لا أدرى لماذا قفزت إلى ذهنى صورة أمى رحمها الله فى تلك اللحظة ؟.. لا أدرى لماذا ترنحت فى خيالى حكايات كثيرة عن الوطن والعشق والحياة والحلم والأمل والمستقبل وقرية السمارة وأيام المعتقل ومظاهرات الجامعة وسنوات الغربة والترحال... وخطابات كثيرة كتبتها من بلاد بعيدة ضمنتها مشاعر شاب مراهق حلم بأن يكون شيئًا ذات قيمة لوطن أحبه بجنون رغم كل التحديات ؟ .. لا أدرى لماذا شعرت بدهشة وأنا أراجع فى ذاكرتى صورة الذين كفروا بهذا الوطن فانتبذوا مكانا قصيا عنه وسقطوا من حسابات الزمن والتاريخ .. ***** لحظة تمنيت أن أتمرد فيها على نفسى .. أن أخرج من ثوبى وجلدى .. وعقلى .. وأصرخ .. أصرخ لأخرج كل الوجع الذى شعرته عبر تلك الحقبة الزمنية التى أتوقف الآن عندها غير مصدق .. وعندما صدقت تمنيت أن أبتعد عن الجميع باحثا عن ملاذ آمن يعصم جسدى النحيل والمتعب دائمًا من أن يسمع أحد صوتى ثم وبأعلى صوتى أعاود الصراخ والبكاء والضحك فى ذات الوقت .. فداخل هذا الصدر تعتمل أشياء كثيرة .. أشياء لم أجرؤ ذات لحظة على إخراجها .. حرصًا على تلك التجربة التى عشناها عبر ألف ... ألف عام ... ***** لم نتذكر أن عامًا قد مر على صدور جريدة شباب مصر إلا قبلها بساعات قليلة .. لم يكن هناك إحساس حقيقى بالتصديق.. ولم نكن نتخيل أبدًا أن عامنا لم ينته بعد فقد ظننا أنه قد مر منذ ألف عام.. فالوجع والتعب والإرهاق الذى عانيناه كان كبيرًا.. مساحته تمتد لألف عام.. آلامه أكبر من كل تلك الأيام.. متاعبه كانت كثيرة.. فكانت أيامه طويله... بطول كل هذا الوجع ... ***** منذ الخامسة صباحًا يبدأ يومى... أمام الكمبيوتر ألقى بجسدى حتى السابعة صباحًا.. بعدها أتوجه لمقر الحزب والجريدة فهما فى مكان واحد... وخلف المكتب وبين العديد من أجهزة الكمبيوتر الشخصية أتمدد حتى وقت متأخر من مساء كل ليلة.. لا راحة.. لا إجازات.. لا طعام.. فقط التفكير عبر خلية نحل تعمل دائمًا ... ***** معقولة .. !!! لقد مر علينا عام ... بعضهم نظر لبعضه غير مصدق.. ظنونى تصورت أن الأسابيع قد مرت سريعة.. لكن تعجبى كان من طول هذا العام دون كل الأعوام التى مرت من عمرنا .. ***** أنت سبب قلقى وألمى ومرضى دون كل أخوتك قالتها أمى وهى على فراش الموت ... كنت مصدرًا دائمًا لقلقها منذ الصغر.. رحمها الله فماتت قبل أن تحاصرها عشرات القلاقل والأوجاع بسببى.. مازلت أشعر بصرخاتها وصوت لطمها على وجهها لحظة أن بلغها نبأ اعتقالى فى إحدى المرات... مازلت أسترجع ألمها الذى يدوى فى داخلى .. مازال كل شيء يترنح فى صدرى.. المظاهرات الاحتجاجية على مشاركة إسرائيل فى معرض القاهرة الصناعى... لحظات التوتر والمناخ القلق الذى عم الأجواء... رموز السياسة والثقافة فى عربة واحدة جمعت الجميع وألقت بنا إلى حيث لا ندرى.. أيام طويلة عشناها داخل المعتقل.. خرج بعض من الصحبة بعد أن كفروا بهذا الوطن.. لكننى خرجت أكثر عشقا له.. فأيام المعتقل المريرة تجعلك تراجع أشياء كثيرة فى حساباتك.. وتنتهى إما إلى الإيمان بما تعمل أو الكفر بكل الموجودات من حولك .. كثيرون خرجوا بعدها وقد ألحدوا وكفروا بالوطن.. بينما أنا ازداد إيمانى ويقينى بهذا الوطن.. ازداد يقينى وعشقى للناس والتاريخ والجغرافيا فى هذا الكيان الذى يتمدد بقوة داخل القلب الواهن .. أمى صرخت.. وبكت... وانسابت دموعها على وجهها وقالت : كنت عارفة يا ابنى إن دى نهايتك... أبكتنى أمى وأنا هناك داخل أسوار المعتقل... من بكاء أمى زاد عشقى لهذا الوطن .. من دموع أمى شعرت أن ذلك الوطن لا يستحق منا أن نظل مكاننا لا نتحرك قيد خطوة .. من ألمها تزايدت قوتى .. عندما تم الإفراج عنا قررت العودة بسرعة لقريتى السمارة التى تتمدد هناك فى قلب مركز تمى الأمديد بالدقهلية .. كنت فى حاجة إلى أن أستنشق هواء قريتى الصغيرة.. وألقى بنفسى بين أصحابى وعائلتى ... وهناك وجدت فى انتظارى آلاف المنشورات التى وزعها كثير ممن حاولوا التصدى لخطوات أحاول قطعها على الطريق ضدى .. احتضنتنى أمى باكية : حرام عليك .. عيش حياتك بقى !!! ضحكت فى ألم .. همست فى نفسى : حياتى فى الموت يا أمى و.... عدت إلى القاهرة ***** أمسكت بالقلم لأول مرة وكتبت صفحات أطلقت عليها أقاصيص عندما كنت فى العاشرة من عمرى.. تنامى عشقى لهذا القلم عبر السنين.. أذكر أننى رسبت فى الثانوية العامة بسبب إحسان عبد القدوس حيث كان امتحانى فى مادة الرياضيات فى صباح اليوم التالى مباشرة عندما اشترى شقيقى محمد مجموعة قصصية جديدة له كان عنوانها "الهزيمة كان اسمها فاطمة".. فتركت المراجعة ومكثت طوال الليل فى قراءة القصص وتوجهت للامتحان وأنا أغالب النوم.. وفى اللجنة نمت دون أن أدرى .. وفى قصر ثقافة المنصورة تزايدت اللقاءات مع الصحبة والرفاق.. وتطايرت الأحلام والكلمات والأشعار والقصص والحكايات.. محمد خليل.. صفوت سليمان.. محمود الزيات.. فؤاد حجازى.. إبراهيم رضوان.. مصطفى السعدنى.. طارق العوضى.. السيد فتحى.. زبيدة جعفر.. غادة صبرى.. محمد ندا.. محمد عبد الوهاب السعيد.. طارق مايز.. محمد عمارة.. محمد رمضان.. وأسماء كثيرة حلمت بالمستقبل ... وحلمت أنا بالابتعاد عن الكرة الأرضية لأعرف كيف تسير حول نفسها ؟ ***** ... سنوات تلتها سنوات... وابتعدت عن مصر وحلم قديم يحلق حول العقل المجهد ... كثير من الصحبة سقط وكثير من الأصدقاء استسلم .. رعب اجتاح الفكر والعقل ... التحديات كبيرة.. ومغريات الاستسلام أكبر من الإرادة .. أيام من الجوع والتسكع على أرصفة القاهرة .. عمل متواصل .. ولا أتناول الطعام إلا كل عدة أيام توفيرًا للنفقات ... ووسط الدواجن والأغنام عشت فى غرفة فوق السطوح .. وأيام العواصف والرياح والدموع التى حرصت على أن لا يراها أحد.. والسؤال يدق الرأس بقوة : وماذا بعد ؟ ***** داخل بعض أحزاب المعارضة وبين الصحف وفوق شوارع القاهرة كانت التجارب كثيرة.. لكن هناك رغبة دائمًا فى الأعماق تلح للخروج بمشروع جديد للوجود.. مشروع يجسد حلم جيل جديد يعشق هذا الوطن .. ويرغب فى أن يساهم فى وضع لبنة فى قلب مشروع سياسى كبير .. فكانت فكرة حزب شباب مصر عام 2001م التى قامت على بناء مجتمع ثورة تكنولوجيا المعلومات فى عصر ما بعد صدام الحضارات .. صحف كثيرة هاجمت الفكرة .. كتابات كثيرة حاصرت العبد لله تتهمه بالتخريف والتفاهة والسطحية لأن فكرة الحزب تقوم على الإنترنت وثقافة ما بعد ثورته.. وتم رفض الحزب.. فأقمنا دعوى قضائية ضد القرار وكان مشروع جريدة شباب مصر الإليكترونية التى أطلقناها فى الأول من يناير 2003م والتى تعتبر الصحيفة الإليكترونية اليومية الأولى فى مصر والمنطقة العربية .. الجريدة لاقت ردود أفعال دولية حتى أنها كانت ضمن عشرة مواقع إليكترونية أجبرت الكونجرس الأمريكى على استصدار قرار سرى بإغلاق أى موقع إليكترونى ينتقد سياسة أمريكا فى منطقة الشرق الأوسط .. صوتنا ارتفع عبر هذه الجريدة اليومية ... فى الثانى من يوليو 2005م كانت البداية حيث حصلنا على حكم قضائى بقيام حزب شباب مصر ... لم نستسلم لقلة الإمكانيات .. لم نمكث بجوار أحزاب معارضة كثيرة تستمرىء المعاناة وقلة الإمكانيات.. قررنا انتهاج طريق جديد فى المعارضة .. العقلانية والحوار الهادى واحترام الآخر والبحث عن مساحات مشتركة معه .. تصدينا لتجارة جماعة الإخوان المسلمين المحظورة بالدين ووصلنا منها تهديدات مباشرة . تصدينا لوقاحة بعض أحزاب المعارضة وبعض الصحف التى تنتهج الوقاحة طريقا لها .. عقدنا عشرات المؤتمرات والندوات فى قلب القرى والنجوع والكفور بعد أن تركنا القاهرة ..
التف حولنا الآلاف من البسطاء.. صوتهم بدأ يأخذ طريقه للنور عبر حزب شباب مصر ... ***** وسط كل هذه التداعيات حلمنا بإخراج جريدة شباب مصر الورقية للوجود .. رغم قلة الإمكانيات جازفنا بالصدور .. أحدثنا ثورة تكنولوجية تعد الأولى من نوعها عالميًا.. حيث أطحنا بتجهيز الصحف بنظام أجهزة "الآبل ماكنتوش" لأول مرة فى تاريخ الصحافة المصرية.. وقمنا بالاستعانة بنظام أجهزة الكمبيوتر الشخصية.. حتى أن مؤسسات صحفية قومية كبرى أرسلت وفودها للاستعانة بتجربتنا دون إحساس بالتصديق . ***** فى الرابع من أبريل 2006م خرج أول عدد من جريدة شباب مصر للوجود .. خرج العدد الأول دون أى رأس مال يُذكر نمتلكه .. ***** أيام من المعاناة والإصرار والتحدى وشباب غض يواجه العواصف بقوة وإرادة وتصميم ... ***** أحد أصحاب الصحف من المليونيرات أنفق على عشرة أعداد من صحيفته والتجهيز لها مليونى جنيه وقال صارخًا : لا أعرف كيف ينفق هذا المدعو أحمد عبد الهادى على جريدته خاصة وأنا أعرف أنه متسول هو والذين معه؟ ضحكت من السؤال فهو سؤال طبيعى.. خاصة وأن كل الأحزاب فشلت فى إصدار صحف منتظمة لها.. فيما عدا أحزاب مثل : الوفد والتجمع والناصرى والأحرار فهى أحزاب تعمل على الساحة منذ أكثر من ربع قرن من الزمان ويدعمها شخصيات ذات ثقل مالى عظيم .. ***** كلنا نعمل فى كل شيء .. لا يوجد بيننا رئيس حزب أو رئيس تحرير .. الكل فى واحد .. ***** بعضهم يحاول بصفة مستمرة تعطيل مسيرتنا .. بعضهم يحاول عرقلة تحركاتنا .. بعضهم يحاول ويحاول .. لكننا أبدًا لا نعبأ به بل ولا نؤرق أنفسنا عناء الرد ونفكر فى كيف نضع طوبة خلف أخرى من أجل أن يعلو البناء .. ***** التجربة مرهقة وصعبة وشاقة للغاية لكنها تجربة ممتعة صنعها شباب مصر .. ***** إنهم فتية آمنوا بحلمهم .. أمنوا بقدراتهم .. آمنوا بهذا الوطن .. عشقوه وعشقوا الحلم الذى عنه يبحثون .. فكان من الطبيعى أن تتوج مسيرتهم بالنجاح .. ويأتى عامنا الثانى بعد ألف عام .. لكنه على كل حال أتى ونحن مستمرون وحريصون على أن نستمر .. ***** الأعزاء فى شباب مصر كل عام ونحن بكم ومعكم .. كل عام وأنتم دائمًا حريصين على الاستمرار .. كل عام وشموعكم تتزايد .. كل عام وخطوات تقطعونها فوق الدرب تزيد .. كل عام والأعداء الذين يحيطون بكم يتزايدون فبقدر عددهم تأكدوا من قدر نجاحكم .. كل عام وأنا يا أعزائى دائمًا معكم .. فدونكم لا معنى للنجاح ولا قيمة للرحلة ولا قيمة للطريق . جريدة شباب مصر العدد 52 10ابريل2007