بقلم : حازم خيري الأنظمة الاستبدادية ودولة "ما بعد الاستعمار"(12): هذه المقالة ليست سرداً/وصفاً لأحداثٍ، فالسرد "الغائي" عملية تتقنها مراكز البحوث عندنا أو العارفون ببواطن الأمور، فيما يتعلق بالأحداث الجارية!! فإلى هؤلاء جميعاً يرجع الفضل في تزويد الجمهور العربي بمخزونٍ كافٍ من المعلومات أفترض جدلاً صحته ، بما يكفي لامتلائه معلوماتياً! بقي لجمهورنا العربي أن يعرف كيف يُحقق ويُحلل هذا الكم من المعلومات المُلقي في روعه! قراءتي هذه لن يكون لها أي معنى إذا لم تتجاوز السرد "الغائي" للأحداث الجارية، إلى قراءة نزيهة ومنظمة لها! وعليه، لا أنوي مُحاكاة ما تشهده مجتمعاتنا من تنبوءات يومية "مُبتذلة"، كون أصحابها يتعاطون مع الأحداث على خطورتها من واقع خبراتهم الطويلة مع مسابقات "كرة القدم"! وهو أمر لا يخلو من طرافة، وإن كان متوقعاً، في ظل شغل "كرة القدم" لأبناء أمتنا، لأكثر من نصف قرن! التنبوء اليومي عملية محفوفة بالمخاطر، ويغلب عليها طابع المغامرة، خصوصاً إذا احتكمنا إلى الأخطاء التى تُرتكب بوعي أو بلا وعي من جانب أكثر مفكرينا شهرة أو أكثر الناس علماً ببواطن الأمور. أما التنبوء متوسط الأجل فهو ينطوي على قدر أقل من المخاطرة ويتمتع بمزايا أفضل خصوصاً عندما يُوظف بطريقة المصباح الكاشف الذى تضيء الأشعة الصادرة عنه جوانب الحاضر بأكثر مما تحاول أن تستكشف خطوط المستقبل في الواقع الذي نعيشه. وربما كان من الأفضل والأهم والاقتراح لمارسيل ميرل أن نطرح أسئلة جيدة بدلاً من أن نحاول البحث عن اجابات لأسئلة رديئة، ولسوف احاول! "نظام الحكم" أو "النظام السياسي" هو أحد العناصر التى لابد منها لكيان/شخصية الدولة، إلى جانب الشعب والاقليم. أو بعبارة أخرى، "النظام السياسي" هو مجرد تسمية لأنواع الحكومات أو أشكال الحكم! وثمة تصنيف مُتداول يقول بإمكانية التمييز بين ثلاثة أنواع رئيسية من الحكومات(13): 1 الحكومة البرلمانية. 2 الحكومة الرئاسية. 3 حكومة الجمعية الوطنية أو نظام الحكم المجلسي فيما يسميه البعض. والمباديء الأساسية التى تميز كل نوع من أنواع الحكومات هي تداخل السلطتين التشريعية والتنفيذية في الحكومة البرلمانية، وانفصالهما في الحكومة الرئاسية، وأولوية السلطة التشريعية في النوع الأخير. ولقد اشتُق مفهوم "النظام system" في ميدان العلوم الطبيعية أولاً، لكي يأخذ في الاعتبار وجود علاقة بين العناصر الخاصة بمجموعة معقدة(النظام الشمسي مثلاً). وتم نقل هذا المفهوم، على أسس غير دقيقة، إلى ميدان دراسة المجتمع اعتباراً من القرن التاسع عشر فقط. وقد أسهمت أعمال علماء الرياضة في وضع القواعد النظرية لمفهوم النظام، كما أسهمت أعمال علماء الأنثروبولوجيا والاقتصاد في ادخال التحليل النسقي إلى الحقل الاجتماعي، ومع ذلك فقد تعين الانتظار حتى منتصف القرن العشرين قبل أن يظهر مفهوم واضح ومتماسك للنظام الاجتماعي، وذلك من خلال الدراسات التى قام بها تالكون بارسون(14). النظام الاجتماعي في أعمال بارسون صُمم على أساس أنه مجموعة مركبة من الوظائف المتنوعة. يقوم بكل وظيفة من هذه الوظائف، وبطريقة مميزة، قسم محدد من أعضاء المجموعة: فتقوم الأبنية العائلية بالمحافظة على النموذج، وتقوم الأجهزة الاقتصادية بالتكيف مع الضغوط الخارجية، وتقوم السلطات السياسية باتخاذ القرارت وتقوم المؤسسات الاجتماعية والثقافية بالعمل على استمرار الوفاق العام. وتتوافر للجماعات الأكثر كمالاً واتقاناً فقط، وظيفتان أخريان هما القدرة على تغيير الأهداف المرغوب الوصول إليها، والقدرة على التحول الذاتي بدون المساس بالشخصية. ولمنتقدي المدخل الوظيفي لبارسون، تؤكد التجربة، والرأي لأنصار بارسون، انه إذا كان صحيحاً أن الأنظمة الاجتماعية تحوز من الموارد ما هو ضروري لبقائها، إلا أن هذه الأنظمة مُعرضة للأعطاب الوظيفية، مثلها مثل الأعضاء البيولوجية، فهذه وتلك مُعرضة فيما يرى مارسيل ميرل، في ظروف معينة، للفناء التام إذا انفجرت من داخلها، أو تعرضت للضغط من خارجها. مُستفيداً من أعمال بارسون، عمد دافيد إيستون إلى بناء النظام السياسي، على ما يلي: أولاً، أهمية العلاقة بين النظام وبيئته. ثانياً، أهمية ضبط إيقاع النظام عن طريق سلطة قادرة على الرد الملائم على التحديات القادمة من البيئة. تحليل النظام أو التحليل النسقي ينطوى على دراسة مجمل التفاعلات التى تحدث بين النظام وبين بيئته. و"النظام" المكون من مجموعة محددة من العلاقات، هو في حالة اتصال مع بيئته من خلال آلية "المدخلات" و"المخرجات". وتتكون المدخلات من مجموعة المطالب والمعضدات المتجهة إلى النظام باعتبارها كل واحد . وفي داخل النظام تتحول المطالب والمعضدات تحت تأثير رد الفعل المركب للعناصر التأسيسية للنظام نفسه لتثير في النهاية رد فعل شامل من جانب سلطة نظم الايقاع، يعبر عن الطريقة التى يسعى بها النظام نحو التكيف مع التحريضات والضغوط النابعة من البيئة. وبينما يشكل رد الفعل الشامل هذا "المخرجات" استجابة response النظام أو رده على "المدخلات"، فإنها تمهد في الوقت نفسه لدائرة جديدة من رد الفعل "التغذية المرتجعة Feed-back" والتى تسهم بدورها في تعديل البيئة والتى منها ستنطلق مطالب ومعضدات أخرى. من هنا، اشتق ميرل تعريفه ل"النظام" بأنه: مجمل العلاقات بين عدد محدد من اللاعبين الذين يضمهم نمط بيئي معين ويخضعون لصيغة تنظيمية ملائمة. "نظام الحكم" عبارة ترهبها الأذن العربية ولا ترتاح لها كثيراً على نحو مُلفت، ربما لارتباطها في الوجدان الشعبي لدولة "ما بعد الاستعمار" بالحكومات الاستبدادية/الدكتاتورية، ولنقرأ قول "الخطير" محمد حسنين هيكل، على خلفية اندلاع الاحتجاجات الطلابية المناهضة لنظام الحكم في مصر عام 1968(15): "النظام المصري الذى حكم ابتداء من سنة 1952 لم ينشأ في بيئة سياسية، أعني(والكلام لهيكل) أن الثورة كان يجب بالمنطق العادي أن تنبع من جو آخر غير القوات المسلحة التى خرجت منها الطلائع التى قادت الثورة فيما بعد فعلاً". وربما أيضاً يرجع عدم الارتياح الشعبي لعبارة "نظام الحكم" لارتباطها بأحكام قضائية "دموية" "جائرة"، لطالما صدرت في حق شرفاء، طيلة عقود "ما بعد الاستعمار"، بزعم مناهضتهم للشرعية القائمة وتآمرهم لقلب "نظام الحكم"! حديثي في هذه المقالة عن الأنظمة العربية الحاكمة، لا أعني به سوى الأنظمة التى وُجدت في دولة "ما بعد الاستعمار"، واستوطنت الفضاء السياسي فيها لأكثر من نصف قرن، فقد تزامن ميلاد هذه الأنظمة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية واقرار القوتين العظميين كما ذكرنا لمبدأ الاستقلال "الزائف" للبلدان المُستعمرة، وفي مقدمتها بلدان عالمنا العربي وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء! هذه الأنظمة العربية الاستبدادية في دولة "ما بعد رحيل الاستعمار" أو دولة "ما بعد الحرب العالمية الثانية" ، منذ مجيئها إلى الوجود وحتى انهيارها الذى بدأ فيما أري مع الاطاحة بنظام صدام حسين في العراق ولا يزال مُستمراً حتى الآن، وعلى اختلاف مشاربها، ما بين قومي واسلامي وبعثي وشيوعي وناصري واشتراكي..الخ، كانت ولا تزال حريصة على توارث وتكريس مبدأ الاستقلال "الزائف"! وهي، وإن بدت متنافرة، تلتقي على تجفيف منابع الحرية! ولمن يسأل: لماذا سبقتنا مناطق كإفريقيا جنوب الصحراء في التخلص من انظمة "ما بعد الاستعمار"، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي؟ ولماذا تأخرت الاطاحة بهذه الأنظمة في عالمنا العربي، إلى ما بعد هجمات سبتمبر 2001! رغم ما نعلمه جميعاًً من تزامن حصول البلدان العربية والافريقية، على الاستقلال الوطني! بل إن دولة كمصر كان لها فضل السبق!! وهو ما أغرى على ما يبدو نظامها الحاكم في خمسينيات وستينيات القرن العشرين بالمُزايدة، بل والمُتاجرة بجهوده في دفع الأفارقة إلى الاستقلال، رغم حتميته، لدعم القوتين الأعظم له! بالطبع، لا أقصد من قولي هذا التهوين من جهود الأنظمة المصرية "ما بعد الاستعمار"، فهي مشكورة، ما أقصده هو التنبيه لأهمية تخليص الماضي من زيفه وأكاذيبه الكبرى، كون هذا أصون للتاريخ! فأن تعرض نصف الحقيقة وتخفي نصفها الآخر أخطر ألف مرة من أن تُخفي الحقيقة برمتها. لم يعد مقبولاً أن نُعمى عن بديهيات، صيرنا الجهل بها "لعبة" الأمم! دعم حكوماتنا ظل وثيقاً لحكومات إفريقية بعينها(16)، اشتهرت باستبدادها وتكريسها المُر لمبدأ الاستقلال الزائف! في مؤلفه القيم "الموجة الثالثة"(17)، حدد هنتنجتون معنى الديمقراطية بإيجاز بأنها نهج للحكم يقوم على الانتخابات الحرة والمؤسسات الثابتة وعلى تداول السلطة بين الأحزاب في نظام تعددي يكفل الحرية وتكافؤ الفرص لجميع الأحزاب السياسية القائمة وحرية الاختيار لكل الناخبين. ويقابلها على النقيض النظام الشمولى الذي يتولى الحكام في ظله السلطة إما بحكم المولد أو الصدفة أو الثراء أو العنف أو التعيين. والديمقراطية كما يحددها هنتنجتون ليست نظاماً للحكم وإنما هي "نهج" يُتبع في إطار نظام الحكم. فهناك ملكيات شمولية وأخرى ديمقراطية، كما أن هناك أنظمة حكم جمهورية شمولية وأخرى ديمقراطية. لكن الديمقراطية لا تتناسب بالطبع مع أنظمة الحكم العسكرية أو الدكتاتورية الفردية! في المؤلف نفسه تحدث هنتنجتون عن تقارير صدرت عام 1990، تؤكد أن التحول الجماعي إلى الديمقراطية الذي كانت تشهده أوروبا الشرقية، على خلفية تفكك الاتحاد السوفيتي، دعم المطالبة بالتغيير عندنا، ودفع الحكام في مصر والأردن والجزائر إلى الاسراع بإتاحة مزيد من المجال السياسي للتعبير عن السخط. ولتعضيد زعمه، أورد هنتنجتون تعليقاً، لصحفي مصري، على الانهيار الجماعي للأنظمة الشيوعية، هذا نصه: "لا مفر من الديمقراطية الآن. فكل هذه الأنظمة العربية لا خيار أمامها إلا أن تنال ثفة شعوبها وترضخ للخيار الشعبي"! وفي تفسيره لعدم تحقق رؤية الصحفي المصري والتى تستند إلى فرضية "العدوي"، أو "كرات الثلج"، أو "ظاهرة الدومينو" كسبب(18) ، أكد أستاذ هارفارد الراحل هنتنجتون أن الثورة الديمقراطية العالمية كانت يمكن أن تفرز في أية دولة مناخاً خارجياً يدفع ويساعد على التحول الديمقراطي، لكنها لم تكن تستطيع أن تُفرز الظروف الداخلية اللازمة للتحول الديمقراطي في الدولة. "كرات الثلج" أو "ظاهرة الدومينو" والتى كان تأثيرها واضحاً عام 1990، على التحول الديمقراطي في كل من بلغاريا ورومانيا ويوغوسلافيا ومنغوليا ونيبال وألبانيا، كانت وحدها والكلام لا يزال لهنتنجتون تُعد ضعيفة كسبب للتحول الديمقراطي في غياب الظروف الملائمة في تلك الدول التى تأثرت بها. تحليل هنتنجتون "صحيح" و"بارع" كالعادة! غير أنه "ناقص" و"لا يخلو من غرض"! كونه يتعامى بدمٍ بارد، كدأب أغلب التحليلات الغربية، بل والعربية أيضاَ(!!)، عن تحميل الولاياتالمتحدة وحلفائها أية مسئولية عن اعاقة توافر "الظروف الداخلية اللازمة للتحول الديمقراطي" في بلادنا، متجاهلاً دور بلاده اللاانساني في التمكين لمبدأ الاستقلال الزائف في دولة "ما بعد الاستعمار"(19)! على أية حال، هنتنجتون قسم "القوى الداخلية" التى حالت برأيه دون المزيد من التحولات الديمقراطية في دول العالم، في تسعينيات القرن ال20، كما يلي: [1] العقبات السياسية: من العقبات السياسية غياب التجربة الحقيقية مع الديمقراطية عن الدول التي ظلت على الشمولية في تسعينيات القرن الماضي. وإن كان هذا برأي هنتنجتون لا يمثل مانعاً حاسماً أمام التحول الديمقراطي. هنتنجتون كان قد توقع اختفاء عقبة واحدة خلال تسعينيات القرن الماضي وهي الزعماء الذين أقاموا هذه الأنظمة الشمولية أو الذين ظلوا في السلطة طويلاً في هذه الأنظمة، لأنهم عادة ما يتحولون إلى متشددين، يعارضون أي تحول ديمقراطي! موت هؤلاء الزعماء أو رحيلهم عن السلطة يؤدي إلى إزالة عقبة من طريق التحول الديمقراطي في بلادهم، ولكن لا يؤدي بالضرورة إلى حدوث التحول. من العقبات الأخرى الكؤود التي حالت في نظر هنتنجتون دون التحول الديمقراطي، غياب الالتزام الحقيقي بالقيم الديمقراطية بين الزعماء السياسيين في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. وان هؤلاء الزعماء حين يخرجون من مناصبهم، نجد لديهم ما يكفي من الأسباب للدفاع عن الديمقراطية. اختبار مدى التزام هؤلاء الزعماء بالديمقراطية يأتي حين يكونون في السلطة لا يزالون. وبرأي هنتنجتون ان الأنظمة الديمقراطية بأمريكا اللاتينية كانت تتم الاطاحة بها بانقلابات عسكرية في العادة. وقد حدث ذلك بالطبع في الشرق الأوسط وآسيا، إلا أن القادة المنتخبين أنفسهم في هذه المناطق كانوا برأيه مسئولين عن سقوط الديمقراطية، ومن هؤلاء أنديرا غاندي في الهند وفرديناند ماركوس في الفلبين وسوكارنو في أندونيسيا. [2] الموروث الحضاري: هناك رأي يرى أن المواريث الحضارية التاريخية الكبرى في العالم تتفاوت بشدة في مدى ملاءمة توجهاتها وقيمها ومعتقداتها وأنماط السلوك فيها لنمو الديمقراطية. فالموروث الحضاري المعادي للديمقراطية يعوق انتشار المعايير الديمقراطية في المجتمع وينكر شرعية المؤسسات الديمقراطية، وبالتالي فهو يحول دون قيام هذه المؤسسات بمهامها. وطبقاً لهذا الرأي، لا تتناسب الديمقراطية إلا مع الدول الشمالية الغربية وربما وسط أوروبا وما خرج عنها من مستوطنين. ومن الشواهد الداعمة لهذا الرأي: · ان الديمقراطية الحديثة نشأت في العالم الغربي. · ان معظم الدول الديمقراطية منذ بدايات القرن ال19 هي دول غربية. · ان الديمقراطية انتشرت خارج نطاق شمال المحيط الأطلنطي، في المستعمرات البريطانية السابقة، وفي الدول التى تعرضت لنفوذ أمريكي طاغٍ، وأخيراً في المستعمرات الايبيرية السابقة بأمريكا اللاتينية. · ان الدول الديمقراطية ال58 عام 1990 شملت 37 دولة أوروبية غربية ومستوطنة أوروبية ودولة أمريكية لاتينية ومستعمرة استرالية وست دول أخرى(اليابان، وتركيا، وكوريا الجنوبية، ومنغوليا، وناميبيا، والسنغال). وكانت عشرون دولة من الدول الثلاثين التى تحولت إلى الديمقراطية في الموجة الثالثة(20)، إما دولاً غربية أو دولاً سيطر عليها النفوذ الغربي. ثمة نسخة أقل حدة من عقبة الموروث ترى أن المسألة ليست أن حضارة ما أو أخرى تلائم الديمقراطية وتتقبلها وإنما أن هناك حضارة ما أو بعض الحضارات تُعادي الديمقراطية! الكونفوشية والاسلامية هما الأكثر شهرة! وبرأيي هنتنجتون يزيد ما يلي من حدة العوائق التى تواجه الديمقراطية في حضارتنا: · عدم طرح فكرة الديمقراطية للبحث النزيه المنظم. في حين أن الآراء التى ترى في بعض المواريث الحضارية عوائق تحول دون تحقيق التطور باتجاه ما أو آخر يجب أن يُعاد النظر فيها وأن تُحاط بقدر من الشك. · إن المواريث الحضارية التاريخية الجليلة كالحضارة الاسلامية هي كيانات مُعقدة من الأفكار والعقائد والتعاليم والكتابات والافتراضات وأنماط السلوك. وأية ثقافة عظيمة بها بعض العناصر التى تناسب الديمقراطية. وعن العناصر المناسبة للديمقراطية في الحضارة الاسلامية وكيف وتحت أية ظروف يمكن إلغاء العناصر غير الديمقراطية، يتساءل هنتنجتون! · حتى وإن كان الموروث الحضاري بمثابة عائق في طريق الديمقراطية، فإن التراث يتسم بالدينامية والحركة لا بالسلبية والجمود. فالمعتقدات السائدة والتوجهات الجارية في المجتمع تتغير، وبينما تحافظ الثقافة السائدة على عناصر الاستمرارية في المجتمع فإنها تختلف اختلافاً واضحاً عما كانت عليه قبل جيل أو جيلين. التراث يتطور، ولعل التنمية الاقتصادية نفسها والكلام لهنتنجتون هي من أهم أسباب التطور الحضاري. [3] العقبات الاقتصادية: الفقر يمثل عائقاً رئيسياً، بل ربما كان أكبر عائق في سبيل التنمية الاقتصادية. ويتمثل مستقبل الديمقراطية على مستقبل التنمية الاقتصادية. والعوائق في طريق التنمية الاقتصادية برأي هنتنجتون هي عوائق في طريق اتساع نطاق الديمقراطية. غالبية الدول التى كانت تؤهلها ظروفها للتحول الديمقراطي في تسعينيات القرن الماضي هي دول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فالرخاء الاقتصادي لهذه الدول كان مصدره الصادرات النفطية، وهو موقف عزز السيطرة البيروقراطية للدولة وبالتالي هيأ مناخاً لا يتناسب والتحول للديمقراطية. إلا أن ذلك لم يكن معناه استحالة التحول الديمقراطي بالضرورة. فقد مارست البيروقراطيات الحكومية في دول أوروبا الشرقية سيطرة أكبر من سيطرة دولنا المُصدرة للنفط. تلك السيطرة قد تنهار عند نقطة معينة في هذه الدول النفطية بنفس الصورة الفجائية التى انهارت بها في دول أوروبا الشرقية! موجة التحول الديمقراطي التى اجتاحت العالم في تسعينيات القرن العشرين كان من الممكن أن تصبح سمة سائدة في سياسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقتها والكلام لهنتنجتون تتحد قضية الاقتصاد والموروث الحضاري معاً. فما هي أشكال السياسة وأنماطها التى يمكن أن تظهر، حين يتفاعل الرخاء الاقتصادي مع الموروث الحضاري؟! في مناقشته لهذا التساؤل المهم يقرر هنتنجتون ان التحول الديمقراطي في دول العالم الاسلامي يدعم نفوذ حركات سياسية واجتماعية لها وزنها ويحوم الشك حول التزامها بديمقراطية نظام الحكم. [هل تستمر الحكومات القائمة في بداية تسعينيات القرن ال20 فيما بدأته من انفتاح سياسي وتُجري انتخابات تتنافس فيها الجماعات الاسلامية دون قيود؟ وهل تحصل الجماعات الاسلامية على الأغلبية؟ وإذا فازوا بالانتخابات، فهل يسمح الجيش(الذى يُعد شديد العلمانية في دول كالجزائر وتركيا وباكستان واندونيسيا) لهم بتشكيل الحكومات؟ وإذا شكلوا حكومات، فهل ستتبع سياسات اسلامية متشددة تقوض دعائم الديمقراطية وتقضي على العناصر ذات التوجهات الحديثة في المجتمع، وهل ستُشكل تهديداً للمصالح الغربية في بلدانها ومُحيطها!] بهذه التساؤلات "الحائرة"، فسر لنا هنتنجتون بعبقريته المعهودة موقف بلاده وحلفائها "الضبابي" من مسألة التحول الديمقراطي في بلادنا، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والانهيار الجماعي للأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية. دون أدنى إشارة تُذكر من جانبه لمسئولية بلاده عن هدم الانسان العربي وحرمانه من حقه في نقد وتطوير ثقافته، من خلال صيانتها لأنظمتنا القمعية ولمبدأ الاستقلال "الزائف"، بزعم تفويت الفرصة على الاتحاد السوفيتي في استقطاب الأنظمة العربية إلى جانبه! وهو ما سمح لحُكامنا بافتعال معارك وهمية، ساعدتهم من جهة على التجفيف "الكارثي" لمنابع الحرية، ومن جهة أخرى أكسبتهم شعبية واسعة! مالا يعلمه الكثيرون من أبناء مجتمعاتنا "كارهة الحقيقة" هو ان كل ما يدور عندنا من أحداث، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما يدور في العالم خاصة الغربي ، ولا يمكن فهمه إلا بإدراك مختلف عناصر هذا الترابط(21). إن أي شيء وكل شيء في حياتنا أصبح على نحو مُتزايد له صلة بما يدور في العالم. فكيف يمكن أن نتجاهل هذه الصلات ولا نسعى إلى فهمها والتعامل معها بكل أبعادها؟ وكيف نظل ننظر إلى الأشياء وعلاقاتها، كأنها تبدأ وتنتهي عند حدودنا "الجغرافية"؟!