ليس جديداً انحيازي العلني إلي تجربة الشاعر الأردني أمجد ناصر، سواء بمبادرة من جانبي تنطوي علي مراجعة إصداراته، أو بمبادرة منه حين يتكرّم فيطلب مني أن أقدّم لمجموعة جديدة له أو مختارات، وكان آخر عهدي بهذه «المهمة» المحببة أنني قدّمت أحدث مجموعاته، «مملكة آدم». أسبابي الأولي في هذا الانحياز تبدأ من قناعة مركزية مفادها أنّ تجربة ناصر هي بين الأبرز، والأكثر نضجاً وانفتاحاً وتجدّداً، في الجيل الشعري العريض والتعددي والغنيّ الذي صعد منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي؛ وحمل هاجس العبور الشائك من النثر الشعري كما أطلقه جيل محمد الماغوط وأنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال، إلي شكل قصيدة النثر كما صرنا نقرأ نماذجه الرفيعة في حفنة من التجارب التي لا تكفّ عن الارتقاء. ولقد بدأ ناصر شاعر تفعيلة، وفي مجموعته الأولي «مديح لمقهى آخر»، 1979، نقرأ عدداً من القصائد التي تفاجئنا ولا تزال تفعل اليوم أيضاً في مستوى نضجها الفنيّ، وهدوء نبرتها الإيقاعية، وذكاء استكشافها للطاقات الموسيقية الكامنة في عدد من التشكيلات التفعيلية، وبراعة تملُّصها من تبعات الشكل الأخرى (أنظمة التقفية، على سبيل المثال). وفضيلة هذه البدايات أنها أتاحت للشاعر طوراً من التدرّب المبكّر على خفايا موسيقى الشعر، الأمر الذي أسفر عن دربة إيقاعية، وحسّ يقظ بالشكل، وتَنبُّهٍ إلى مواطن القوّة (وهي، أيضاً، مواطن الجمال) في تصميم الأبنية الإيقاعية. هذه العوامل، في مجموعها، أتاحت له أن ينتقل بخطى ثابتة، وبأمان ملموس، نحو شكل قصيدة النثر الذي طبع كتابته الشعرية منذ العام 1979 وحتى اليوم. أمجد برفقة صبحي كذلك كان طبيعياً، وإنْ لم يكن آلياً أو تلقائياً، أن تسفر تربية ناصر الجمالية عن رسوخ فصحى رفيعة وذات بهاء خاصّ. فمنذ القصائد الأولى بدا واضحاً أنّ اللغة رهان مركزي في قرارة الشاعر، وأنّ هاجسه تطوير جملة عربية غنيّة، حارّة المعجم، عالية الإيحاء، حسّية العناصر، تشكيلية الصورة، بصرية الاستعارة، وإيقاعية التكوين في بنياتها الدلالية والصرفية والصوتية. ومنذ مجموعته الرابعة، «وصول الغرباء»، 1990، شرع ناصر في تكريس تقليد يندر أن نعثر عليه بهذه الدرجة من الصفاء والقصدية وحسن التنفيذ في معظم المشاريع الشعرية المكتملة التي تصنع مشهدية قصيدة النثر العربية المعاصرة: تكريس مجموعة شعرية بأسرها لموضوعة واحدة، أو لسلسة تنويعات ضمن موضوعة واحدة جامعة. ثمة، هنا، فرصة استدراج القراءة إلى استقبال أكثر حيوية للنصّ الشعري، واقتياد القارئ إلى درجة أرقى في تذوّق ما تنطوي عليه هذه الكتابة الشعرية من مشقّة. وثمة، إلى هذا، مغامرة زجّ الشكل الشعري في اختبار مفتوح مع الموضوعة المتكاملة، والقبول بعواقب ما يمكن أن يسفر عنه جدل هذه المواجهة، وما إذا كانت ستُنهِضُ الشكل أم تُقعِده. وفي سياقات هذا التحدّي، قارب ناصر الموضوعة الإيروسية في مجموعته الخامسة «سّرّ مَن رآك»، 1994، ولكنّ قصائده تجاوزت الشبقي والغريزي والحسّي، أو هي بدأت من هذه كي تقارب قصيدة الحبّ القصوى. وفي مجموعته السابعة «حياة كسرد متقطع»، 2004، سجّل ناصر نقلة مميّزة، وذات أهمية خاصة، في تفصيل مركزي بالغ الحساسية: هاجس الشكل إجمالاً، وقلق الشكل الراهن تحديداً. ذلك لأنه اشتغل، هنا، على القصيدة الدرامية، أو القصيدة بوصفها سردية قصيرة حول لقطة إنسانية بالغة الخصوصية؛ ليست مع ذلك متجرّدة من عوامل الماضي والحاضر والمستقبل، وليست في منجاة من ضغوطات المعنى والتاريخ والبلاغة والأسطورة. ولعلّ المسعى الأهمّ في شعرية ناصر أنه يجهد للانتقال بشكل قصيدة النثر العربية المعاصرة إلى مصافّ أخرى أشدّ رقيّاً، وأكثر مشقّة، وأعلى قدرة على تخليص الشكل من سكونيته، وبناء تعاقد صحّي مع قارئ لا يضلّ طريقه إلى الشعر الحقيقي.