مرت في شهر يونيو الماضي الذكري المئوية لرحيل المنشد والمطرب الشهير : الشيخ يوسف المنيلاوي، ولم يلتفت إلي تلك المناسبة إلا قلة من المهتمين بالغناء وأعلامه، حيث اقتصرت الاحتفالات بهذه المناسبة علي حلقة من البرنامج الإذاعي " ألحان زمان " قدمت في مساء الاثنين 20/6/2011م، وذلك بالإضافة إلي ندوة عقدت - علي ما أتذكر - في دار الأوبرا، ولعل أسباب قلة الاهتمام بهذه المناسبة يرجع إلي ما مرت به مصر في عام 2011م من أحداث ثورة 25 يناير، وربما بسبب ما درجنا عليه في السنوات الأخيرة من تناس للأحداث وإهمال للرواد، والمقالة الحالية تبسط أمام الأجيال المعاصرة ملامح من سيرة أحد أهم أعلام الغناء في عصر إحياء الغناء المصري، ذلك العصر الذي شغل معظم القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين المنصرم . من الإنشاد إلي الطرب ولد يوسف خفاجي المنيلاوي بحي المنيل في مدينة القاهرة، وقد وقع ميلاده في عام 1844م كما ذكر المؤرخ الموسيقي غطاس عبد الملك خشبة «غطاس عبد الملك خشبة : المعجم الموسيقي الكبير، جزء 5، ص 493 »، وإن كان فكري بطرس - وهو مؤرخ آخر للغناء - قال بأن ميلاد الشيخ يوسف يرجع إلي عام 1850م « فكري بطرس : أعلام الموسيقي والغناء العربي، ص 88 »، وقد تبع جميع من أرخوا للشيخ يوسف ما أثبته فكري بطرس عن ميلاد الشيخ، وذلك بالرغم مما هو معروف وثابت عن دقة الأستاذ غطاس خشبة فيما ينقل من أخبار ومعلومات، عمل والد الشيخ يوسف المنيلاوي -والذي كان يمتهن الفلاحة - علي توجيه نجله للالتحاق بالأزهر الشريف، فألحقه بأحد مكاتب تحفيظ القرآن الكريم التي كانت تنتشر آنذاك في ربوع مصر من أقصاها لأدناها، حيث أتم الفتي يوسف حفظ القرآن وتلقي أحكام التلاوة وقواعد التجويد، ولما كان صوت الفتي يوسف جميلاً، فإنه لفت الأسماع لتلاواته لآيات القرآن في مكتب التحفيظ وفيما رتل فيه القرآن من مناسبات وأماكن، ثم لم يلبث الشيخ يوسف كثيراً في موقع قارئ القرآن الكريم، حتي هام عشقاً بالإنشاد الديني، حيث أخذ مبادئه وحذق أسراره من خلال ملازمته لكبار منشدي عصره من أمثال الشيخين خليل محرم ومحمد عبد الرحيم المسلوب « قسطندي رزق : الموسيقي الشرقية والغناء العربي، جزء 1، ص 119». كان صوت الشيخ يوسف من أجمل وأقوي الأصوات التي ظهرت في عصره، حتي عده ناقد مثل كمال النجمي : " أعظم مطربي مصر، وصوته السحر أو أشد تأثيراً " « كمال النجمي : الغناء المصري...مطربون ومستمعون، ص 254 »، لذلك اقترح عليه المطرب والملحن الكبير : عبده الحامولي أن يترك الإنشاد الديني ويتحول إلي الغناء، ويصف لنا قسطندي رزق ما كان من أمر الشيخ يوسف بعد استماعه لنصيحة الحامولي : " فاندمج في سلك المطربين، وأخذ عن عبده « الحامولي » ومحمد عثمان أدوارهما الملحنة وغناها علي تخته الخاص، وانقطع عن الإنشاد إلا في حفلات مولد النبي وتشييع الكسوة الشريفة وليالي شهر رمضان في منزل آل البكري " « قسطندي رزق : المصدر السابق »، ويستطرد قسطندي رزق بعد ذلك ليقص علي قارئه ما كان يقدمه الشيخ يوسف في تلك الليالي من إنشاد وغناء، فيقول إن الشيخ يوسف كان يبدأ سهرته في منزل آل البكري بإنشاد الأدوار الخاصة بالذكر، فإذا ما تقدم الليل وتسلطن الشيخ، انتقل من الإنشاد إلي الغناء الذي كثيراً ما كان يبدأه بالقصيدة التي يقول الشاعر في مطلعها : فتكات لحظك أم سيوف أبيك وكؤوس خمر أم مراشف فيك هذا وقد عبر الأديب الكبير عباس محمود العقاد عن ذلك التحول في مسيرة الشيخ يوسف من تلاوة القرآن حتي انتهي به الأمر إلي الغناء بقوله : " ولا ننسي أن القراءة « يعني قراءة القرآن » هي المدرسة التي خرجت لنا سلامة حجازي وسيد درويش ويوسف المنيلاوي، قبل أن تخرجهم فنون الأدوار والمواويل " « عباس محمود العقاد : يوميات، جزء 3، ص 331 » . في شركات الاسطوانات بالرغم من أن يوسف المنيلاوي أوتي صوتاً جميلاً سلكه في عداد كبار مطربي عصره، وقد اتفق جميع من أرخوا للغناء المصري في ذلك، ومن هؤلاء المؤرخين الموسيقار المعروف محمد كامل الخلعي، الذي قال عن الشيخ يوسف في كتابه " كتاب الموسيقي الشرقي " ما يلي : " هو البلبل الصياح، والمغني المبدع الصداح، نزهة النفس، وريحانة الأنس، الطائر الصيت في رخامة الصوت بين جميع عشاق السماع والغناء " « ص 167 »، اليس ببعيد عن ذلك ما قاله غطاس خشبة في ترجمته للشيخ يوسف بالنص التالي : " ويساعده علي ذلك صوت مليح بعيد المدي وهيئه أداء منقطعة النظير " « غطاس عبد الملك خشبة : المصدر السابق »، ولكن صاحب صوت بهذه الصفات لم يؤت موهبة التلحين، مما وقف دوره علي غناء ما يضعه غيره من ألحان، لذلك أدرجه الموسيقار الخلعي في كتابه بين " " المغنين الذين اشتهروا فقط بحسن الصوت وجودة أداء أدوار معاصريهم السابقين " « ص 166 »، وقد تحدث الشيخ عبد العزيز البشري عن ذلك أيضاً فقال : " ولقد عاش المرحومون الشيخ يوسف المنيلاوي والشيخ محمد الشنتوري ومحمد أفندي سالم وعبدالحي أفندي حلمي ما عاشوا، لم يؤثر عن واحد منهم أنه لحن طوال حياته صوتاً « دوراً » واحداً، إذ كلهم من الأعلام المبرزين بين أصحاب الغناء !" « عبد العزيز البشري : المختار، جزء 2، ص 74 »، لذلك اتجه الشيخ يوسف - منذ أن ذاع صيته كمطرب - إلي ألحان كل من عبده الحامولي ومحمد عثمان، يأخذ منها ما يغنيه من أدوار بصحبة تخته الخاص، وقد ضم الشيخ إلي تخته مشاهير عازفي العصر من أمثال عازف القانون الأشهر محمد العقاد - عازف الكمان العظيم إبراهيم سهلون - عازف الناي الفذ أمين البزري وعازف الرق أبو كامل، مما جعل من تخت الشيخ يوسف أكبر تخت موسيقي في عصره، فأقبل عليه الوجهاء والكبراء يطلبونه لإحياء أفراحهم ومناسباتهم، وأقبلت من بعدهم شركات الاسطوانات للتعاقد معه علي تسجيل ما يتغني به من قصائد وأدوار، ومن تلك الشركات نذكر كلا من شركة " عمر أفندي " التي تعاقدت معه في عام 1908م علي تسجيل مجموعة من الاسطوانات وشركة " جراموفون " التي عبأت له مجموعة أخري في عام 1910م، ومن المهم أن نذكر هنا أن اسطوانات شركة عمر أفندي كانت تطرح في الأسواق باسم " سمع الملوك " !، وكان الشيخ يوسف أول من سجلت أغانيه علي تلك الاسطوانات في عام 1908م « غطاس عيد الملك خشبة : المصدر السابق »، هذا وقد حفظت دار الكتب والوثائق المصرية في أرشيفها واحدا وستين اسطوانة مما سجله الشيخ يوسف لشركات الاسطوانات، وفيما يلي نقدم مجموعة من تلك الاسطوانات والتي وردت في " فهرس الموسيقي والغناء العربي القديم المسجلة علي اسطوانات " بدار الكتب والوثائق القومية : البلبل جاني - الكمال في الملاح صدف - الله يصون دولة حسنك - الورد في الوجنات - إن شكوت الهوي - أنت فريد في الحسن - بستان جمالك -جددي يا نفس حظك - حظ الحياة - عجبت لسعي الدهر - فتكات لحظك - فؤادي أمره عجب - فيا مهجتي ذوبي جوي - قد ما أحبك - كادني الهوي - كل من يعشق جميل - كنت فين والحب فين -لسان الدمع أفصح - متع حياتك - من له عهد - ودواهي العيون - يا قلب كم مرة تقوللي - يا ما انت واحشني - يا نحيف القوم ويعيش ويعشق، إن المستمع لبعض هذه الاسطوانات... يستطيع أن يقف علي خصائص صوت المنيلاوي وأسلوب أدائه، تلك الخصائص وذلك الأسلوب اللذان لا يجد المرء في وصفهما خير مما قاله الأستاذ العقاد عنهما في مقالة له ضمها الجزء الثالث من يومياته، وهو ما نصه التالي : " وكانت بلدية « يعني العقاد أسلوب الغناء الشعبي » يوسف ممزوجة بسمة القارئ الديني في ثياب العرس الفرائحي "! « ص 294 » . في منازل العز عندما طبقت شهرة الشيخ يوسف الآفاق بعدما ذاعت أسطواناته بين عشاق الطرب في مصر والبلاد العربية، أقبلت الدنيا عليه وأصبح مطلوباً في جميع محافل الغناء، وعلي الأخص في قصور الأمراء ومنازل السراة من الأعيان والتجار، حتي بلغ أجره في الليلة الواحدة مائة من جنيهات ذلك العصر الذهبية، وتقول المصادر التاريخية التي اهتمت برصد الغناء وأخباره في ذلك العهد أنه كثيراً ما كان يترنم بالأبيات التالية متخذاً صيغة الموال : لا تحسبوا أن ميلي بينكم طرباً من لذة الراح أو من لذة النغم ولا تظنوا اهتزاز الجسم من فرح فالطير يرقص مذبوحاً من الألم وليستمع الآن - من يريد الوقوف علي الدرك الذي هوي اليه الغناء -إلي التسجيل المتاح لذلك الموال ينطلق به صوت الشيخ بنغمة النهاوند، ليعرف أن الشيخ قد أوتي صوتاً من أجمل الأصوات في عصره وحتي أيامنا هذه، وليتأكد من أن قدرة الشيخ المنيلاوي علي أداء القصائد تفوق كل وصف، لذلك حرص الشيخ دائماً علي أن يختم حفلاته الغنائية بإحدي القصائد التي كان يكثر من غنائها، ومن تلك القصائد نذكر القصيدة التي تبدأ بالأبيات التالية، والتي كان الشيخ المنيلاوي يبدع في أدائها بلحن من مقام الراست، حيث يتفنن في أداء التصرفات اللحنية : وساعة منك الهوهاد وإن قصرت أشهي إلي من الدنيا وما فيها نفسي فداؤك لو نفسي ملكت إذا ما كان غيرك يجزيها ويرضيها اتفق جميع من أرخوا للغناء المصري علي قيمة صوت الشيخ يوسف وعظمة أدائه، واتفقوا كذلك حول حميد صفاته وكريم أخلاقه، فقد قال قسطندي رزق عن ذلك : " فإنه و أيم الحق يمتاز عن سائر المطربين بالأدب الجم وصدق المعجم، وهو يعدّ بعد موت عبده وعثمان العندليب الأوحد في كل وادي النيل "، لذلك ضم جمهور الشيخ من السامعين الأغنياء جنباً إلي جنب مع الفقراء، وهو ما أثبته قسطندي رزق بقوله : " وكان سامعوه من كبار القوم يؤمون مجلسه فوق تخته الكامل تحت رئاسة المرحوم محمد العقاد الكبير " « قسطندي رزق : الموسيقي الشرقية والغناء العربي، جزء 4، ص 69 »، وبالرغم من ذلك فقد وجد الشيخ المنيلاوي متسعاً من الوقت كي يعمل في تجارة القصدير « فكري بطرس : المصدر السابق »، حتي اتسعت ثروته إلي الحد الذي مكنه من شراء قطعة من الأرض في حي كوبري القبة وبجوار منزل أسرة السيوفي باشا، حيث بني هناك منزلاً جميلاً، واقتني عربة فاخرة تجرها الجياد. إمتدت شهرة الشيخ يوسف المنيلاوي إلي خارج الحدود المصرية، حيث تجمع المصادر التاريخية علي سفره إلي الأستانة في سنة 1305ه « 1888م »، لينشد - ولأول مرة - أمام السلطان العثماني : عبد الحميد الثاني قصيدة ابن الفارض الشهيرة والتي تبدأ بالأبيات التالية :- تهْ دلالا فأنت أهل لذاك وتحكم فالحسن قد أعطاك ولك الأمر فاقض ما أنت قاضٍ فعلي الجمالُ قد ولاكَ فاستعادها السلطان عبد الحميد منه أكثر من مرة، هذا وقد أهدي السلطان الوسام المجيدي إلي الشيخ المنيلاوي عقب انتهائه من الغناء، واقترح السلطان علي الشيخ أن يقيم في الأستانة، ولكن الشيخ اعتذر عن قبول اقتراح السلطان، وكانت حجة اعتذاره هي انتواؤه السفر لأداء فريضة الحج في تلك السنة . ما بعد الرحيل لقي الشيخ يوسف المنيلاوي وجه ربه في يوم الاثنين الموافق 5/6/1911م، وقد نعته صحيفة " الأهرام " لقرائها في الصفحة الثانية من عددها الصادر في 6/6/1911م، وكان نص نعي الصحيفة كما يلي : " توفي إلي رحمة الله المأسوف عليه المنشد الشهير الشيخ يوسف المنيلاوي، فكان لمنعاه أشد وقع، فنسأل له الرحمة والرضوان ولآله وذويه جميل الصبر والعزاء "، إن مراجعة أسماء الأحياء من مطربي ذلك العصر في يوم رحيل الشيخ المنيلاوي... تكفي لإعطاء القارئ الآن صورة واضحة لما كان عليه الغناء آنذاك من ازدهار ورقي، فمن هؤلاء المطربين نذكر الأسماء التالية : أحمد حسنين - محمد سالم - أحمد صابر - محمد السبع - عبد الحي حلمي و إبراهيم شفيق، كانوا جميعاً كالبلابل المغردة في دوحة الغناء الفيحاء، واليوم تخدش أسماعنا أصوات مطربي ومطربات « الفيديو كليب ».... الذين أسماهم الناقد الراحل كمال النجمي " المطربين المعوقين "!