نتناقل الخبر بقلوب تخفق بالخوف والأمل ، ظهرت نتيجة امتحان الشهادة الابتدائية القديمة ويجرى الآن تسليم شهاداتها بفناء مدرسة النجاح الابتدائية التى تقع عند أحد أطراف المدينة. أهرول إلى أبى مصفر الوجه مرتجفا وأبلغه بالخبر وأطلب منه مبلغ البقشيش الذى سأدفعه لفراش المدرسة ، فى مثل هذا الموعد من كل سنة كان أبى يعطينى قبل الذهاب للمدرسة لاستطلاع النتيجة خمسة قروش أنفحها للفراش عقب النجاح "فيرفع" يده شاكرا، لكن أبى خرق المألوف هذه المرة وأعطانى عشرة قروش كاملة مراعاة لجلال الشهادة التى سأحصل عليها إذا قدر لى الفوز، هرولت مع صديقين لى تطوعا لشد أزرى فى هذا الموقف العصيب إلى المدرسة البعيدة .. ووصلت إليها لاهثا فوجدت سكرتير المدرسة يجلس إلى مائدة صغيرة فى الفناء وأمامه الشهادات وإلى جواره الفراش، وحولهما عدد من التلاميذ الصغار بين مبتهج بالنتيجة وباك منها، ورأيت كل تلميذ يقترب من السكرتير فيبلغه بنتيجته غير أنه يرفض أن يسلمه الشهادة إلا إذا " نفح " الفراش الواقف إلى جواره بقشيشه المناسب ! جاء دورى فتقدمت من السكرتير، فما أن رآنى حتى هنأنى بالنجاح فتنفست الصعداء وهدأت ضربات قلبى بعض الشىء ثم مددت يدى لأتسلم الشهادة فأشار إلى الفراش إشارته المفهومة، فأخرجت قطعة النقود الفضية وأنا أترقب ابتهاجه المتوقع بها وشكره عليها، فإذا به يرفض تسلمها منى مستنكرا، ويقول لى إنه لن يقبل أقل من ريال كامل "كحلاوة" للفوز بالشهادة الابتدائية، فأشعر بخجل الدنيا كلها ويتضرج وجهى بالاحمرار ويزيد من حرجى تدخل سكرتير المدرسة فى الحديث لائما ومعاتبا: فعلا يا ابنى إنها الابتدائية بجلال قدرها ! فكيف يكون البقشيش أقل من ريال؟ فأشعر ببعض اللوم فى أعماقى تجاه أبى الذى لم يقدر الفوز الكبير الذى حققته حق قدره فوضعنى سوء التقدير فى هذا الموقف المحرج، وأفيق من ذهولى على صوت السكرتير يدعونى للذهاب إلى أبى لاستكمال المبلغ والعودة لتسلم الشهادة، فأنصرف محرجا ومرتبكا فلا يخفف من ارتباكى ما يؤكده لى الصديقان من أنهما قد رأيا بعض التلاميذ قبلى يعطون الفراش خمسة قروش فقط ويحصلون على الشهادة، ولا تفسيرهما بما حدث لى بأنه مجرد "جشع" من السكرتير والفراش اللذين يتقاسمان البقشيش سرا، وأرجع لأبى بالخيبة فيبتهج لنجاحى ويستاء لتصرف السكرتير والفراش الذى سيكبدنى مشوارا للذهاب للمدرسة مرة أخرى، ويعطينى ما يشبع "جشع" الفراش والسكرتير وينتهى الموقف بسلام، ثم تسقط القصة كلها فى بئر النسيان سنوات طويلة إلى أن تقفز للذاكرة بعد أكثر من 35 سنة، حين يحصل ابنى على الشهادة الابتدائية فأفاجأ بالهدايا و "النقوط" تنهال عليه من أعمامه وعماته وأخواله وخالاته، وكأنما قد فاز بجائزة نوبل فى العلوم ! ثم تزورنى أمى رحمها الله رحمة واسعة وأحسن مثوبتها بعد نجاحه بأيام فتنفحه مبلغا جسيما من المال لا يتناسب مع قيمة الشهادة نفسها بأى وجه من الوجوه، فأتذكر حالى حين حصلت على نفس الشهادة بلا احتفالات ولا نقوط، اللهم إلا ذكرى الموقف المحرج مع فراش المدرسة وسكرتيرها "الجشع"، وأعاتب أمى يرحمها الله على نفحتها المغالى فيها لابنى فى هذه المناسبة، واسألها عن دواعى المبالغة فيها وهى لا تعدو أن تكون الشهادة الابتدائية وليست درجة الدكتوراه، فتجيبنى إجابة تلخص لى خبرة الدنيا كلها فى كلمتين فتقول: لأنها "الباب" المؤدى لكل الشهادات بعد ذلك حتى الدكتوراه! . وأضحك للإجابة غير المتوقعة، وأتأملها طويلا معجبا ومتعجبا، وأجدنى أسلم بوجاهتها وحكمتها، غير أن صوت الطفل الصغير يستيقظ فجأة من الأعماق السحيقة فيتساءل: ولماذا إذن لم يحتفل "بنا" أحد كل هذا الاحتفال حين اجتزنا نفس هذا "الباب" وما تلاه من أبواب؟ أقرأ أيضاً : الحلقة الخامسة عشرة .. العصر الذهبى