كنت في رحلة بين المحيطين الأطلنطي والهادي عندما فاجأتنا عاصفة الأحداث التي بدأت في مصر يوم 25 يناير . كنا مجموعة من المصريين وقد رتبنا منذ شهور لهذه الرحلة التي بدأت يوم 13 يناير من نيويورك وانتهت يوم 30 يناير في لوس أنجلوس منذ شهور علي الباخرة ' كوين فكتوريا '. فبعد سن الستين بدأت تجربة الرحلات في البحر وقمت بعدة رحلات علي حسابنا الخاص زوجتي وأنا و أتحدي أن أكون كنا قد عبرنا قناة بنما .. هذه القناة التي يعتبرونها معجزة هندسية لأنها ترفع السفينة من المحيط الأطلنطي إلي بحيرة مرتفعة 26 مترا عن مستوي سطح المحيط ( علي نفس طريقة الهويس في إسنا ) ثم تعود وتنزل بالسفينة مرة أخري 26 مترا إلي مستوي سطح المحيط الهادي وبالتالي تنتقل السفينة من المحيط الأطلنطي إلي الهادي في 11 ساعة بعد أن كانت تدور حول رأس القارة الجنوبية لتقوم بهذا العمل في ثلاثة أسابيع . عبرنا قناة بنما واستقرت بنا الباخرة في المحيط الهادي وكانت مياهه هادئة فعلا بلا أمواج , إلي أن فاجأتنا أحداث مصر التي أصبحت الموضوع الوحيد للقنوات الإخبارية الأربع التي ينقلها القمر الصناعي إلي تليفزيون الباخرة وهي قنوات : سكاي نيوز , وبي بي سي , وسي إن إن , وفوكس نيوز . رحلات سابقة قمت بها في المحيطات والبحار كان يندر أن نشهد خلالها في هذه القنوات خبرا عن مصر , ولكن منذ هذا اليوم 25 يناير والأيام التالية اصبحت هذه القنوات وكأنها تبث نشراتها من داخل مصر ولا تنشر إلا أخبار مصر ومظاهرات الشباب في مصر ومعسكرهم في ميدان التحرير الذي يعد من أصغر ميادين المدن لكنه أصبح في أيام أشهر من ساحة تيان أين مين في بكين , وتايمز سكوير في نيويورك , والميدان الأحمر في موسكو , مما عكس علي الفور أهمية مصر التي تقع فيها هذه الأحداث فقد كانت هناك في نفس الوقت أحداث أخري في تونس والسودان والجزائر واليمن إلا أن هذه القنوات كانت تشير إلي أحداثها إشارات عابرة ثم تعود لتركز علي مصر . اختلطت مشاعر القلق مع الخوف مع الحيرة خاصة بعد ان اكتشفناانقطاع الاتصالات التليفونية بيننا وبين مصر وقد كانت العادة إجراء هذه الاتصالات بلمسة إصبع علي أزرار التليفونات المحمولة التي معنا في أي وقت , وأكثر من ذلك انقطعت علاقتنا بالصحف المصرية التي كنا نطالعها يوميا وفي أي ساعة من خلال شبكة الإنترنت بعد أن توقفت هذه الشبكة وتوقفت معها الرسائل التليفونية الإخبارية التي كانت تأتيني علي تليفوني من أربعة مصادر للأخبار وبالتالي انقطعت علاقتنا بمصر إلا من خلال نشرات الأخبار التي تسمرنا أمامها . بدا لنا أننا محاصرون في المحيط الذي رغم هدوء مياهه إلا ان عواصف الأحداث في مصر جعلتنا نشعر بأننا نريد القفز من الباخرة والطيران إلي مصر . وبالفعل ما أن وصلت الباخرة إلي لوس أنجلوس صباح الأحد 30 يناير حتي كنا في مصر في مساء اليوم التالي نعيش أحداث ثورة شبابها التي لم يكن أحد في العالم يتنبأ ليس فقط بوقوعها بل والأهم أن تحقق في 18 يوما فقط ماحققته . (2) علي أبواب العبور الثاني كانت أول سطور كتبتها بعد نجاح ثورة الشباب في خلع حسني مبارك وإرغامه علي التخلي عن منصبه هذه السطور التي نشرتها في الأهرام ( 13 فبراير 2011) وأعيد هنا نشرها تسجيلا لمشاعر قد تصبح يوما شهادتي في لحظة تاريخية فريدة لمصر : كان قدر الجيل الذي أنتمي إليه أن يشهد ثورتين باعدت بينهما 59 سنة . ثورة 52 التي قام بها شباب الجيش وايدها الشعب , وثورة 2011 التي قام بها شباب الشعب وأيدها الجيش . وقد عشت سنوات الثورة الأولي كاملة , أما بالنسبة للثورة الثانية التي أشعلها الشباب فالله وحده يعرف كم سيقدر لي من عمر أعيشه فيها . وأعترف أنه لأنني عاصرت تفاصيل ثورة 52 التي بدأت بشباب يعرف مالايريد .. لايريد الملك ولا الباشوات ولا الإقطاع ولا الأحزاب التي كانت موجودة , ولكن دون أن يكون لديه برنامج يعمل علي أساسه لبناء ما انهدم , مما اقتضي أن تدخل البلاد مرحلة طويلة من الصراع علي السلطة ومن التجارب ومن كبت الحريات ومن تكوين طبقة جديدة من الموالين من أهل الثقة وتسابق المنافقون إلي التقرب إلي رجال الثورة مما أدي إلي التنازلات التي جعلت رئيس الجمهورية ملكا له كل السلطات دون مساءلة .. لكل هذا وغيره كثير , فقد كان خوفي من أن يدخل الوطن في تجربة ثورة جديدة علي طريقة 52 . كان قلبي مع شباب مصر بكل حيويته ونقائه وصموده وبراءته وحماسه وإخلاصه وطموحاته , وكان عقلي مع شريط الماضي الذي عشته وأخاف علي هؤلاء الأبناء الأعزاء من أن يتوه منهم الطريق كما تاه فيه من قبل شباب واحلام كل الجيل الذي أنتمي إليه . إنهم لم يشعلوا أول ثورة في تاريخ مصر يقوم بها الشعب , فقد قام هذا الشعب بثورات سابقة شهدت عديد الشهداء , ولكنها أول ثورة شعبية يكتمل نجاحها رغم أن شبابها لم يمسكوا مدفعا أو يلقوا قنبلة أو يطلقوا رصاصة وكل الذي فعلوه أنهم احتلوا ميدانا وسط القاهرة لم يغادروه 18 يوما . لقد أقاموا دولة في ميدان صغير كان اسمه للمصادفة ' التحرير ' راح يتسع ويمتد حتي شمل كل مصر . وقد نجحوا .. فليبارك الله نجاحهم , وليوفق الله قواتنا المسلحة في تحقيق العبور الثاني لمصر إلي الجمهورية الثانية الحقيقية , وليتحملوا قلقي وخوفي الذي له أسبابه . (3) فن إنجاح ثورة ! الجمعة 11 فبراير 2011 كان هذا هو اليوم الحاسم في تصاعد الأحداث التي بدأت يوم 25 يناير والتي يمكن أن يسجل عنها كتاب عنوانه ' كيف تعمل إدارة دولة علي نجاح الثورة ضدها ' فلم يحدث خلال هذه الفترة أن كان هناك قرار واحد سليم في الوقت المناسب . فما كان صالحا أن يصدر يوم الأربعاء 26 يناير صدر في منتصف ليل الجمعه 28 بعد أن ترك لجهاز الأمن مواجهة الأزمة وإشعالها وهروبه وأسوأ من ذلك إطلاق السجون وترك المسجونين والمجرمين ينطلقون ليعيثوا في البلد فسادا . وبينما كان يجب علي مبارك أن يعلن يوم السبت 29 يناير بعد نزول الجيش تنحيه وإعلانه أنه يضع حياته فداء كل المصريين ولا يتهم بأنه يسعي إلي سلطة علي حساب دماء وأرواح شباب وطنه فإنه تأخر أسبوعا كاملا في هذا الإعلان . وكان الأشد سوءا عندما جاء يوم الأربعاء 2 فبراير بتخطيط هزلي رتبه المنتفعون ببقاء مبارك فيما أطلق عليه معركة الجمل , ليس حبا في مبارك وإنما أملا في توريث حكمه لابنه جمال الذي رغم كل محاولاته علي طول السنين لم يستطع أن يدخل قلوب الناس البسطاء , فكانت أم الكوارث التي قطعت حبال كل تعاطف مع مبارك ليس علي مستوي الشعب فقط بل علي مستوي الجيش الذي كان واضحا أنه انقلب علي مبارك واجتمع مجلسه الأعلي لأول مرة بدون مبارك وأعلن بيانا كان يجب أن يفهم أي واحد منه أن الجيش في انتظار تخلي الرئيس وهو ما تم إعلانه متأخرا بعد أن تحركت كل قطارات الأمل !. (4) في ميدان التحرير الجمعة 11 فبراير 10.30 مساء انتهيت من كتابة مشاعري فور تنحي حسني مبارك في السطور السابقة التي تحمل رقم 2 وبعدها وكانت الساعة العاشرة والنصف مساء نزلنا زوجتي وأنا إلي ميدان التحرير وقد أخذتنا سيارة تاكسي إلي أول ميدان سعد زغلول ومنها قمنا بجولة عبر الميدان وكوبري قصر النيل وميدان التحرير إلي فندق سميراميس . ثلاث ساعات لم يحدث أن رأيت مصر كما رأيتها في هذه الساعات . فلم يحدث أن رأيت مثل هذه الفرحة التي انطلقت من كبتة مكتومة مقبورة في ملايين الصدور كما رأيتها علي وجوه المصريين الذين توافدوا علي الميدان يحجون إليه ويلتقون بعدد من الذين صنعوا المعجزة , والذين كانوا في ذلك الوقت قد أصابهم التعب من سهر الليالي وحرب ال 18 يوما , ورقدوا في الخيام البسيطة التي نصبوها ملتحفين بالبطاطين التي لفوها علي أنفسهم غير قادرين علي الوقوف أوتلقي تحية الذين جاءوهم بعد أن حرروا الوطن ورفعوا العلم . لاأعرف هل كنا في مهرجان أم احتفال أم ليلة في كوكب آخر سافرنا إليه ؟ كم كان عددنا فقد كنا مئات الآلاف وأكثر ومع ذلك سرنا زوجتي وأنا في راحة .. لم يحتك واحد بواحدة , ولم أسمع لفظا نابيا من أحد ضد أحد , ولم أجد غير الفرحة والأغاني والابتسامات والطبل والرقص والصواريخ أطلقها الناس وعلم مصر تلوح به آلاف الأيدي وقد حاولنا البحث عن علم نشتريه فلم نجد , وأياد تمتد لي مهنئة . وفي مدخل الميدان وقف شباب ينظمون المرور ويرشدون العائلات ( أي الرجال وزوجاتهم وبناتهم ) للسير إلي الشمال . كان منظر الدبابات وسط هذه الحشود يبدو كجزر صغيرة في بحر من البشر وقد أحاط بها الشباب يتسلقونها ويسجلون صورهم معها والجنود الذين يتولونها يضحكون مع هؤلاء الضيوف الذين كانوا يجذبونهم ويقبلونهم . رأيت في الخيام شبابا غير التاريخ علي غير اتفاق .. شبابا إلتقي كثيرون منهم في هذا الميدان لأول مرة وتعارفوا وتصادقوا وسهروا وناموا وتعرضوا للقمع والرصاص والقنابل وفقدوا زملاء استشهدوا وجمعوا صورهم ونشروها علي السور المؤدي إلي باب الخروج من الميدان تاركين لصورهم المبتسمة في براءة توديع حجاج الميدان وتذكيرهم بأنه لا حرية بلا ثمن !