في 2006 علمت من الأستاذ محمد عبد الله رئيس التحرير الحالي لمجلة الشباب وكان مديرا للتحرير وقتها، أن الفنان الكبير عبد العزيز المكيوي، أو كما هو معروف بين الناس علي طه، بطل فيلم "القاهرة 30 " ذلك الثائر المثقف في وجه الفساد والاحتلال انتهى به الحال ليعش بين المجاذيب في منطقة الحسين فذهبنا إليه وظللنا نجاهد معه كثيرا كي يحكي لنا قصته وما الذي أودى به إلى هذه الحال ولكن المحاولات والذهاب والإياب إليه استمر أسبوعا حتى نجحت في الحصول منه على حوار ضمن تحقيق مثير نعيد نشره اليوم بمناسبة وفاة هذا الفنان الكبير الاثنين الماضي. وقد نشرت مجلة الشباب هذا الموضوع كأول وسيلة إعلامية انفردت بقصة هذا الرجل وتفاصيل حياته في الشارع وتبعتها وسائل إعلام أخرى في نشر قصة الرجل على مدى السنوات الماضية. وكانت تفاصيل الموضوع كالتالي: " فاكرين على طه؟.. في فيلم القاهرة 30، الثائر في وجه الفساد والاحتلال.. الشاب الذي كان ينتقد كل السلبيات حوله بداية من نفعية ووضاعة صديقه محجوب عبد الدايم "حمدي أحمد" وظروف الذل والفقر التي فرقته عن حبيبته سعاد حسني، وينتهي به الامر إلى الاحتماء بالناس في شوارع وسط البلد وهو يحذرهم من الطوفان بمنشوراته الوطنية.. مر ما يزيد على 40 عاما على هذا المشهد ولكن "علي طه" اندمج في الدور ولم يقدر على مفارقته.. أصبح الفنان عبد العزيز المكيوي في حياته العادية نسخة من واقعية علي طه ولكن أكثر بؤسا بكثير.. قبل هذا الفيلم كان يتوقع له الكثيرون مستقبلا باهرا لدرجة أنه كان المثل الأعلى لعدد كبير من الفنانين وعلى رأسهم النجم عادل إمام الذي قال عنه بعد ظهوره في مسلسل "العائلة" منذ عدة سنوات إن المكيوي هو أستاذه الذي تعلم منه الصدق، ولكن بعد الفيلم لا أحد يعلم ماذا حدث.. اختفى مشروع النجم السينمائي ولكم يظهر إلا على فترات متقطعة ربما ليلقي نظرة على الدنيا ثم يعود إلى حيث اختار الحياة، في شوارع القاهرة متجولا طوال النهار بلا هدف وأمام مسجد سيدنا الحسين لدرجة أن الناس هناك يعتبرونه من المجاذيب المتناثرين أمام المسجد ولكنهم تقريبا لا يعرفون شخصيته الحقيقية. بعد صلاة الفجر في مسجد سيدنا الحسين رضي الله عنه.. توجهنا بهدوء إلى عبد العزيز المكيوي، كان يبدو عليه الإرهاق الشديد ولكنه ما زال يحتفظ بنفس لمعان العينين، وهو بالمناسبة مثقف من الدرجة الاولى باعتراف كل تلاميذه، فبخلاف تخرجه في معهد السينما قسم التمثيل والإخراج فهو حاصل على دبلومة في السياسة ودبلومة في ترجمة الأدب.. وبعد فيلم القاهرة 30 سافر في بعثة إلى الاتحاد السوفييتي لدراسة الإخراج ثم أكملها في انجلترا. عندما طلبت منه إجراء حوار اعتذر بكلمات جافة قائلا:" إنه ليس مستعدا الآن لأنه يمر بظروف بذيئة على حد وصفه". وطلبت منه تحديد موعد ىخر فرد بسرعة:" أنا أعدك من حيث المبدأ ولكن دون موعد محدد.. السادات وعد بأن يكون عام 1980 موعد الرخاء ولم يحدث، وقبله عبد الناصر وعد بالمواجهة ولم تحدث، الحياة كلها مجموعة وعود ولذلك لابد أن يكون الشخص منضبطا.. ثم انا لا أشعر بأنني بالنسبة للناس شخص مهم ولن يهتم احد بكلامي، فحتى لو جاء بوش نفسه فأنا لا أريد الكلا الآن." كانت كلماته سريعة ومتلاحقة، وجذابة في الوقت نفسه من منطقيتها وترتيبها، ولذلك خرجت معه من المسجد وهو في طريقه للشارع فواصل حديثه قائلا:" هل سمعت عن جيفارا وكاسترو؟.. كانا صديقين.. حاربا معا ولكن كاسترو حدد المكان الذي ينطلق منه ويعيش فيه ولذلك بقي حتى الآن، أما جيفارا فبرغم أنه كان قائد المسيرة إلا أنه تحرك دون تخطيط ولذلك كان نصيبه الضياع، ولذلك أنا أحب التخطيط في كل شيء.. أنظر مثلا إلى الإسلاميين عندما اتجهوا للسياسية.. وضعوا أسسا للسير عليها وكانت أولاها تلميع شخص يكون هو القائد والرمز وهو ما فعلته إيران مع الخوميني." هنا تصورت أنه يوافق على إجراء الحوار ولكن في الشاره.. ومع تشغيل الكاسيت سألته:" ما دمت مهتما بالسياسة فلماذا.؟.. قاطع الحديث ثائرا:" أنا أريدك أن تقوم بعمل لافتات وتقول للناس إن المكيوي يفتح نيرانه على الجميع.. أنا ورائي بيوت أرعاها ومن فضلك إبعدني عن السياسة وألاعيبها" سألته: ما سبب ابتعادك عن الوسط الفني وقلة أعمالك؟ سرح طويلا ثم رد بسؤال غريب:" انت قريب أنيس منصور؟.. فأجبته بالنفي، فعاد لحواره العام قائلا:" على فكرة أنا من النوع الذي يستطيع زحلقة الصحفيين والتخلص منهم ومن إلحاهم لأنني درست الدبلوماسية، والشهادات التي حصلت عليها كان هدفي منها فقط أن يقف كل شخص عند حدوده وهو يتكلم معي، هل تعرف ما هي مشكلتنا؟.. أننا نتصور أن كل شيء يظهر فجأة.. يقولون إن التليفزيون العربي ولد عملاقا، طيب ده كلام؟.. أنظر إلى إسرائيل لتعرف كيف تطورت ونحن ما زلنا ندمر أنفسنا بدليل ما حدث في العراق، حتى ياسر عرفات الرجل الذي عاش عمره من أجل فلسطين أظهروه باعتباره خائنا ولم يثأر لقتله أحد". حاولت تغيير مجال الحديث وسألته عن دوره في فيلم القاهرة 30 فقال:" وقتها كنت أذاكر حتى أسافر في بعثة إلى روسيا ..الوحيد الذي قدرني هو صلاح أبو سيف وقال لي لا تمثل كثيرا حتى لا يتم حرقك وتصبح بضاعة مستهكلة، ومنذ ذلك الوقت لم أجد أي دور يناسبني رغم انني عندما أرى فيلم القاهرة 30 لا أعطي لنفسي أكثر من 5 على 10 وهذا طبيعي، شوف أنا أعيش جياتي ببساطة في الشوارع وأنام هنا في مسجد الحسين رغم أن عندي منزلا في الجيزة ولكن زوجتي مريضة وتعيش مع اهلها في الضاهر، حاليا كل اهتماماتي أن أحفظ القرآن الكريم قبل أن أموت كما أتمنى بناء مستشفى مجاني للفقراء على أعلى مستوى، وبإذن الله سأفعل ذلك لأنه مفيش حاجة تقدر تذلني طبعا أنا عارف إن كل كلامي معك مراقب وأن الجهات الأمنية ستطلع عليه ولكن لا يهم.. وأنا أطالب أمريكا من مكاني هذا -شارع الأزهر- بأن تقول لوزيرة خارجيتها كونداليزا رايس أن ترتدي جيب طويلة تغطي ساقيها حتى نستطيع الكلام معها بشكل لائق! سألته عن أبنائه ومن أين يعيش وهو لا يعمل تقريبا؟ فقال:" أنا ليس عندي أولاد وهذه ليست قضيتنا أصلا.. ثم أنا بعيد عن السينما لأنها مبتذلة". فجأة سكت لفترة ثم قال:" عموما الكلام أخذنا.. نعود لما كنا نتفق عليه، أنا لا أعرف متى سأقابلك ولن أحدد لك موعدا من الآن، وليس عندي موبايل لأنني لا أهتم بهذه التفاهات وأهم شيء عندي أن يعلم الجميع أنني لا أتواضع فمن الخطأ أن أتواضع ولست مجبرا على ذلك.. وأنا الذي بدأت الحركة الجماعية في السينما عام 1968 قبل أن تنهار حاليا في الكباريهات". وبإشارة من يديه تركني وطلب مني ألا أتتبعه.. ولكن على مدى أسبوع راقبناه جيدا كالمعتاد من مقره الدائم أمام مسجد الحسين، هو يتمتع هناك بحب الجميع ويتحدث بشكل دائم في كل شيء.. كان يجلس بعض الوقت عند جمال الرسام صاحب كشك فني يرسم فيه بورتريهات للعرب والأجانب من زائري خان الخليلي، وعندما سألناه عن عبد العزيز المكيوي قال:" أعرفه من 25 عاما.. يأتي ليجلس معي بعض الوقت ثم يمضي، لم أجد معه يوما ممثلا وهو لا يعمل منذ فترة طويلة.. وهو له أسرة ولكنه لم يخبرني سوى باسم شقيق له اسمه عبد اللطيف، ومنذ مرض زوجته وهو يعيش وحيدا يخدم نفسه من غسيل ومأكل، وبصراحة في السنوات الأخيرة أصبح كلامه خليطا من الحديث الطبيعي والنصائح والهذيان ولكننا في النهاية نحبه لانه هاديء الطباع ومثقف جدا". والمعلومات الواردة عن عبد العزيز المكيوي في ملفه الصحفي بأرشيف مؤسسة الأهرام لا تفرق كثيرا عن بياناته في نقابة الممثلين.. اسمه بالكامل محمد عبد العزيز أحمد شحاتة وشهرته عبد العزيز المكيوي.. مواليد 29 يناير 1934، حاصل على بكالوريوس الفنون المسرحية عام 1959 وعضو بنقابة المهن التمثيلية وحاليا بالمعاش النقابي ويسكن في أحد شوارع منطقة فيصل بالجيزة. سألنا أحد الفنانين الكبار الذين عاصروه وعملوا معه، يقول الفنان الكبير محمود ياسين:" عملت معه في مسلسل أيام المنيرة، حاولت كثيرا خلال كواليس المسلسل التقرب والتودد إليه ولكنه معروف في الوسط الفني منذ سنوات طويلة بأنه انطوائي ولا يندمج مع الناس لدرجة أننا كنا نفرح جدا عندما نجده يضحك ولكنه سرعان ما يعود لانفصاله عنا، وقد حزنت بشدة عندما عرفت أنه يعاني اضطرابا نفسيا منذ سنوات، وأقابله كثيرا في شوارع وسط البلد خاصة في شارع سليمان باشا في أوقات متأخرة من الليل، فهو تقريبا يعيش هناك، وبصراحة لابد ان تتحرك نقابة الممثلين لأنه في النهاية قيمة فنية ولا يصح أن نتفرج عليه هكذا. توجهنا بالنداء إلى نقيب الممثلين د.أشرف زكي فقال: بمجرد علمي بحالة الأستاذ المكيوي تحركنا فورا لمساعدته. وسألناه عن طبيعة هذه المساعدة ولكنه لم يوضح وطلب منا سؤال المكيوي نفسه. ذهبنا إلى مسجد سيدنا الحسين وعندما سألنا الفنان المكيوي انفعل بشدة ولم يعلق وكأن حكايته انتهت فجأة. 0 0 0 0 0 0