بدايات أنيقة لم تعد تبهرني تلك اللحظة التي باغت فيها العريس فتاة أحلامه أثناء رقصة »السلو» ويحتضنها ويدور بها أمام المدعوين يهمس في أذنيها أنه يحبها وسيظل يحبها وسيبقي إلي جوارها حتي آخر العمر وحتي يفني العالم، لا اعترف بلحظات البدايات ولا أستطيع الحكم علي علاقة ما من خلال اللحظات الأولي الأنيقة واللامعة دوما، حيث الحياة لا تزال بخير وجميلة ويافعة ولم تنحدر بعد إلي منتصف الطريق الوعر وفي النهايات، فمثلا يمكنني الأنبهار برجل ظل مخلصا بعد وفاة زوجته وآثر البقاء وحيدا رغم إلحاح الأهل والأصدقاء المزعج وإدراكه أن من حقه أن يتزوج مرة ثانية، لكنه يدرك جيدا أن ذاك الحيز الذي كنه لها من الحب كان مفصلا علي مقاس قلبها وليس بمقدور أي امرأة سواها أن تأخذه، وآخر كان الداعم الأول لزوجته التي تعتكف علي إكمال الدراسات العليا بين هذا الزخم من الحمقي والمرضي الذين يتفاخرون بقمع أحلام الزوجة وكأن ذلك مدعاة للأصالة والرجولة، وهناك من يعرف أن زوجته لن تنجب له ولي العهد المنتظر وبدلا من أن يخبر الناس بأنها عاقر ويعرضها لمهاترات ومضايقات وجروح لن تبرأ، أخبرهم بأنه هو العقيم الذي لن ينجب، لأنه لن يحتمل فكرة الفراق أو وجود أطفال لا يقتاتون جزءا من رحمها ولا حتي ملامحها، يمكنني الإنبهار أيضا برجل لم يشعر زوجته المصابة بمرض خطير بأنها أصبحت عبئا مضاعفا وظل إلي جوارها حتي تعافت تماما ولم يستمع إلي نصائح الذين من حوله برميها أو الزواج عليها وكأنها قطعة أثاث بالية لم تعد صالحة للاستخدام، ذلك ليس عملا بطوليا بالمناسبة. عيد اليتم في طريق العودة من المدرسة إلي الملجأ الذي يقبع فيه، كان يظن أن اليوم يصادف الواحد والعشرين من مارس، ذاك اليوم الذي يسمونه عيدا، رغم أنه يغرز براثنه في كل الجروح المتوغلة التي تقارب من الشفاء لدي اليتامي واللقطاء ومن فقدوا نعمة الإنجاب ومن كان حظها سيئا مع أولادها، لم يكن متأكدا من تاريخ اليوم حتي تعلقت عيناه بإحدي اليافطات المعدنية الموضوعة علي المحلات التجارية، غض طرفه عن تلك العبارات والهدايا التي تروج لهذا اليوم تحديدا ورغم إصراره علي مواصلة السير والمضي في طريقه وادعاء ألا شئ يطرق وجعه، إلا أنه في لحظة ما لم يستطع إحجام نفسه من البكاء وهو يلمح تلك العباءة الفضفاضة عبر الزجاج الشفاف، لبث أمامها لدقائق وهو يحاول أن يتذكر تقاسيم وجه والدته قبل أن يغتال جسدها المرض، من الذاكرة انقشعت صورتها وهي في أبهي حالاتها، بشرتها الصافية وعيناها الخضراء الناعسة وطولها الفارع وشعرها الأسود الذي كان يتجاوز منتصف ظهرها، حاول أن يحسب علي أنامله الصغيرة كما علموه في المدرسة كم من السنوات العجاف مرت علي رحيلها وماذا لو كانت حية حتي هذه اللحظة، ألم يكن بوسعها أن تنتظره قليلا حتي يكبر ولو بضعة أعوام، حتي يتمكن من العناية بمظهره الذي يلقي استهجان معلمة العربي وحتي يتمكن من إتقان القسمة المطولة لينال إعجاب معلمة الرياضيات مثل كل زملائه، عاود النظر إلي الثوب الأزرق بأسف كان متأكدا بأنها ستفضل هذا اللون تحديدا، نكس رأسه بخيبة بعد أن رنا إلي السماء وقرأ لها الفاتحة، تلك كانت هديتك يا ماما همس بضيق وواصل طريقه. تراكمات طفيفة تركض محموما بين أورقة المستشفيات النفسية والمصحات، تترجي هذا الطبيب وذاك أن يفعل أي شئ ليعيد ابنتك أو ابنك لسابق عهدهما، تتساءل بألم لم يحدث معهم كل هذا، تقول لنفسك أنك حاولت تربيتهم بشكل جيد وبذلت جهدا لاحظه الجميع في طريقة تهذيبك، تتناسي تجاهلك لرغباتهم وهم صغار عدا الكتب المدرسية المحدودة لم تجد داعيا ليتعلم أبناؤك أشياء يريدونها مثل لعب الباليه، تعلم العزف علي آلة القيثارة، السباحة والكونغفو، حتي مجلات القصص القصيرة كانت في منأي عن أحلامهم. قوبلت رغباتهم وفق أهوائك وكأنهم مجرد دمي، ظننت أنهم ينتمون إلي زمانك حيث طريقة التربية الشائعة، ضربك المبرح وكلامك الجارح ومقارنتهم بأولاد أقاربك الذين يفوقونهم في التحصيل الدراسي وتناسيت أحلامهم وأمنياتهم وتعمدت أن تركلها لأنها لم ترق لك قط ثمه ندوب قد تركتها بداخلهم وأنت لا تدرك كم من الصعب شفاؤها، تُفاجئ بتلك التراكمات التي ظننتها طفيفة وغرستها بداخلهم قد ترعرعت بمرور الزمان ونمت وكبرت وصعب اقتلاعها الآن وتحولت إلي كتلة ثقيلة تسمي الاكتئاب لها أذرع متدلية من كل النواحي، تقبض علي أجسادهم وتحيلهم إلي كائنات جامدة عاجزة عن التفكير أو الحراك وترغب بإيذاء نفسها والخلاص من الحياة.