. والسؤال الذي يدور دائماً في هذه الأحوال التي يعلوها الرفض والإقصاء والاضطهاد، إذا كان الله قد ارتضى لعباده أن يكونوا على هذه الأديان فكيف يسوّغ الإنسان لنفسه أن يزعم غضب الله على وجود هذه الأشياء، حينها يُعلي مصالحه على مصالح الآخرين بل على مصالح الدين نفسه، ودليلنا في القرآن قال تعالى.." ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون"..[المؤمنون : 96]..فلو كان أي فكر هو سيئة بميزان الله فهو مدفوع بالحسنة، ولا يقول قائل أن الاضطهاد والقتل مجرد الرأي هو حسنة، بل سيئة لا يرضاها الله وتكسر نواميس الكون وتُحدث الخلل وعدم التوازن الذي هو في النهاية مدعاةً للفُجر وشيوع المظالم. إن ما حدث للحلّاج هو مأساة لا زال تلاميذه يرددون مظلمته إلى الآن، رغم أنه مقتول منذ أكثر من ألف عام، لكن على ما يبدو أن مأساته اتصفت بصور مظالم كثيرة أشهرها مظالم آل البيت وإحياء ذكرى استشهاد الحسين في موقعة الطف عام 61ه. وبغض النظر عن ماهية أفكار الحلّاج فما حدث له هو صورة من صور القمع والكبت التي هي ألدّ أعداء التنوير، نُلاحظ أنه منذ قتل الحلّاج ومن قبله اضطهاد المعتزلة وأهل الرأي وقد توقف الفكر والاجتهاد، وجَمُد الدين الإسلامي إلى حدود وأفهام أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل وأخبار البخاري ومسلم، في قرار إسلامي اتسم بالغباء المفرط وقتل النوابغ والمبدعين وتكريس ثقافة الانهزام وشيوع غريزة النقص، في انتقال عجيب من رحابة الفكر وحرية الاعتراض والنقد إلى تسلط الجُهّال والكَذَبة وسيادة كل مذاهب التقليد والتعصب الأعمى. كان هذا التقليد منتشر قديماً قبل مقتل الحلّاج وخصوصاً في عهد الدولة الأموية التي قتلت مبدعين عظام ومفكرين تنويريين كمعبد الجهني..(ت80ه)..والجعد بن درهم..(ت105ه)..وغيلان الدمشقي..(ت106ه)..والجهم بن صفوان..(ت128ه) وهؤلاء جميعاً كانوا من صفوة مفكري العرب والمسلمين الذين لا يقلون شأناً عن طه حسين ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وفرج فودة ونصر أبو زيد ، لكن قتلهم التعصب الأعمى والتقليد الفاضح الذي يُمثل كما قلنا جانب العاطفة في العقل الإنساني، لكن قد يكون ممثل العاطفة على قدر من الوعي لا يحمله على العدوان، أما هؤلاء فقد اعتدوا وقتلوا المبدعين ولم يكن لهم من العقل شيئاً، وأقل ما يُوصفون به أنهم أعداء للإنسان وللأديان وللحضارة. الشاعر المصري الكبير.."صلاح عبدالصبور"..ت 1981م، له مسرحية شعرية بعنوان.."مأساة الحلّاج"..أعاد فيها صياغة قصة الحلاج ونضاله المجتمعي، ووصل إلى أن سبب محاكمة الحلّاج وقتله لم يكن فقط بسبب آرائه الدينية بل لآرائه الاجتماعية والفلسفية والإصلاحية ، أما المسرحية فلها بُعد فلسفي رائع أنصح به، وغير المسرحية فلصلاح عبدالصبور رأي شهير في الحلّاج ساقه في كتابه.."حياتي في الشعر"..قائلاً..." كان عذاب الحلاج طرحا لعذاب المفكرين فى معظم المجتمعات الحديثة ، وحيرتهم بين السيف والكلمة ، بعد أن يرفضوا أن يكون خلاصهم الشخصى بإطراح مشكلات الكون والإنسان عن كواهلهم هو غايتهم ، وبعد أن يؤثروا أن يحملوا عبء الإنسانية على كواهلهم"..(حيات في الشعر ص219). ويظهر من كلام عبدالصبور تأثره بالحلّاج ليس فقط كشاعر أو مفكر ولكن أيضاً كمُصلح وتنويري رفيع، فقد ساقه بين كل من احتاروا في خيار السيف والكلمة، والمعنى أن كثيراً من المفكرين والنوابغ يملكون العلم والقدرة للنهوض ..لكن يخافون على أنفسهم ويؤثروها على البشرية في سلوك أناني غير مسئول، لكن الحلّاج لم يكن كذلك، قرر أن يؤثر نفسه وعذابه على عذاب البشرية من الجهل، فكان جزاءه اجتماع الفقهاء والغوغاء عليه، في تكرار لما سُقناه في الحلقة السابقة لمأساة .."هيباتيا"..وكأن قضية التنوير هي في ذاتها مأساة..!