تخيل معي أحداث الثورة المصرية منذ بدايتها في يوم 25 يناير 2011، تجدها حلما جميلا بكل معنى الكلمة. فمن كان يظن - مجرد الظن – أن يتمكن الشعب المصري الأعزل الذي طالما عاش في ظل الطاعة، حتى ظننا أنه استدمجها، وطالما تعايش مع إهدار الكرامة والتعذيب، حتى ظننا أنه استعذبه، من كان يظن أن يخرج هذا الشعب في معظم مدن مصر ويظل منتفضا ومعبئا طيلة ستة عشر يوما إلى أن سقط نظام الاستبداد وتنحى رأسه وغادر قاهرة المعز؟ ومن كان يظن أن يسقط نظام مبارك الأعتى في الاستبداد في المنطقة العربية وصاحب الدولة الأقوى المكرسة بكل مؤسساتها ومقدراتها لتأبيد حكمه وتوريثه لنجله بهذه السهولة وكأنه ضرس أكله السوس، وفي هذا الوقت الوجيز؟ كانت الثورة المصرية حلما طالما داعب أذهان الليبراليين ودعاة الديمقراطية والدولة المدنية الحديثة في مصر. ولم يكتفي الليبراليون والديمقراطيون من نخبة مصر المثقفة بالحلم، بل نزلوا إلى الشارع مرارا وتكرارا على مدار عقد أو يزيد من الزمن. وكانوا في ذلك أقلية صغيرة للغاية قياسا إلى عدد سكان مصر، لدرجة أن النظام كان يستخف بهم وبمطالباتهم ويستهزئ بهم، على نحو ما قال الرئيس المخلوع عندما قال عمن نظموا برلمانا موازيا "خليهم يتسلوا" [دعهم يسلوا أنفسهم]. وكذلك طالهم من النظام البائد – فضلا عن الاستخفاف والاستهزاء – بطشا شديدا، لم يرحمهم منه سلمية تحركاتهم. من ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما فعله النظام وبلطجيته بالمتظاهرين ضد الاستفتاء على تعديل الدستور في عام 2005، حيث قاموا بضرب المتظاهرين وتمزيق ملابس السيدات منهم في الشوارع. ومن ذلك أيضا ما طال كل سكان مدينة المحلة في 6 أبريل 2008 من تنكيل وتعذيب وتضييق على الأرزاق. ومن ذلك أيضا ما طال مناضلين فرديين من تعذيب وتشهير وتضييق، كما حدث مع أيمن نور وعبدالحليم قنديل وغيرهم. وبالفعل جرت أحداث الثورة المصرية كالحلم الجميل. فمنذ اللحظة الأولى للأحداث كان مصطلح الثورة حاضرا على الألسن. فعلى خلاف من يقولون أن مطالب الثورة المصرية تصاعدت تدريجيا بفعل أخطاء النظام وتعنته، كان المتظاهرون في شارع رمسيس منذ اللحظة ينادون "ثورة ثورة حتى النصر، ثورة في كل شوارع مصر"، وكأنهم ينادون مواطنيهم بأن يخرجوا في كل شوارع مصر ولا يعودوا إلى السكون إلى أن يسقط النظام. وقد التقط الشعب منهم الرسالة، فخرج الناس غير المسيسين الذين طالما كانوا يمرون على المتظاهرين القلائل غير عابئين بهم وبفعلهم، وكأن فعل هؤلاء ومطالباتهم لا يمت لهم ولبلدهم بصلة. وخرج المصريون من المعبيئن سياسيا على مر العقد المنصرم، ومن ورائهم عامة الناس الذين طالما طلقوا السياسة إلى الشوارع وخاضوا معارك رائعة بصدور عارية ضد آلة القمع المباركية التي لم تتردد عن قنص المتظاهرين وحتى الأطفال والنساء الواقفين في بلكونات البيوت ونوافذها. صمد ثوار مصر من عامة شعبها وبقيادة نخبته المثقفة الليبرالية حتى تحقق لهم ما أرادوه وتنحى الدكتاتور وخرج ذليلا من عاصمة دولتهم. وفي مقابل النضال المشهود الذي مارسه الليبراليون والديمقراطيون المصريين على مدار العقد المنصرم وقيادتهم للثورة المصرية في 25 يناير وتبشيرهم لها وتكوينهم لخميرتها، لم يكن للسلفيين ذوي الجلابيب القصيرة واللحى الطويلة من إسهام في السياسة غير الاستهزاء بالليبراليين وتكفيرهم وتكفير مطالباتهم. فكثيرا ما كنت أسمع شيوخ السلفيين في المسجد المجاور لبيتي وهم يسخرون من المظاهرات، حتى من قبل الثورة بسنوات، ويؤكدون على أنها والديمقراطية بدعة غربية. وكثيرا ما نسمعهم في هذا المسجد وغيره من المساجد غير الخاضعة لوزارة الأوقاف يطلقون ألسنتهم في حق الليبراليين والمثقفين وحتى رواد النهضة العربية والمصرية من أمثال رفاعة الطهطتوي ومحمد عبده وطه حسين. وفي عز أيام الثورة كان دعاة الظلام هؤلاء من السلفيين والجماعات الدينية التي حاربت الدولة قبل عقدين يكيلون للثورة والثوار وللديمقراطية ويذكّرون الناس بوجوب طاعة الحاكم وحرمة الخروج عليه ويشددون على الأمن والاستقرار وغيرها من الأقوال التي كانت تصب في صالح تغليب جانب النظام السابق على الثورة والثوار. وهكذا، فبعد أن ظل مثقفي مصر وناشطيها الليبراليين يناضلون في الشوارع والجامعات والمؤسسات على مدى عقود من أجل الديمقراطية، وبعد أن كان السلفيون لا حديث لهم إلا عن فرج المرأة وأذكار دخول المرحاض، طبعا إلى جانب تكفير الديمقراطية والمطالبين بها، وبعد أن نال الليبراليون الديمقراطيون من النظام ما نالهم من بطش وتقييد وتضييق، وبعد ما نال شيوخ "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" من سيل الثروة ووافر الشهرة حتى تسابق الشيوخ فيما بينهم على ارتياد القنوات والبرامج، بعد كل ذلك يطل علينا السلفيون ليمارسوا السياسة التي طالما طلقوها وطالبوا الناس بطلاقها، وكأن السياسة وأفعالها لا تؤثر على الناس في شيء، وذلك طبعا كان خدمة لنظام مبارك الذي ترك لهم في عقده الأخير في الحكم الباب على الغارب لينشروا أفكارهم الظلامية ويفسدوا ثقافة المصريين. وكما كان السلفيون يخدرون الناس في عهد مبارك بإبعادهم عن السياسة والحياة اليومية ولقمة العيش والبطالة وإهدار الكرامة بالحديث عن وجوب النقاب وعذاب القبر وأفضال تقصير الثياب وإطلاق اللحى، تجدهم اليوم يمارسون نفس التخدير والتضليل عندما يتعاطون السياسة. فشعارات من نوع "إسلامية الدولة" أو "تطبيق الشريعة" أو حتى "القرآن دستورنا" عندما تحل محل "خبز حرية عدالة اجتماعية" و"دستور يقلص صلاحيات الرئيس" و"القضاء على الفساد" و"الدستور أولا" نكون بالفعل أمام تزييف لوعي الناس ونزع السياسة منهم وتحويلهم عن قضاياهم الأساسية إلى أخرى لا طائل من ورائها إلا التوطيد لقادة تلك الجامعات. وهكذا يحاول السلفيون أن يستولوا على محصلة نضال الليبراليين على مدى عقود ويسرقوا حلمهم بدولة ديمقراطية مدنية تحترم الإنسان وحقوقه الإنسانية والسياسية والاقتصادية، ويحولوه إلى كابوس دولة – أو بالأحرى لادولة – طالبان ووزيرستان والصومال التي تتباهى بقطع الأيدي والرؤوس وحبس النساء في البيوت وعدم تعليمهم ورفض الحداثة بكل منجزاتها السياسية والثقافية والتقنية. فهل ينجح السلفيون في تحويل حلم الثورة المصرية إلى كابوس.