لاشك أن التجربة العربية الفريدة التى خاضتها وتخوضها العديد من الأنظمة التى تميزت بسلطتها الشمولية، وهي بالطبع الصفة أوالسمة المميزة التى تغلب على طابع وسياسة معظم أوكل تلك الانظمة، المعروفة بطبيعة إدارة أنظمتها وسلطاتها الشمولية المهيمنة بجميع إداراتها وهيئاتها التنفيذية والتشريعية، وذلك إنطلاقا مما يتمتع به الزعيم أو" القائد الضرورة " من صلاحيات وسلطات مطلقة، وهومصطلح أومفهوم (إستعماري إستعبادي دكتاتوري) فى طبيعة ممارساته كما هوواضح وفقا لهذا السيناريويضفي على القائد المبجل هذه الهالة الهلامية من القداسة، كرمزله وضعه ومنزلته واعتباره الخاص، من الدرجة الإمتيازية الرفيعة فى قمة النظام، والذى يجعله بالتالي يحظى بكل هذه الهيبة والمكانة الكاريزمية المتميزة التى يتمتع بها وهو يعتلي القيادة فى أعلى هرم السلطة وسدة الحكم، فإضافة لما يمتلكه هذا القائد من تلك السلطات التنفيذية والتشريعية، وكل تلك الصلاحيات والقرارات التى تمنحه السيطرة المطلقة على جميع مقدرات وثروات ومكتسبات البلاد والعباد، فهويعني واقعا بأنه هووحده المتصرف والحاكم بأمره الذي يمتلك بيده ودون غيره تلك الهيمنة الكاملة والمطلقة فى الحسم وامتلاك القرار. ومن هنا أقول أن هذه التجربة التى مرت بها العديد من الانظمة العربية ومنها نظام(العراق الأسبق نموذجا)أقول أنها قد بدأت مؤخرا فى العد التنازلى لانهيارها وزوالها، وتلاشى ذلك المفهوم الاجوف حول القائد الضرورة الذى صنعته بعض التيارات الشعاراتية إن صح التعبيرالتى تبنت تكريس ونشرهذه الثقافة البائسة فى مفهوم العقل والفكروالثقافة العربية فى الوطن العربي، والذى لم تجني منه شعوبها بجانب هذه الشعارات، سوى البؤس والخذلان وزجها فى أتون الصراعات والحروب والمعارك الخاسرة..! فمن السخريات هو أن تقتضي سياسة القائد الضرورة، على أن يكون " القائد الضرورة"هو الغاية والرمزوتكريس وتعميم وزرع بذورمفاهيم هذه الثقافة فى الأذهان والنفوس، وبالتالي أيضا فهوالهدف الأسمى الذى تقتضيه مصالح الأمة والوطن، وأولها بالطبع مصالح القائد الضرورة السلطوية المطلوبة، والتى قد تصل فى تدرج بعض مراحلها إلى درجة التقديس، والتحذيربعدم المساس بشخصيته ومكانته بأي حال من الأحوال، وإلا عرض صاحبها للعقاب وأعتبرت تلك جريمة بل جنحة كبرى تهمتها الخيانة العظمى التى تصل عقوبتها إلى الإعدام..! ومن هنا جاءت أهمية قوانين هذه السياسة من أجل المحافظة على تطبيقها وتنفيذها، خاصة وأنها قد وضعت بحرص شديد من قبل القائد ذاته، لأنه ليس هناك شريك آخرأومن هومؤهل أومن لديه الصلاحيات بالمشاركة فى وضع تلك السياسات، وحتى يتم تطبيقها وتنفيذها على أرض الواقع بكل دقة وحرص شديدين، مصحوبة بالتعليمات والأنظمة المشددة والقوانين الصارمة، بما تتضمنه من بنود مهمة، لجانب ضخ الحملات التعبوية الإعلامية والإلزامية المكثفة، وعلى صعيد جميع المجالات، شاملة المنابرالدينية والخطاب الإعلامي لجميع وسائل الإعلامة الداخلية والخارجية، بهدف الوصول إلى المتلقى أينما كان، كما قد لا يخلوالأمرمن هدف بعث رسالة ضمنية (ضبابية)غيرمباشرة لبعض مراكزالقرارفى الخارج، مفادها التعريف بمتانة وحصانة وقوة البلاد، وبما يحظى ويتمتع به القائد من هيبة وحب يحيطه به شعبه الذى يلتف حوله، فى ظل جهوده ومساعي سيادته الحثيثة وما يقوم به من إنجازات فى ميادين الحرية والديمقراطية ونشروتحقيق العدالة والنماء لمواطنيه. وأما الرسالة الأخرى التى يبعث بها للداخل، فهي للتأكيد على التعريف بمناقب وأمجاد ومكانة وأهمية القائد، إضافة إلى ما تضمنته هذه الرسالة من قوائم مطولة لأهم بنودها وهوالسجل الحافل الخاص، للسيرة الذاتية لسيادته وشجرة عائلته ونسبه الشريف، كما لم تهمل هذه التعليمات ضرورة الحرص على أهمية وضع ورفع اللافتات والشعارات الحماسية المؤججة للمشاعرالعاطفية الجياشة، التى تحث على الولاء والحب والإخلاص والسمع والطاعة "للقائد الضرورة" المظفرمن جهة، ومن جهة أخرى التأكيد على إبرازاللافتات والشعارات القومية العروبية، وخاصة فى الميادين العامة وعبرمراكزالحدود، بهدف الدلالة على تلاحم الوطن ووحدة العرب كأمة واحدة ورسالتهم الخالدة، وهذا يقصد به من ناحية ثانية تقديم التسهيلات للعرب الراغبين فى زيارة القطر، وبالتالي إخراس بعض المتقولين الخبثاء عما يزعمونه زيفا لما يلقاه ويتعرض له المواطن العربي من ذل ومهانة، حينما يمرللعبورعلى الحدود العربية، وتكذيبا أقصد تصديقا للأنشودة العربية الشهيرة للشاعرالسوري الراحل فخري البارودي: (بلاد العرب أوطاني..منَ الشّامِ لبغدانِ ومن نجدٍ إلى يَمَنٍ..إلى مِصرَفتطوان فلا حدٌّ يباعدُنا ولا دينٌ يفرّقنا .. لسان الضَّادِ يجمعُنا بغسَّانٍ وعدنانِ..!!) وهذه القصيدة كما نعلم قد دونتها إصدارات المناهج التعليمية العربية منذ أكثرمن خمسين عاما وإلى اليوم، وهي تدرس منذ المراحل التعليمية الأولى، كما يتم تدولها فى المناسبات والمحافل، وهوما يعكس عمليا طبيعة العمل بها عند إستقبال المواطنين العرب، أثناء سفرهم وزياراتهم لجميع الأقطار العربية، وبذلك فإنه يتم العمل بها وتطبيقها على أرض الواقع دون منغصات والحمد لله..!! وهكذا هوحال نمط ونموذج صورة مشهد "القائد الضرورة" العربي وأنظمته المقيتة والمستنسخة تتكررصورها، بعد عقود وأزمنة غابرة متخشبة فى مشاهد هزلية ساخرة، يصرفيها ذلك القائد المبجل ذاته، فى الحرص على التمسك بالبقاء فى منصبه، والتشبث بسلطانه وزعامته إلى مدى الحياة، إلا أن يموت أويقتل لاسمح الله، بعد أن يفوز فوزا ساحقا على منافسيه فى الإنتخابات الحرة الديمقراطية بنسبة 99% التى يزعم (الحساد) بأنها مسرحية مزورة..! وبذلك يكتسب القائد شرعيته وبسط نفوذه، ليس فقط من خلال فرض هيمنته على إمتلاك القرار، أومن خلال سيطرته على كل المقدرات والمكتسبات التى يمسك بها تحت الأرض وما فوق الأرض فحسب، وإنما تجاوزت هذه الهيمنة بكل ما يتصل بجوانب صلاحياته ونفوذه من هيمنه، على العقول والنفوس والقناعات، فقد تم رسمها كمنهجا عاما للعمل بها كما بينا، فى إدارة السياسات العامة للنظام، وتطبيقها على مستوى وصعيد الدولة ومواقفها الداخلية والخارجية، بجانب تكريس العمل بها فى جميع الأنشطة والفعاليات الفكرية والدينية والإجتماعية وكذلك الثقافية، والتى وجهت جميعها من أجل التعبئة والتوجيه بتقديم واجبات الشكروالحمد، بما فاضت به مكرمات وخيرات وأفضال القائد للدعوة والهتاف بحياته ونعمته، كما وأن هذه السياسة لم تهمل فى جوانب إهتماماتها لأهم عنصرفى بناء وتكوين الإنسان آلا وهوعنصرالتربية والتعليم، فغطت بشموليتها هذا الجانب لمناهج التدريس ووسائل التلقي والتعليم، وربما كان ذلك منذ الولادة وبداية تلقي التعليم الأولي وحتى الشهادات العليا، والتى تم دعمها وتعزيزها بالمواد والبحوث المتعمقة، التى تتناول سيرة وحياة القائد ومناقبه وإنجازاته الوطنية والقومية، كشخصية وطنية قومية مجاهدة ومتفردة فى الدفاع عن قضايا أمتها العربية والإسلامية، بجانب ذلك أعطت هذه السياسة من ناحية أخرى إهتمامها بالوسائل الدعائية والإعلامية المركزة، التى تبحث وتكرس لهذه الغايات، وتدعم وتعززبكافة الوسائط والعناصرالداعمة، التى ترفع أوتحمل العناوين واللافتات والصوروالتماثيل الضخمة والشعارات الطنانة، التى من شأنها الحرص على أهمية إبرازها ونشرها وعرضها عبروسائل ووسائط الإعلام، وكذلك توزيعها على جميع القطاعات والمنافذ، بالإضافة إلى وضعها وتوزيعها فى أنحاء الطرق والميادين والحدائق العامة، وجميعها لاتبارح أو تخرج كما هي الخطة عن فحوى الثناء على مآثرومناقب وأمجاد وإنجازات "القائد الضرورة" والدعاء والإبتهال لله بأن يحفظه ويبقيه ذخرا لشعبه ولأمتة العربية والإسلامية، تقديرا وإحتراما وإجلالا وثناء على سخائه وكرمه وما أسداه من خدمات لوطنه وأمته طوال حكمه وعمره المديد، خاصة بعد أن حظي الشعب بكل هذا الحب وهذا الوفاء، وهذه الرعاية الأبوية الحانية من قبل القائد المبجل، وما قدمه ومنحه لهم من عطاء، حتى أصبح القائد بفضل ذلك جزءا هاما من توجهاتهم وقناعاتهم وثقافتهم، إعترافا بفضله وأعماله وعطاءاته وإنجازاته السديدة..! لذلك فلاغرو ولادهشة فى أن تتصدرمكتباتنا العربية مجموعة كبيرة من الإصدارات الفكرية التى تحمل عناوينها الشعارات القومية والعروبية التى تتناول حياة القائد المقدام، ومواقفه وإنجازاته القومية والوحدوية المعادية للإستعمار والتصدي لقضايا التحررونشرالديمقاطية..! **************** أخيرا قد يتفق أويختلف البعض على وجود هذه الصورة النمطية لهذه القراءة (الكاريكتورية) الساخرة لنموذج "القائد الضرورة" فى واقعنا العربي، ولكن ربما أن الذى لايمكن الإختلاف عليه، هي تلك الحقيقة الناصعة التى جسدتها أحداث انتفاضة مايسميها البعض ب/ ثورة الربيع العربي، التى يبدوأنها قد أطلقت مسيرة زحفها، لوضع خاتمة النهاية، وبأيي ثمن لكابوس دكتاتورية الطغاة الجاثمة على الصدورمنذ عشرات السنين، وتبني خيارالمشروع الثوري النهضوي للأمة، لإزاحة فكرالثقافة الشمولية السائدة "للقائد الضرورة" العربي ومحوها من الذاكرة والفضاء والسماء العربية ، بعد أن سادت وهيمنت بنشروتكريس ثقافتها على مدى وفترات تلك المرحلة الزمنية الطويلة الغابرة، فلا مكان ولا حماية للطغاة والفاسدين منذ الآن.. فقد تكشفت التجربة الفريدة التى مرويمربها العالم العربي، عبرالأحداث المتتابعة قديما وحديثا، وفى ظل إنطلاق الثورات الشعبية التى نشهدها اليوم، عن حقائق دامغة أفضت إلى الكثيرمن النتائج المثيرة، حول الفضائع المذهلة التى خلفتها تلك الأنظمة، بجانب فضاعة الفساد المستشرى والسرقات المهولة لمئات المليارات والمكتسبات التى نهبت وأهدرت من أموال وقوت مئات الآلاف من الجياع والمحرومين والمعوزين والمسحوقين، فقد تعرت حقيقة الزعيم والقائد الضرورة العربي الكرتونية التى أفرزتها تلك الثقافة الموبوءة، والتى ترسخت جذورها فى الذهنية والعقلية العربية، منذ تلك القرون والعصورالظلامية السحيقة، ومنذ أن تم استنساخ أفكارها، عند بداية معاهدة (سايس بيكو) المشئومة، التى قسمت ومزقت الأمة العربية ونصبت قادتها وحكامها الأشاوس، ومن ثم ماتلى ذلك من تجدد مثير وللمرة الثانية، عند إستنساخ ذلك المشهد البائس، فى عهد الثورات والإنقلابات العسكرية، التى أتت بالحكام العسكرفى معظم البلاد العربية، وما جاءت به من شعارات طنانة، لم تجلب لشعوبها سوى البؤس والفقروالشقاء والويلات والحروب..!! احمد علي الشمر [email protected]