يا الله.. معقولة!!.. فى تلك اللحظة شعرت بأن الزمن عاد بى للوراء.. وأننى أصبحت جزءًا غير عادى من حقبة تاريخية ماضية تعود إلى نهاية عام 968م.. كل شىء كما لو كان قد شُيّد فقط بالأمس.. ورائحة العرق والجهد والتعب والإرهاق، ورائحة المصريين القدماء فى كل جزء منها، اختلطت بعرق المهندسين وعباقرة العصر الحديث الذين نفخوا فيها الروح من تعبهم وإرهاقهم.. أكتب لكم الآن من شارع المعز لدين الله الفاطمى وسط القاهرة، الذى يحمل كل تاريخ مصر، كما لو عادت الآثار تنبض بالروح من جديد.. كما لو كانت قد شُيّدت بالأمس فقط بعد أن تداخل حلم وفكر وعبقرية فاروق حسنى، وزير الثقافة، للكشف عن رونق وبهاء آثارنا وعظمتها وعبقريتها.. لم يستوقفنِ هذا الشارع من قبل.. فقد كنت أعبر من وسط الحسين دائمًا دون أن أنعطف ناحيته جراء غرقه فى مياه الصرف الصحى.. وفوضى الزحام.. والعشوائيات.. وعندما تلقيت هدية فاروق حسنى، وزير الثقافة، وهى عبارة عن موسوعة تصويرية عن الشارع، ظللت أقلب فيها والصور تتتابع أمام عينى.. فى البداية لم أصدق أن هناك شارعًا بهذه الروعة التى جاءت بها تلك الصور.. بل شعرت بأننى لم أعرف هذا الشارع من قبل.. ألقيت بالكتاب جانبًا إلى أن طلبت من بعض الزملاء بحزب شباب مصر والصحفيين بالجريدة، عمل جولة فى منطقة الحسين، والتعرف على شارع المعز، على الطبيعة.. وعندما دخلت الشارع صدمتنى المفاجأة، عدت بعدها ولدى إحساس بعدم التصديق.. وعلى الفور اتصلت بوزير الثقافة قاطعًا اجتماعاته لحظتها.. قائلاً فى عفوية: ما هذا الجنون الذى رأيته فى شارع المعز أيها الرجل الرائع!! قلتها ويتملكنى إحساس بالفخر والعزة.. وجاء صوت وزير الثقافة على الطرف الآخر من الهاتف قائلاً بطفولية مُحببة: هل رأيته؟!.. سألنى السؤال وهو يتحسس الإجابة مثل الأب الذى يفتخر بابنه أمام الجميع بعد سهر الليالى والتعب وطفح الدم فى تربيته.. نبرة صوت الرجل كشفت عن تعامله مع مشروع القاهرة التاريخية الذى يُعد شارع المعز جزءًا رئيسيًا منها باعتبار أن هذا المشروع هو حلم الأحلام الذى طالما تمنى تحقيقه.. تركت فاروق حسنى يتحدث واستمعت إليه.. شىء رائع هذا الرجل.. لقد واجهته فى أول لقاء بيننا منذ عدة سنوات برأى لم يحترم أى قواعد للبروتوكولات المتعارف عليها.. قلت له لحظتها: لقد استوقفنى جنونك.. وأفكارك الأشد جنونًا منك.. قلتها وكنت أعنيها.. فكل المثقفين الذين يقودون التغيير يجب أن يتحلوا بالجنون.. جنون الفكر والحلم.. والعبقرية.. فاروق حسنى هو ذلك النوع من هؤلاء الرجال.. بعض المثقفين حاول أن يشن ضده حروبًا عصبية.. لكنه فى كل معركة كان يخرج منتصرًا وأقوى.. الرجل حمل فى صدره الكثير من الأحلام.. لكن المشكلة أن أحلام هذا الرجل كانت كبيرة.. وكان الواقع صعبًا والتحديات أكثر.. لكن حلمه فى بعث شارع المعز لدين الله للحياة تحقق، حيث نجح فى إنقاذه من براثن الفوضى والإهمال والعشوائية والاختناق والانهيار.. كان لديه حق وهو يقول : "أعترف بأن المشاعر كانت مضطربة، وأنا أتوثب قرارى بضرورة الإنجاز فى شارع المعز.. كانت مزيجًا من التوجس من هذا الكم الهائل من علامات التاريخ الماجدة، والرهبة من هذا الكيف الأثرى الرائع، والإشفاق من حجم الجهد اللازم لإنجاز هذا العمل، والتكلفة التى قد لا تواتى بها الظروف، واستجماع الكوادر والوثائق وحفز الأطراف لتكون على رغبة متساوية لإحياء القيمة.. كل هذا وأكثر.. لكن لابد من الإنجاز الذى يتوقف معه الإهدار والذى يقى الأجيال القادمة تلك الأسئلة والمشاعر المضطربة.. إذن فالأمر يتجاوز التحدى إلى كونه مغامرة!!.. وكل خطوة فى اتجاه شارع المعز ستجلى قيمته بشكل جزئى، وسواء أتاحت الظروف تكملة المشروع أو تركناها لمن بعدنا، فالمهم أنناء بدأنا.. بدأنا ما يشجع الآخرين على الاستكمال وعافيناه من مبادرة أو مغامرة البداية.. سيما الإنجاز فى مجالات المتاحف والآثار المصرية والقبطية والفرعونية يمثل سجلاً مبشرًا ومحفزًا لكنه لا يجب الاكتفاء به فقط، لأن عيون العالم الأوسع ناظرة إليه فليكن للحضارة الإسلامية وأثارها فى مصر نصيبها المستحق من الجهد".. تلك هى كلمات الرجل وسطوره التى أعدت قراءتها فى بداية موسوعته عن شارع المعز.. وهى كلمات تكشف حجم التحديات التى واجهته وواجهت فريق العمل لحظتها، خاصة أن الشارع كان قد تحول إلى بركة من المستنقعات والضوضاء والفوضى والتآكل. ولقد كان اختيار فاروق حسنى شارع المعز تحديدًا عبقرية فى التعامل مع اختيار الحلم، خاصة إذا عرفنا أن هذا الشارع يمثل تاريخ بلد بأكمله.. فبعد أن استقرت الأمور للفاطميين فى شمال أفريقيا ونجاحهم فى نشر مذهبهم وتأسيس دولة مستقلة لهم كان طبيعيًا أن تتجه أنظارهم إلى مصر فى ذلك الوقت، واستطاعت قوات الفاطميين بقيادة قائدها المحنّك "جوهر الصقلى" هزيمة الجيش الإخشيدى، ودخول مصر فى عام 358ه/968م وبعد أن استتبت الأمور ل"جوهر الصقلى" فى مصر كان أول ما فكّر فيه هو إنشاء مدينة جديدة تكون حاضرة للدولة الفاطمية، وعاصمة جديدة، وقد اعتمد تخطيط "جوهر الصقلى" للمدينة على شارع رئيسى يمتد من باب "الفتوح" شمالاً وحتى باب "زويلة" جنوبًا.. ولم يكن غريبًا أن يلخص هذا الشارع قصة القاهرة بأكملها، منذ الإنشاء الأول وحتى الآن.. ولتتجسد فيه جميع مظاهر الحضارة الإسلامية فى كل عصورها، ابتداء من العصر الفاطمى وحتى مطلع العصر الحديث مرورًا بالعصور الأيوبية والمملوكية البحرية والعثمانية، مع ملاحظة انتقال مقر الحكم ومركز الثقل السياسى إلى القلعة ومن بعدها إلى القاهرة الحديثة لم يؤثر كثيرًا على قيمة الشارع الحضارية والدينية والفنية والأقتصادية. الاختيار إذن لم يكن أبدًا عفويًا أو سهلاً.. الاختيار كان عبقريًا.. فقد نجح فاروق حسنى فى تحديد نوع الحلم وطبيعته.. لقد دفعتنى روعة ظهور هذا الحلم للواقع إلى أن أعاود دخول شارع المعز مُجددًا مع بعض الأصدقاء ليلاً.. وفى الليل كان فى انتظارنا حلم آخر.. فى الليل هناك تحفة معمارية وعبقرية أخرى.. وحلم مختلف.. حيث تم استخدام الإنارة بطريقة غاية فى الخطورة كشفت عن روعة التاريخ والآثار.. وعبقرية فاروق حسنى.. حيث تُعد إنارة الشارع ليلاً من أهم العوامل الجمالية التى تساعد على استيعاب جمال ورونق المبانى الأثرية والشارع العظيم، وللإضاءة تأثير عميق على المبانى قد يُسيء إلى الشكل الجمالى الأثرى وقد يساعد على تذوقه وإظهاره، وتُعد المشكلة الأساسية فى شارع المعز التداخل غير المُنظم للإنارة بين المبانى الأثرية والمحال المنتشرة على جانبى الأثر، وإنارة الشوارع العمومية.. هذا التداخل أدى إلى صورة عشوائية تؤثر بالسلب على رؤية المشاة بالشارع نتيجة للوهج الزائد إلى الحاجة، ولذا لزم التدخل لإيجاد أسلوب هارمونى للإضاءة يظهر جمال الأثر، وفى الوقت نفسه لا يؤثر على إضاءة الشارع العمومية، وكذلك إضاءة المحال بالشارع.. ولقد نجح فاروق حسنى فى إعداد نظام إضاءة خارجى للآثار يُعد هو الأحدث عالميًا والمُطبق فى العديد من المدن التاريخية بنجاح، وذلك من خلال استخدام كشافات إضاءة نظام "led" وهى تُعد من الأنظمة المتطورة للإضاءة، والتى تمنح حرية فى تغيير ألوان الإضاءة بألوان الطيف كاملة مع التوفير المالى لاستهلاك الطاقة الكهربية مما يعطى جماليات فنية يمكن بسهولة التحكم فيها علاوة على خفض التكلفة الناتج عن توفير الاستهلاك.. وتم تحديد أماكنها مع العناصر المعمارية المكونة للمبنى الأثرى بالواجهات والعلامات البارزة كالقباب والمآذن والمداخل التذكارية فتمت إنارة جميع الآثار على جانبى شارع المعز لدين الله الفاطمى، بالإضافة لساحة بيت القاضى بهذا الأسلوب البديع.. وحتى لا يتم تداخل بينه وبين إنارة المحال تم تكوين فريق عمل، وذلك للتنسيق مع المحال لإعادة صياغة إضاءة اللافتات والمحال دون الإخلال بالمنظومة الفنية للشارع مع تعديل إضاءة الشارع بما يتلاءم مع الروح التراثية للمكان باستبدال فوانيس ذات طابع تاريخى مكان أعمدة الإضاءة التقليدية الموجودة بالشارع. **** أخيرًا يبقى لنا وقفة: رجل بهذا الحجم وهذا التاريخ.. وهذا الفكر.. وهذا الجنون.. ترجم حلمه للواقع.. ونجح فى نفخ الروح فى شارع مثل شارع المعز.. أليس جديرًا بأن يقود ويدير منظمة مثل منظمة اليونسكو؟!.. إنه ليس دفاعًا عن فاروق حسنى بقدر ما هو دفاع عن وطننا العزيز مصر الذى يزخر بعباقرة مثل هذا الرجل.. فهو مؤكد قادر على أن يحقق آلاف الأحلام المشابهة.. وينفخ فى حضارة العالم بأثره من روحه وعبقريته.. ويحوِّل التاريخ الماضى إلى جزء من الواقع مثلما فعلها مع شارع المعز . جريدة شباب مصر الأسبوعية العدد 151 31مارس2009 م