من يداوم على مشاهدة برامج المسابقات التى تجرى فى بعض الفضائيات بين أصوات غنائية عربية مبشرة فى وطننا العربي سواء كانت لأطفال أو لشباب، لابد أن يلاحظ أن معظم تلك الأصوات الجميلة التى نجحت فى جذب الأنظار والأسماع إليها قد جاءت من مدينة حلب السورية، ولما لا وقد اشتهرت حلب عبر التاريخ بأنها منجم الأصوات الذهبية عبر مسيرة الأغنية العربية، فمنها جاء معظم الأصوات الجميلة التي اشتهرت وذاع صيتها وصوتها بموجات الأثير فى كل الأصقاع الناطقة بالعربية، وأخشى هنا أن أذكر بعض تلك الأسماء فيضيق المجال بى وبها، وقد اشتهرت حلب بجمال الأصوات بين رجالها ونسائها، بل اشتهرت أكثر "بالقدود"، التي تنسب إلى حلب وحدها دون بقية البلدات السورية والعربية، فإذا ذكرت القدود لابد أن تذكر حلب، وهى نوع من الموشحات والأهازيج المشحونة بالطرب الأصيل الذى لا يستطيع أداؤه إلا كل متمكن من أصول هذا الفن، وإذا كانت حلب وأهلها قد اشتهروا بجمال الصوت وحسن الأداء، فقد اشتهروا أكثر بآذانهم الموسيقية التى تستطيع أكثر من غيرها التمييز بين الأصوات الغثة والثمينة، ويحكى محمد عبد الوهاب أن جاءه ذات يوم وكان لا يزال فى بدء حياته الفنية أحد متعهدي الحفلات ليتفق معه على إحياء حفل له فى حلب بعد أن ذاع صيته فى مصر وحظي بإعجاب سامعيها. وحين ذهب عبد الوهاب إلى حلب فوجئ بأن المطلوب منه ليس الغناء فى إحدى القاعات الكبيرة لجمهور واسع بل إنه سيغنى لمجموعة من الناس لا يتعدى عدد أفرادها العشرة، فرفض عبد الوهاب باعتبار أن ذلك مخالف للاتفاق الذي حضر به من القاهرة، فقال له هذا المتعهد الحلبي: إن هذه المجموعة هى مجرد "عينة" للجمهور الذى سيستقبله فى الحفل الكبير، فإذا حظى بإعجاب هؤلاء فسوف يذهبون به ومعه إلى من هم أكثر حشدا، وهذه كانت العادة فى حلب مع كل مطرب جديد، فلا يأتى الجمهور للسماع إلا لكل صوت يستحق، فاضطر عبد الوهاب لقبول التحدي وغنى لهؤلاء كما لم يغن من قبل حتى أنهم كانوا يستزيدونه كلما انتهى، وذات ليلة كنت أحل ضيفا فى بيت نذير عقيد مدير إذاعة حلب فى مطلع الثمانينات، وأثناء عودتي سيرا فى ساعة متأخرة من الليل وبأحد الشوارع القريبة من الفندق الذي أقيم به، تنامى إلى سمعي من إحدى الشقق بالطابق الأرضي صوت فتاة تغنى "الأطلال" لأم كلثوم بمصاحبة آلتين فقط، العود والرق، فتسمرت فى مكاني إعجابا وطربا، ولكنى خشيت أن يراني أحد المارة فى موقفي هذا فأقع فى دائرة الشك منهم، فاستأذنت من أهل البيت فى الدخول، كانت فتاة لا يزيد عمرها على السابعة عشرة، أمها تمسك بالرق وأبوها يصاحبها على العود، فبقيت بينهم حتى الصباح مستمعا ومستمتعا، ذهبت إلى الفندق على وعد مع الفتاة وأبيها بالعودة ظهرا لأصطحبهما إلى صديقي نذير عقيل لأقدمها له مطربة واعدة، وحين استمع لها عقيل شاركني الإعجاب بصوتها أكثر مما أعجبت أنا، وأثنى عليها بل قرر أن تكون هذه الفتاة هى هديته القادمة للجمهور العربي كله انطلاقا من إذاعة حلب، صاحبة الامتياز الحصرى لكل صوت جميل، ومرت الشهور فإذا بى وأنا أسير ذات يوم بأحد شوارع دمشق المشهورة بأماكن السهر واللهو، كما هو حال شارع الهرم عندنا، وجدت العديد من الإعلانات والملصقات التى تحمل صورة الصوت الذهبي الجديد "صباح محمد"، فشعرت بالأسى والحسرة، لأنى شاركت فى جريمة من الصعب أن أغفرها لنفسي باكتشاف مطربة تقبل الغناء للسكارى والمعربدين!