عندما تراه لأول مرة.. ستتذكر علي الفور الصورة التقليدية للجزار كما صنعتها الروايات والأفلام والمسلسلات .. بنيان ضخم وجلباب ابيض تتناثر عليها بقع الدماء وساطور في يديه وكرسي أمام المحل بينما الصبيان يتابعون شغلهم تحت اشرافه .. ويتدخل فقط في الوقت المناسب، لكن في الحقيقة هذا في المظهر فقط.. يؤكد أن بعض سمات الجزار التى تقدمها الدراما ليست موجودة بالضرورة.. فليس كل جزار جشع أو رجل أعمال حقق ثروة من اللحوم أو لديه فروع عديدة .. هناك غشاشون ومستغلون لكنهم قلة .. والباقون – كما يؤكد – شرفاء وعلي "قد حالهم"، والمعلم "أبو العلا" .. اسمه يرتبط كثيراً بمنطقة بولاق أبو العلا التى يعمل فيها جزاراً منذ 40 عاماً ويعتبر أقدم جزار في وسط البلد.. فكيف يري حال الدنيا من أمام محل الجزارة ؟ وماذا عن حملات مقاطعة اللحوم بعد ارتفاع أسعارها .. هل يمكنها أن تنهي– ولو مؤقتاً – قصة العشق العجيبة بين المصريين واللحمة ؟ هو المصري الغلبان عايز ايه غير حتة لحمة ومعلقتين أرز وشوية خضار..هي دي متعة الدنيا لازم الشعب كله يقاطع اللحمة.. لكن الغالي عمره ماهيرخص إزاي يقولوا إن كيلو اللحمة الصافي نزل ثمنه ل60 جنيهاً بسبب المقاطعة رغم إن الجزارين بيشتروا الكيلو من المجزر ب60 جنيهاً بعضمه؟ اللحمة قوت الفقير.. والمشكلة إن العجل بياكل لوحده ب50 جنيهاً في اليوم اللانشون والسجق والهامبورجر والشاورما كلها لحوم مستوردة.. لكن أنا مقدرش أكلها لأني قلقان منه الناس لما بتكون مبسوطة ومستريحة وبالها رايق بتاكل لحمة.. وعلشان كده السنة اللي قعدها الإخوان كانت سوداء ومهببة علي دماغهم لما يوصل كيلو اللحمة ل85 جنيهاً .. يبقي إزاي رغيف الحواوشي ب2 جنيه؟ معظم الجزارين "غلابة" وأصحاب شهادات عليا ومثقفين.. وعمري ما أكلت لحمة كل يوم حوار: وليد فاروق محمد تصوير: محمود شعبان بلاها لحمة طبيعي أن تكون بداية الكلام من حملة " بلاها لحمة " والتى تطالعنا الصحف يومياً بأنها تحقق نجاحاً كبيراً وبسببها يشهد سوق اللحمة حالة شديدة من الركود بعد دعوات مقاطعة شراء اللحوم والتى ارتفعت أسعارها لتصل إلي 85 جنيها للكيلو، وتهدف الحملة لإجبار الدولة والتجار على خفض أسعار اللحوم وتثبيتها عند سعر معقول يلتزم به الجميع، مع تطبيق غرامات فورية تصل للغلق فى حالة تجاوز صاحب المحل الأسعار المعلن عنها، يقول المعلم " أبو العلا " : عكس ما الناس فاكرة .. اللحمة لا تمثل شيئاً للغني .. فهي قوت الفقير ولذلك المصريين ميقدروش يبعدوا عنها، نصف كيلو لحمة ممكن تأكله عائلة من 6 أو 7 أشخاص .. الفرخة بنفس الثمن تقريباً يأكلها 4 بس .. والغلاء سببه قلة العرض .. مفيش عجول في الاسواق والمعالف فاضية لأن فيه عجولا كثيرة ماتت .. العجل بيأكل ب50 جنيهاً في اليوم .. وبالتالي المربي حالياً يأكل هو وعياله ولا يأكل العجل؟ البلد مفيهاش لحمة وعلشان كده صعب ترخص .. والضاني يذهب للمطاعم ومحلات الكباب .. وعلي عكس ما يعتقد الناس الضاني عند الجزار أرخص رغم أن المطاعم تبيعه أغلى من الكندوز. نعم للمقاطعة عندما تظهر دعوات لمقاطعة سلعة ما .. طبيعي أن تجد تجارها أكثر المتضررين والغاضبين والمعترضين علي المقاطعة، لكن العجيب أن الكثير من الجزارين يؤيدون تماماً حملات مقاطعة اللحمة .. بل يطالبون الشعب بعدم شرائها لفترة، ومنهم المعلم " أبو العلا " .. واختصر وجهة نظره بقوله : لازم المواطن ينسي شوية أكل اللحوم .. علي الأقل علشان يعمل اللي عليه .. ويمكن ده يقلل من أسعار العلف وتربية المواشي .. والجزارون آخر ناس فى دايرة بيع اللحمة ورغم كده هم المتهمون برفع الأسعار، أنا كل يوم اشتري اللحمة بسعر من المجزر مختلف عن سعر إمبارح، بالعكس .. أنا نفسي سعرها يقل علشان الناس ترجع تشتري واكسب .. أنا شاهدت الحلقة التى ظهر فيها الإعلامي جابر القرموطي وهو شايل " فخذة لحمة " في الأستوديو ويعترض علي ارتفاع سعر اللحمة .. وأنا موافق طبعاً علي كلامه .. هو فيه حد يكره إن اللحمة سعرها يقل ، لكن ما باليد حيلة ، والحل في استيراد عجول من الخارج وهي اللي ممكن تحل الأزمة علشان البلدي يستريح شوية. اللحوم الحلال حسين منصور رئيس وحدة سلامة الغذاء بوزارة الصناعة والتجارة وصف في تصريحات صحفية المجازر المصرية ب"القذرة"، مشيرا الى أن طرق الذبح لاتطابق الشريعة الاسلامية ، وقال إنه لا يوجد لحم "حلال او طازج" بالمفهوم الصحيح في مصر، لان الجزارين يكتفون فقط اثناء الذبح بذكر "الله أكبر"، مهملين بقية الشروط الواجب توافرها مثل عدم ذبح حيوان امام حيوان آخر، أو تعذيبه قبل الذبح لعدم افراز هرمونات ضارة تظل في لحمه بعد الذبح، وعندما أخبرت المعلم " أبو العلا " بالتصريح السابق صمت قليلاً .. ثم قال : أنا لا أذهب للمجزر.. اللحمة بتيجي لغاية عندي، لكن فعلاً الذبح يتم لكل العجول والخرفان أمام بعضها ..عموماً فيه اخبار تقول إن اللحمة نزل ثمنها ل60 جنيهاً في بعض المحافظات بسبب المقاطعة.. طيب إزاي واحنا بنشتري الكيلو من المجزر ب60 جنيهاً بعضمه ودهنه .. يعني ربع كيلو منه غير محسوب اصلاً ؟ وفيه ناس خايفة من ارتفاع السعر أكثر في عيد الاضحي .. لكن ساعتها ربنا يرزق الكل . منع الذبح الرئيس الراحل أنور السادات قرر رفع الدعم عن بعض السلع عام 1977، وتبع ذلك ارتفاعا جنونيا في كافة أسعار السلع الأخري، فقد وصل سعر كيلو اللحم الأحمر الطازج وقتها إلي 100 قرش، وهو ما دفع الجماهير للخروج في مظاهرات غاضبة مرددين هتافات "مرعي بيه يا مرعي بيه كيلو اللحمة بقي بجنيه"، وكان سيد مرعي في ذلك الوقت رئيس مجلس الشعب، وكانت نتيجة المظاهرات التي اجتاحت البلاد، أن قام الرئيس السادات بإلغاء قرار رفع الدعم، وعندما علم بأن أسعار اللحوم مازالت جنونية، ومبالغا فيها، قرر منع الذبح لمدة شهر علي أن يطبق القرار علي كافة أنواع الحيوانات، وعلي جميع المحافظات، وقد حث الرئيس السادات الشعب على مقاطعة شراء اللحوم لمدة شهر، وتم تنفيذ قرار منع الذبح والمقاطعة بدقة .. وبإنتهاء الشهر عادت الأسعار إلي طبيعتها .. فهل هذا حل يصلح للتطبيق الآن؟ يقول المعلم " أبو العلا " : طبعاً حل ولازم يطبقوه .. صحيح ساعتها " هنصيع " احنا بس نسحتمل شوية علشان الحال يمشي .. هو المصري الغلبان عايز ايه غير حتة لحمة ومعلقتين أرز وشوية خضار .. دي متعة الدنيا عنده، تلاقي ناس تأكل فراخ يوم واحد .. سمك يوم واحد .. لكن ممكن يأكلوا لحمة كل يوم بس لو يقدروا علي ثمنها. اللحمة والسياسة بمناسبة الحكاية السابقة .. سألت المعلم " أبو العلا " .. اللحمة لها علاقة مباشرة بالسياسة ؟ أنت عاصرت 5 رؤساء جمهورية وأنت جزار .. هل كان هناك فارق في حركة البيع والشراء أم أن أكل اللحمة لا يعترف بالثورات ؟ رد بسرعة : مين قال كده .. اللحمة زي البورصة تتأثر بالسياسة طبعاً ، طبيعة الناس لما تكون مبسوطة ومستريحة وبالها رايق تأكل لحمة .. يعني مثلاً في السنين اللي فاتت كانت حركة البيع صعبة بسبب التوتر اللي الناس كانت عايشة فيه .. وعلشان كده السنة اللي قعدوها الإخوان كانت سوداء ومهببة علي دماغهم .. خربوا الدنيا ووقفوا حال البلد.. الناس كانت تعبانة ومفيش فلوس، واللي معاه كانت عنده حاجات أهم من اللحمة، لكن بعد ثورة 30 يونيو الناس نفسيتها استريحت والعيشة بقت افضل والبيع زاد سواء في اللحمة أو غيرها، أنا كجزار لما اقعد اتفرج علي افتتاح قناة السويس الجديدة أو تأسيس مشروعات كتيرة واستثمارات وفرص عمل للشباب ده شيء يبسطني جداً لأنه معناه إن حال البلد هيبقي افضل وده هيعود بالخير علينا كلنا .. أنا قبل ما اكون جزاراً أنا مواطن بيشتري كل حاحة بالغلاء .. ملابس وأكل ومصاريف للأولاد وايجار للمحل والبيت .. انا بدفع ألف جنيه شهرياً للكهرباء .. التروسيكل كان بيجيب لي العجل ب3 جنيهات وحالياً إيجاره ب50 جنيهاً ، الصنايعي كان بياخد زمان 5 جنيهات في الجمعة ..دلوقتي راتبه الاسبوعي 500 جنيه، وبالتالي اللحمة غالية .. وكل حاجة تانية غالية كمان . الجزارون درجات كما في أى مهنة .. الجزارون درجات، وهناك فكرة خاطئة عند المصريين أنهم يعتبرون الجزار -بالضرورة - يكسب آلاف الجنيهات شهرياً، لكن المعلم " ابو العلا " يقول إن كل واحد ورزقه .. والحكاية لا علاقة لها بالمنطقة التى يتاجر فيها ، ويضيف: الجزارون حالياً شهادات عليا ومثقفين ، وصورة المعلم في السينما مش حقيقية ، ومعظم الجزارين غلابة .. النهاردة اللي بياخد عجل بيبيع فيه طوال الأسبوع .. أنا زمان كنت أبيع كل يوم عجل، في الزمالك مثلاً يبيعون اللحوم أغلي رغم أنهم بياخدوا اللحمة اصلاً من عندي .. الزبون بيفرق لأن الزبائن أجانب ويشترونها مقطعة من أجزاء معينة في العجل ، والله أنا جزار وعمري ما أكلت لحمة كل يوم.. الموجود بناكله .. يوم لحمة ويوم عدس ويوم كشري ويوم مسقعة .. قبل ما تيجي لسه واكل بصارة والحمد لله . خلطة الحواوشي هناك قضية شهيرة عن تاجر لحوم كان يذبح الحمير ويبيعها بخمسة جنيهات للكيلو، وحينما قُبض عليه قال في اعترافاته " هل هناك عاقل يتصور أن هناك كيلو لحم بخمسة جنيهات؟ لقد كانوا يعلمون أنها لحوم حمير ومع ذلك كانوا يأكلونها " .. والسؤال نفسه يتكرر: في المناطق الشعبية نجد الآلاف يومياً يقبلون علي أكل أرغفة الحواوشي رغم أن سعر الرغيف يصل أحياناً إلي جنيهين فقط .. ولا يتجاوز 4 جنيهات بالكثير .. فأى لحمة هذه ؟ يرد المعلم " أبو العلا " : بالنسبة لي ده اسمه " ترويق الدكانة " ..شوية دهون علي حتة لحمة حمراء وبهارات وخلاص، لكن فيه مناطق تبيع الرغيف برخص التراب .. وده لأنهم بيملوه " بلاوي وقرف " وحاجات صعب نتخيلها .. يعني لما يوصل كيلو اللحمة في معظم القاهرة ل85 جنيهاً .. يبقي ازاي فيه رغيف حواوشي ب2 جنيه ؟ حرام والله اللي بيحصل ده . قلقان من المستورد الأرقام الصادرة عن رابطة مستوردي اللحوم والدواجن تؤكد أن مصر تستورد سنويًا نحو 250 ألف طن لحوم مجمدة و200 ألف رأس أبقار حية .. ويتم استيراد أكثر من 60 % من اللحوم من الهند و 30 % لحوم برازيلية، وطبعاً هناك الصورة الشهيرة التى روجت لها الأفلام السينمائية عن الجزار الذي يخلط اللحوم البلدي بالمستوردة .. وهناك حكايات لا تنتهي تطالعنا بها يومياً الصحف عن ضبط كميات ضخمة من اللحوم المستوردة غير صالحة للاستهلاك الآدمي، أو منتهية الصلاحية، أو مصابة بديدان"الساركوسيست " و" السالمونيلا " ، أو محملة بهرمونات تسبب السرطان .. وبدون مقدمات سألت المعلم " أبو العلا " .. ممكن تأكل ولو قطعة صغيرة من اللحوم المستوردة ؟ .. رد قائلاً : كل مصنعات اللحوم تعتمد علي المستوردة .. البلدي غالية ، اللانشون والسجق وهامبورجر وكفتة وشاورما كل ده لحمة مستورد من الكراتين .. لكن بصراحة أنا مقدرش أكلها، عندي قلق منها، وأحيانا يسألني شخص .. إزاي أعرف اللحمة البلدي من المستوردة ؟ وأرد عليه بأن كل واحدة منهم ليها ختم مختلف.. وغير كده لو الاثنين تم تخزينهم صح صعب جداً تفرق بينهما.. لكن الإهمال عندنا سببه إن اللحمة المستوردة ممكن يكون لونها غامق جداً لدرجة السواد احياناً . الفاترينة للجزمة .. واللحمة في الشارع من غرائب المصريين أن طعامهم ، مثل اللحوم والعيش، معروض في الشارع وسط الاتربة وغبار السيارات واشعة الشمس والذباب.. وهو ما يجعله مركزاً للميكروبات والامراض ، بينما الاحذية نضعها في فاترينات للمحافظة عليها، فلماذا يضع الجزارون اللحمة بهذا الشكل ولا يقومون بتخزينها بشكل سليم وصحي .. وهل لذلك علاقة بما يردده المصريون منذ سنوات بأن " طعم اللحمة مش زي زمان" ؟ يقول المعلم " أبو العلا ": عندما تجد الخرفان التى تتربي في الشوارع وتتغذي علي مقالب القمامة .. اعرف إن طعم هذه اللحمة بعد ذبحها لن تجده مثل التى تتربي في المراعي أو المعالف والمزارع، وأنا وكل الجزارين لا نشتري نهائياً من هذه الخرفان .. فقط من المزارع رغم أن ثمنها غاليا لأنها أنظف، أما بالنسبة لعرض اللحوم في الشارع فهناك قاعدة نلتزم بها وهي " الزبون بيأكل بعينه أولاً " .. ولو معلقتش اللحمة في الشارع الزبون مش هيجي يشتري اصلا .. عموما هي إمكانيات ولو فيه فاترينة يبقي احسن ..قاطعته وقلت له : لكن يا معلم فيه دراسات بتؤكد إن اخطر انواع البكتريا تنتقل للحوم من طريقة عرضها في الشارع بهذا الشكل ؟ فرد مبتسماً : يا عم خليها علي الله بقي . خلاصة الحكاية طبقا لتقارير منظمة الفاو العالمية تأتي مصر في المركز ال 10عربياً وال 126 عالميا في استهلاك اللحوم .. أى أننا ظاهرياً شعب لا يحب اللحمة .. لكن فعلياً نحن شعب يعشقها لكن الغالبية من افراده لا يقدرون علي ثمنها ، وفي دراسة حديثة نصيب المواطن المصرى من اللحمة 14.9 كجم سنويا .. بينما الامريكى100 كجم سنويا .. وتبعا للجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء فإن 24.6% فقط من المصريين يأكلون اللحوم الحمراء اما البقية فلا يأكلونها لان دخولهم لا تتفق مع اسعارها أو يشترونها بكميات لا تكفى احتياجاتهم، عموماً .. المعلم " أبو العلا " يلخص الحكاية كلها في عبارة واحدة.. يقول " لو عملنا أى حملات مقاطعة مفيش فايدة .. عمر المصريين ما هيبطلوا ياكلوا لحمة مهما حصل .. وعمر الغالي ما هيرخص ولا اللحمة سعرها هيقل تاني .. قول بس يارب ميغلاش أكثر وأكثر" .