حريق يلتهم 4 أفدنة قمح في قرية بأسيوط    متحدث الصحة عن تسبب لقاح أسترازينيكا بتجلط الدم: الفائدة تفوق بكثير جدًا الأعراض    بمشاركة 28 شركة.. أول ملتقى توظيفي لخريجي جامعات جنوب الصعيد - صور    برلماني: مطالبة وزير خارجية سريلانكا بدعم مصر لاستقدام الأئمة لبلاده نجاح كبير    التحول الرقمي ب «النقابات المهنية».. خطوات جادة نحو مستقبل أفضل    ضياء رشوان: وكالة بلومبرج أقرّت بوجود خطأ بشأن تقرير عن مصر    سعر الذهب اليوم بالمملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الأربعاء 1 مايو 2024    600 جنيه تراجعًا في سعر طن حديد عز والاستثماري.. سعر المعدن الثقيل والأسمنت اليوم    تراجع أسعار الدواجن 25% والبيض 20%.. اتحاد المنتجين يكشف التفاصيل (فيديو)    خريطة المشروعات والاستثمارات بين مصر وبيلاروسيا (فيديو)    بعد افتتاح الرئيس.. كيف سيحقق مركز البيانات والحوسبة طفرة في مجال التكنولوجيا؟    أسعار النفط تتراجع عند التسوية بعد بيانات التضخم والتصنيع المخيبة للآمال    رئيس خطة النواب: نصف حصيلة الإيرادات السنوية من برنامج الطروحات سيتم توجيهها لخفض الدين    اتصال هام.. الخارجية الأمريكية تكشف هدف زيارة بليكن للمنطقة    عمرو خليل: فلسطين في كل مكان وإسرائيل في قفص الاتهام بالعدل الدولية    لاتفيا تخطط لتزويد أوكرانيا بمدافع مضادة للطائرات والمسيّرات    خبير استراتيجي: نتنياهو مستعد لخسارة أمريكا بشرط ألا تقام دولة فلسطينية    نميرة نجم: أي أمر سيخرج من المحكمة الجنائية الدولية سيشوه صورة إسرائيل    جونسون: الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية نتاج للفراغ    قوات الاحتلال تعتقل شابًا فلسطينيًا من مخيم الفارعة جنوب طوباس    استطلاع للرأي: 58% من الإسرائيليين يرغبون في استقالة نتنياهو فورًا.. وتقديم موعد الانتخابات    ريال مدريد وبايرن ميونخ.. صراع مثير ينتهي بالتعادل في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    معاقبة أتليتيكو مدريد بعد هتافات عنصرية ضد وليامز    موعد مباراة الأهلي والإسماعيلي اليوم في الدوري والقنوات الناقلة    عمرو أنور: الأهلي محظوظ بوجود الشناوي وشوبير.. ومبارياته المقبلة «صعبة»    موعد مباريات اليوم الأربعاء 1 مايو 2024| إنفوجراف    ملف رياضة مصراوي.. قائمة الأهلي.. نقل مباراة الزمالك.. تفاصيل إصابة الشناوي    كولر ينشر 7 صور له في ملعب الأهلي ويعلق: "التتش الاسطوري"    نقطة واحدة على الصعود.. إيبسويتش تاون يتغلب على كوفنتري سيتي في «تشامبيونشيب»    «ليس فقط شم النسيم».. 13 يوم إجازة رسمية مدفوعة الأجر للموظفين في شهر مايو (تفاصيل)    بيان مهم بشأن الطقس اليوم والأرصاد تُحذر : انخفاض درجات الحرارة ليلا    وصول عدد الباعة على تطبيق التيك توك إلى 15 مليون    إزالة 45 حالة إشغال طريق ب«شبين الكوم» في حملة ليلية مكبرة    كانوا جاهزين للحصاد.. حريق يلتهم 4 أفدنة من القمح أسيوط    دينا الشربيني تكشف عن ارتباطها بشخص خارج الوسط الفني    استعد لإجازة شم النسيم 2024: اكتشف أطباقنا المميزة واستمتع بأجواء الاحتفال    لماذا لا يوجد ذكر لأي نبي في مقابر ومعابد الفراعنة؟ زاهي حواس يكشف السر (فيديو)    «قطعت النفس خالص».. نجوى فؤاد تكشف تفاصيل أزمتها الصحية الأخيرة (فيديو)    الجزائر والعراق يحصدان جوائز المسابقة العربية بالإسكندرية للفيلم القصير    حدث بالفن| انفصال ندى الكامل عن زوجها ورانيا فريد شوقي تحيي ذكرى وفاة والدتها وعزاء عصام الشماع    مترو بومين يعرب عن سعادته بالتواجد في مصر: "لا أصدق أن هذا يحدث الآن"    حظك اليوم برج القوس الأربعاء 1-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. تخلص من الملل    هل حرّم النبي لعب الطاولة؟ أزهري يفسر حديث «النرد» الشهير (فيديو)    هل المشي على قشر الثوم يجلب الفقر؟ أمين الفتوى: «هذا الأمر يجب الابتعاد عنه» (فيديو)    ما حكم الكسب من بيع وسائل التدخين؟.. أستاذ أزهرى يجيب    هل يوجد نص قرآني يحرم التدخين؟.. أستاذ بجامعة الأزهر يجيب    «الأعلى للطرق الصوفية»: نحتفظ بحقنا في الرد على كل من أساء إلى السيد البدوي بالقانون    إصابات بالعمى والشلل.. استشاري مناعة يطالب بوقف لقاح أسترازينيكا المضاد ل«كورونا» (فيديو)    طرق للتخلص من الوزن الزائد بدون ممارسة الرياضة.. ابعد عن التوتر    البنك المركزي: تحسن العجز في الأصول الأجنبية بمعدل 17.8 مليار دولار    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    "تحيا مصر" يكشف تفاصيل إطلاق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم قطاع غزة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط.. صور    أفضل أماكن للخروج فى شم النسيم 2024 في الجيزة    اجتماعات مكثفة لوفد شركات السياحة بالسعودية استعدادًا لموسم الحج (تفاصيل)    مصدر أمني ينفي ما تداوله الإخوان حول انتهاكات بسجن القناطر    رئيس تجارية الإسماعيلية يستعرض خدمات التأمين الصحي الشامل لاستفادة التجار    الأمين العام المساعد ب"المهندسين": مزاولة المهنة بنقابات "الإسكندرية" و"البحيرة" و"مطروح" لها دور فعّال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمجد ناصر.. أثر الباقي
نشر في أخبار الأدب يوم 08 - 06 - 2019

في منتصف مايو الماضي فاجأ الشاعر «أمجد ناصر» أصدقاءه وقراءه بنبأ صادم، أن الطبيب نصحه بكتابة وصيته، فليس بإمكانه الحياة إلا لبضعة أسابيع.
كانت هذه المعلومة الجزء الأكثر قسوة في نص طويل سمَّاه أمجد «قناع المحارب» ونشره علي صفحته الخاصة ب«فيسبوك»، فبدا كأن زلزالاً شرخ «الموقع الأزرق»، الذي لم يعرف، علي مدار أيام تالية، سوي هذا النص، وصور وذكريات لأصدقاء ومحبين وزملاء عمل، غير أن «أمجد» عاد بعد بضعة أيام ليحذف النص، حذفه من صفحته لكنه كان قد وقر في قلوب الجميع.
وكان تركُ هذا الجمال الفريد من المشاعر والذكريات العظيمة ل«الفيسبوك» بمثابة حكم قاس بالتخلي عنها، لتواجه العدم، والضياع تحت ركام «التريندات» وطبقات لانهائية من الأخبار والكلام العادي، وفكرت سريعاً في إعداد ملف عن أمجد، ورغم صعوبة المهمة، وقسوتها علي الجميع، في هذا التوقيت، إلا أنني بمجرد أن شرعت فيها فوجئت بأنني لم أعد بمفردي المسئول عن الملف، فقد بدا وكأن هناك ما يشبه الاكتتاب العام بين المثقفين علي مستوي العالم العربي، فقد اقترح كل كاتب كاتباً آخر، وكل صديق صديقاً، وانهمرت المادة والصور والاقتراحات كالسيل، ولا تزال حتي لحظة كتابة هذه السطور، كما حاول كثيرون الكتابة بصدق وفشلوا، إذ تجمدوا كُليةً عند عتبة الصدمة.
المأساةُ هي الإطار العام للحدث، وفي المأساة تفقد الكلمات معناها، لكن «أمجد ناصر» أضفي أبعاداً جديدة عليها، وخلَّصها من سوداويتها، وكبدويٍ لا يعرف التراجع طلب منازلة الوحش رجلاً لرجل، وكمحبٍ للحياة منح نفسه لحظات من المتعة، دخن بضع سجائر، وتفنن في استدعاء أحبَّته من أيقونات الشعر، وكتب واحداً من أعظم نصوصه، وبالتأكيد سيبقي هذا النص، كما سيبقي ما تركه من شعر ومساهمته في إنضاج قصيدة النثر العربية لوقت طويل.
تحدث «أمجد ناصر» عن موته الوشيك ببساطة، بتجرد، وبفنية، كأن الفن لا يجب أن يغيب - حتي - وأنت تكتب عن معركة شخصية مع السرطان، وهكذا خاصمت الأصوات الجنائزية عباراته، محاها أمجد ببساطة وبراعة، مضيفاً الجمال علي كل شيء، حتي علي عدوه الشنيع «السرطان» أو كما رآه في أشعة الدماغ «وردة متوحشة»، كتب «أمجد» نصَّه بلغة حادة كمشرط، ربما لينفي عن نفسه أيَّ شبهة بالخوف، حتي وهو يخوض نزالاً صعباً، ولكنه تركنا ننزف مع آخر سطر في نصه العظيم.
للأسف لم أر أمجد ناصر سوي مرة واحدة عابرة في القاهرة، لا أتذكر منها سوي وجهه الصامت الطيب، الذي يحرسه شارب ضخم، وكنت أتخيل أنني سأكون أقلَّ المتضررين من هذا الملف، لكن المادة التي انهمرت عليَّ جعلتني أعيش مع «أمجد» علي مدار شهر كامل، لم أكن أفعل فيه شيئاً سوي مطالعة ملامحه في سطور أكثر العارفين به، وأقرب أصدقائه ومحبيه، من رأوه قوياً، ومن رأوه متعثراً، من شاهدوه يضحك، ومن واسوه في بكائه، من استمتعوا بكرمه في البيت، ومن عرفوا شجاعته في العمل، من لمسوا طيبته، ومن تطاير في وجوههم شرر غضبه النادر، وهكذا تأثرت كأنني أخوه الأصغر تماماً، فقد كنت طوال هذا الشهر معه، هناك، مع عائلته المحبة، لكنني لحسن الحظ رأيته مبتسماً طوال الوقت، فتشبثت في ابتسامته هذه التي محت كل ما قاله الطبيب للشاعر.
قناع المحارب
أمجد ناصر
راية بيضاء
في آخر زيارة إلي طبيبي في مستشفي تشرينغ كروس في لندن. كانت صور الرنين المغناطيسي عنده. من علامات وجهه شعرت بنذير سوء. قال من دون تأخير: الصور الأخيرة لدماغك أظهرت للأسف تقدماً للورم وليس حداً له أو احتواء، كما كنا نأمل من العلاج المزدوج الكيمو والإشعاعي.
كان مساعده دكتور سليم ينظر إلي وجهي وفي عيني مباشرة، ربما ليعرف رد فعلي.
قلت: ماذا يعني ذلك؟
قال: يعني أن العلاج فشل في وجه الورم.
قلت: والآن ماذا سنفعل؟
رد: بالنسبة للعلاج، لا شيء. لقد جربنا ما هو متوافر لدينا.
وفي ما يخصني ماذا عليّ أن أفعل؟
قال: أن ترتب أوضاعك. وتكتب وصيتك!
قلت: هذا يعني نهاية المطاف بالنسبة لي.
ردّ: للأسف.. سنحاول أن تكون أيامك الأخيرة أقلّ ألماً. ولكننا لا نستطيع أن نفعل أكثر.
قبل أن أغادره قال: هذه آخر مرة تأتي فيها إلي عيادتي. سنحولك إلي الهوسبيس. وكانت آخر مرة سمعت فيها هذه الكلمة، عندما دخلت صديقة عراقية أصيبت بالسرطان في المرحلة النهائية. يبدو أن الهوسبيس مرفق للمحتضرين أو من هم علي وشك ذلك.
قلت له: لديّ أكثر من كتاب أعمل عليه، وأريد أن أعرف الوقت.
حدد وقتاً قصيراً، لكنه أضاف هذا ليس حساباً رياضياً أو رياضيات. فلا تتوقّف عنده.
الطريق إلي الكتلة
عدو شخصي
ليس لي أعداء شخصيون
هناك نجم لا يزفُّ لي خبراً جيداً،
وليلٌ مسكون بنوايا لا أعرفها.
أمرُّ بشارعٍ مريبٍ وأري عيوناً تلمع
وأيدياً تتحسس معدناً بارداً،
لكن هؤلاء ليسوا أعداء شخصيين،
فكيف لجبلٍ
أو دربٍ مهجورٍ أن يناصباني العداء،
أو يتسللا إلي بيت العائلة؟
أيها الشيء القاتم الذي أخذ أمي وحبيبتي الأولي
والأنفاس التي رفعت عليها مداميك حياتي إلي الجانب الآخر من التراب
ما أنت؟
ما مشكلتك معي
إن كنت رجلاً اخرج إليَّ من مكمنك
تعال نلتقي في أي جبَّانة تريد
وجهاً لوجهٍ
لسوف ألقنك مواثيق الرجال
كما لقنتني إياها الصحراء والغدران الجافَّة
أرني وجهك قبل أن تنتضي قناعك الذي تسمّيه عقاباً إلهياً
فأنا لي آلهتي أيضاً لكني لن أدعوها لنزال الوجوه السافرة
إن كان لك دين عندي
أو مشكلة شخصية كأن أكون خطفت هيلين الشقراء من حضنك
ومرغت شرفك في الوحل
مع أني لا أذكر شيئاً كهذا
لا تسترد دينك من الذين يمرون في هذه الدنيا
كما تمر أنفاس الرعاة في قصب الناي..
روح حرَّة
(إلي هند)
أيَتها الروح الحُرَّة.
لم تنطفئ شعلتك رغم الريح التي تهب في غير موعدها،
رغم الأيام الجافة
الأيام الماطرة
النجوم التي صارت صخوراً بعدما هجرتها الأغاني
وهذه الليالي المرسومة بالفحم
كيف كانت ستدلني علي الطريق.
زرعنا زيتونةً فأثمرت.
شتلة عنب فغطّت سياج الجارة التي لم تعرف
كيف نصنع من أوراقها الخضر طعاماً وخارطة
يدُكِ تقلب التراب فتعثر علي دودة
تعيدها إلي مكانها،
شذرة ذهب فتطمرها
لعلها علامة الغريب الباحث عن كنز أجداده الذين مروا من هنا.
كنزك لا يلمع. بل يطلع من غصن يابس، وجذرٍ ذاوٍ.
ها نحن نرفع يداً فيرتد أربعون ظلاً علي حائط الحمائم المطوَّقة
لم يعد، هنا، للكلام معني إلا في رواسبه الغائرة
فقد أودع الأيدي سعفٌ كثير لأيام الأسبوع.
أيتها الروح الحرة
لا الأحمال هدَّتك
ولا طول الطريق.
الرحلة التي بدأت برقصة تحت نجم
لم تبلغ تلال الوعد السبعة بعد.
لم تكن لهذه الكلمات مناسبة. هكذا خطر في بالي حينها. إنها ليست أكثر من تحية لرفيقة رحلة شاقة. ولكن كلا، ففي ثناياها، في ما لم أره من وجوهها المحجوبة عني، حتئذ، تمدد شريط من الورم بين جسدين. عندما، لا تجد أي خيار، وربما بمحض اختيار حر، «تتبرع» ببضعة من لحمك (كلية) لتمشي خطوات أكثر مع رفيقة/ رفيق حياتك، قد يكون هذا أقصي ما بوسعك عمله، ثم تظن أنك قدمت، أخيراً، «هديتك» أو ربما «أضحيتك». تُقبل «الأضحية» وتقوم بعملها علي أفضل وجه.. إلي حين، لكنه حينٌ طويل بعض الشيء (ست سنين)، إلي أن «تتسرطن»، وتفشل.. ثم يصار إلي استئصالها ورميها في مختبر ما لمزيد من «الدراسة» والتحليل.
كان صيف لندن هذا العام «هندياً» كما يقولون، هنا، عن الطقس الحار. يبدو أنني غفوت علي أريكة في صالون منزلي. فكَّرت أنني أحلم: كان حولي ابني وابنتي وأخي، وكل منهم يقيم في بلد، تأكدت أنهم موجودون فعلاً، فهم يتحدثون، وهذه أصواتهم التي أعرفها. وهذه يد ابنتي تمسح العرق الذي بلل رأسي وعنقي بمنشفة. مع ذلك أظنني سألت باستفهام، أو استنكار، (لست متأكداً): لِمَ أنتم هنا؟ لأنك لست علي ما يرام. كان رأسي خالياً من أي صورة. ذهني مشوَّش، ولكن بلا تفاصيل. أخبروني بما جري:
كنت أنزل من سيارة أجرة أمام بيتي، ثم سقطت علي الأرض. لكن لِمَ كنت أستقل سيارة أجرة وأنا لدي سيارة؟ يبدو أنني كنت عائداً من المركز الصحي المحلي بسبب صداع «زائد» عن الحد أصابني في الأيام الماضية. صداع غير ذلك الذي تعايشت معه طويلاً. حتي مع هذا التسلسل للأحداث، المسرود عليّ، ظلت هناك ثغرة لم تردم. في يدي سوار بلاستيكي عليه اسمي ورقمي الطبي، وتاريخ يشير إلي يومين سابقين. ما هذا؟ سوار كهذا لا يوضع في اليد إلا إذا نمت في مستشفي. هناك خور في جسدي. داخلي فارغ. إحساس بتخدير قوي. تذكرت ليلة طويلة في جناح الطوارئ. كنت هناك. كان لديّ ألم لا يطاق في خاصرتي اليمني. صداع شديد. سمعت كلمة مورفين. كأني قلت لهم: كلا. ولكنهم لم يسمعوني. أو لم يتوقفوا عند اعتراضي. ألم كهذا لا يعالج إلا بالمورفين. هناك تقرير صغير يقول: احتمال حصي في الكلية! لم تكن هناك صور شعاعية للجسم، الرأس خصوصاً.
جاءت سيارة الإسعاف التي أقلتني إلي مستشفي تشيرنغ كروس، ذائعة الصيت، وليس مستشفي منطقتنا، في غرب لندن. في الأثناء قام الطاقم الطبي بفحصي. ركزوا علي يديّ وقدميّ. عيني. طلبوا مني رفع يدي إلي الأعلي. خصوصاً الجانب الأيسر. هؤلاء يحملون أجهزة متكاملة. يصلون إلي نتائج سريعة ويقررون طبيعة المستشفي الذي يتوجهون إليه. كنت وحدي. هذا ما أظنه. لا أحد من عائلتي معي. أين هم؟ زوجتي في المستشفي. مستشفي آخر. سرير آخر. بجانبه كرسي لزائر. الفشل الكلوي يعود بعد سنين من العمل «الجيد» لكلية «سليمة». لكن هذه الكلية السلمية يتسلل إليها الورم السرطاني. جاء هذا من جسد لم يكن يعاني أوراماً، ولا حتي في الخيال!!
فهمت من الطاقم الطبي أن الأمر قد يتعلق بجلطة دماغية. السرير يدفع في الباب الرئيسي لمستشفي تشيرنغ كروس. إلي الطابق الحادي عشر (أم لعله العاشر؟). تظهر لافتات تشير إلي الجراحات الدماغية. بلا إبطاء إلي تصوير المقطعي. لا تتأخر الصور في الظهور. أنا في السرير. يسألني الطبيب الذي يقدم لي نفسه: دكتور خان. أسئلة ستكرر لاحقاً، بلا توقف تقريباً. يعود الجسد إلي اسم وتاريخ ميلاد ينبغي أن ينضبطا في ملف طبي. جاء طبيب شاب يدعي علي: مصري. يتحدثان. الصور تظهر شيئاً آخر. كلا، لم تكن جلطة دماغية. شعرت أن دكتور خان يتهيأ لرمي قنبلة. سألني إن كنت أفضل وجود فرد من العائلة. قلت له مازحاً، كأنك تمهد الأرض لرمي قنبلة؟ ضحك. قلت له: ارمها:
الصور تظهر، للأسف، ورماً في الدماغ.
ماذا؟
ورم في المنطقة اليمني من الدماغ، ها هي الصورة. أري الصورة. وردة متوحشة. شكل هندسي نابض. يسميه دكتور خان: كتلة MASS.
صمتُّ. لم أكن أتوقع خبراً كهذا. ربما أي شيء آخر.
ينتقل، فوراً، إلي ما هو عملي: سنبدأ علاجاً بالسترويد لتخفيف ضغط الكتلة علي الجوانب الأخري من الدماغ، ووقف الصداع.
من بين كل كتل الدنيا، خطرت في بالي لحظتها القصيدة التي سميتها: قصيدة الكتلة. بلوك. أردت أن أفهم من الطبيب المصري (المساعد) المزيد بعد انصراف خان. لم أجده. كنت رأيته يدخل مكتباً قريباً للأطباء. نزلت من السرير. مشيت في ممر كان يعج بالممرضات والممرضين وعاملي النظافة وصار الآن شبه فارغ .
رحت أغني أغنية مصرية: أنت فين يا علي أمك بتدور عليك!
الليل، لا نوم
بقيت وحدي. عدت من رحلة الممر العبثية إلي السرير. الليل لا يزال «شاباً» علي حد التعبير الإنكليزي.
شظايا القنبلة تتحرك.
كتلة..
ورم..
لو لم أقع علي الأرض ما عرفت بالتشكّل السريّ لهذه الكتلة، هذا الورم..
لقد كنت قبل ساعات فقط من «الأصحاء»، وها أنا في قسم خاص بالأورام الدماغية في مستشفي كنت أرافق إليه زوجتي، المريضة بالفشل الكلوي، من أجل «غسل» الكلي ثلاث مرات في الأسبوع، ولم أتخيل نفسي مريضاً في أحد أقسامه، بل لعله أكثرها إثارة للخواطر السيئة.
لم يطلع النهار بسهولة. يبدو أن الليل كان في أوله. منتصفه. لا أدري. أنا الآن في وضع غير الذي كنت فيه (ولم أكن أعرفه) قبل ساعات. قبل يوم. قبل أيام. شعرت برغبة شديدة بالتدخين. معي علبة سجائر. رغم أني توقفت عن التدخين ست سنين. طلبت من الممرضة المسؤولة عن الجناح أن تسمح لي بالنزول إلي الطابق الأرضي لتدخين سيجارة. رفضت. ألححت. فوافقت. أرسلت معي ممرضة وكرسياً متحركاً. كان هناك مرضي غيري يدخنون. لا تزال هناك حركة في شارع فولهم بلاس الذي تقع علي جانبه المستشفي، أقف بالقرب من كتلة هنري مور. من تمثالي المتكئين إلي بعضهما بعضاً في مدخل المستشفي.
كتلة هنري مور
هذا ليس النصب الأصلي، بل هو نموذج مصغر من العمل الضخم الذي نفذه هنري مور بطلب من مركز لنكولن للفنون في منهاتن/ نيويورك. هناك يبسط عمل مور سيطرته علي الفضاء/ طالعاً من بركة ماء. لا يختلف النصب الصغير في مدخل مستشفي تشارينغ كروس من حيث علاقته بالماء، عن الموجود في مدخل مركز لنكولن للفنون في منهاتن، الفارق يكمن طبعاً بالحجم. هنا في مدخل المستشفي يطلع النصب من بركة ماء صغيرة مخضوضرة تنعكس عليها صورة الكتلتين المتكئتين علي الماء. ذكَّرني ذلك بآية قرآنية تقول: وكان عرشه علي الماء. المقصود هنا عرش الله. قطعاً لم يكن ذلك في ذهن هنري مور وهو يصنع نصبه البرونزي. بيد أن هذا يمكن أن يدور في خلد واحد له مرجعيات ثقافية مثل مرجعياتي. ثم إن صلة النصب والتماثيل، عموماً، بالمقدس تبرر الخاطر الذي راودني. مؤكد أن النصب الحديثة انقطعت عن منشأها الأول، عن وظيفتها الأولي، كرموز، أو تجسيد للتصورات البشرية في خصوص الآلهة، لكن من يستطيع منع المقدس من الحضور في النصب والتماثيل؟ لقد رأي المثالون الحديثون النصب والتماثيل الطالعة من فكرة المقدس ودرسوها في الأكاديميات التي تخرجوا فيها. وفي هذا الطور من عمله الفني تخلي هنري مور عن النماذج والموديلات التي كانت تمهد للعمل الفني وصار يعمل مباشرة ، بلا موديل مسبق، علي المادة نفسها، سواء كانت برونزاً أم حجراً، التي يجب، حسب قوله، احترامها فهي لها «حياتها المكثفة الخاصة بها»، والتي يتعين عليه، كفنان، إفساح المجال لها بالظهور.
وجدت في «كتلة» هنري مور حليفاً لي في ليل الأرق الذي كنت أتسلل فيه من جناح المصابين بالأورام مثلي، إلي البركة التي يتكئ إليها نصفا تمثال هنري مور.. هناك من «تسللوا»، مثلي أيضاً، من أقسام المستشفي المختلفة. بعضهم للتدخين، كما صرت أفعل، بلا هوادة، آخرون لتناول طعام غير ما يقرره علينا مطبخ المستشفي..
دخنت أربع سجائر متعاقبة. ظمأ؟ انتقام؟.. هذا الرجل الذي يشعل سيجارة من عقب أخري ليس أنا. هذا هو الرجل المريض. إني أري انعكاس هيكله البشري في بركة الماء المخضرة التي تنتصب فيها كتلة هنري مور. يرتدي مريولاً تقطعه مربعات زرقاء وخضراء صغيرة. هذا زي المستشفي. في رسغه الأيمن سوار بلاستيكي عليه اسمه (أحد أسمائه!) ورقمه الصحي وتاريخ دخوله إلي المستشفي، يدخّن. ولكنه لا يفكّر. لا فكرة تخطر في باله سوي أن هذا الرجل الذي يتراقص ظله في البركة مريض، وأنه ليس هو بالضبط، وأنه لا يعرف ما الذي جري له، بالضبط، وأنه ليس مسؤولًا عن ذلك. ولكن، مع هذا كله، عليه أن يعتاد وجوده. الأفضل، طبعاً، أن يفهمه ويتسامح معه. قد لا يكون الذنب ذنبه.
طلبتُ من الممرضة أن تعيدني إلي السرير. أريد أن أنام. أعود إلي الجناح. صوت غطيط النوم يُسمع عالياً. ثمة من ينام هنا. ثمة من حطّ عليه ملاك النوم. لكن ليس أنا. الوقت لا يمر. الليل صامد. تخطر في بالي أفكار غريبة بل أخلاط أفكار وصور وكلام قديم. أفكر في نصي «حديث عادي عن السرطان». أتذكر مسرحه. وسببه. شخص (صديق) أصيب بالسرطان. اثنان آخران يعرفانه. يتحدثان عن مرضه. الحوار حول سرطان الصديق يبلور نبوءة عشوائية:
-الشخص الأول يقول إن أخاه توفي بالسرطان في الأربعين من عمره، فيقول الثاني إنه قرأ لا يدري أين أن المرء يموت كما يموت أهله، ثم يقول إن أمه صارعت السرطان مرتين آخرها كانت في أوائل الستينات من عمرها.
النتيجة التي يخلص إليها الشخص الثاني: أنت تجاوزت عمر أخيك، فيما لما تزل أمامي سنون أمي المكتنفة بالاحتمالات!
أفكر: لماذا أعدت نبشه؟ لماذا نشرته قبل فترة قصيرة جداً من إصابة زوجتي بسرطان في الكلية، وقبل أن تتكون فكرة، أو أضغاث فكرة، عن ورمي الدماغي في ذهن عابر، لا أعرفه ولا يعرفني، في القطب الشمالي؟
أغافل الممرضة المسؤولة. أنزل من السرير. هناك باب أوتوماتيكي يفتح علي المصاعد. دقيقة وأكون أمام المصعد. أهبط إلي الطابق الأرضي. لا أحد. ولا حتي عمال النظافة. الفجر بعيد. وهذا الليل لا ينتهي. ليلة الكتلة المتمددة في الدماغ. أمشي في الطابق الأرضي الفارغ من الناس. هذا عادة خلية نحل بشرية في الصباح وصولاً إلي الظهر. الكراسي مرفوعة علي الطاولات. أخرج إلي ليل هنري مور. كتلته البرونزية. لا أحد. الماء ساكن. سيارات وشاحنات تمر بتقطع في الشارع. لطالما أثار شغفي أولئك الذين ينقلون، آخر الليل، مع الفجر، البضائع والمواد الاستهلاكية في شاحنات أو فانات صغيرة لتكون جاهزة للعرض والبيع ما إن تفتح الحوانيت أبوابها. راقبت أكثر من فجر في الطابق السفلي في المستشفي عندما كان مزوّدو المقاهي والدكاكين بالحليب والعصائر والخبز والمعجنات والصحف والمجلات يضعون هذه الطلبيات أمام أبواب المحال المغلقة حتي الآن. لن يطول الوقت حتي يجيء أوائل العاملين في هذه المحال ليضعوا طلبياتهم في البرادات وعلي الأرفف.
كوميديا الاسم
في هذا المستشفي البابلي ينطقون اسمي حسب ألسنتهم، وربما حسب أسنانهم. مرة ينادونني يايا، مرة يهياي، وثالثة يهي. في الخارج لي أسماء أخري تنتظرني لتواصل عملها الآلي علي ما يبدو. من أنا؟ لا أعرف. سوي هذا الجسد المتعثر بأسمائه.
يدبُّ الاسم وحده علي الطريق ويكرج.
الذين سموني ماتوا. تركوا لي هذا الاسم يتضخم في الدوائر والمعاملات، ويتكفل بمصيره.
ماذا في الاسم؟ سؤال قديم.
ما الاسم؟
لثغ مرح،
إيقاع يتجدد علي كل شفة؟
أم رمل، ملح ثقيل يطهرون به كل ما يفسده اللسان؟
لا اسم فارغاً. ارمه سيرنُّ كحبة جوز صلبة.
لا اسم ملآن.
اكسر حبة الجوز هذه: فارغة.
ارم الاسم في أي أرض يصبح شجرة.
في أي رحم يصبح سلالة. لكنه يظل وحيداً مع ذلك.
من يحمل عبء الآخر: الاسم أم الجسد؟ هذه المرة عرفت أن الاسم سيد التخلي. ماذا يبقي من الاسم؟ جرح الولادة، ندبة الموت، لا شيء. تحت الاسم اسم. اكشطه ستري الترسبات الألفية للجفاف الذي استمر طويلاً هنا. أسئلتي كانت أسهل عندما كان اسمي يمشي جانبي كرفيق غير مرغوب فيه. من منا المصاب بالورم، ويرزح تحت الكتلة؟ جسدي أم اسمي؟
يد/ قدم
أرقب أطرافي. يدي تتضخم. قدمي تصبح جذع شجرة. لم تكن هذه يدي ولا هذه قدمي. آخرون جاؤوا بسلالم قصيرة وسكنوني. يجتاحني الخارق. جسدي يدعوه في غفلة مني. أفكر أني إن نفضت رأسي ستتفتت الكتلة وتتطاير شظايا. ألا يعتقد أولادي أني سوبر هيرو؟ تبقي مع ذلك هذه يدي. هذه الأخاديد العميقة في راحتي، خارطة ترحالي، خط العمر، ورقة عنب؟ أعجبني التعبير. فعلاً، كأنّ يدي ورقة عنب تخترقها خطوط وعلي وجهها شبكة من الشرايين والشعيرات والأنهار الصغيرة الجافة. كان لأمي يد مثل يدي. كانت تموت تحت جناح السرطان. وكنت أحاول فهم الكلمة التي بادلَتَها بنفس أخير: نور. ربما المسمي نفسه. فقد هجرتها الأسماء. كنت أقول لها بوقفتي الطائعة أمام نظرة العين اليمني، إنها لن تترك قمح يديها يتحلل.
رأيت أخواتي، في المنام، كن علي برندة بيتنا في المفرق. كان الوقت مساء. كان هناك إبريق شاي وعدد كبير من الكاسات، لم يكن هناك ضيوف، أو أحد من إخواني. بجانب إبريق الشاي صحن صغير فيه أعواد نعنع. كن يعرفن «وضعي الصحي» بتفاصيله رغم أني لم أخبرهن. قلن لي: رأيناك تقع هنا بطولك كله في مدخل بيتنا في المفرق وليس في لندن. هل تذكر عندما دخلت عتبة البيت ووقعت علي يديك ووجهك؟ قلت: أذكر، لكن ذلك حدث قبل أشهر، وكانت هناك درجة لم أنتبه إليها.
تحت رحمة الكتلة
ليس لجسدي اسم في هذه الممرات المقفرة. له حيز يشار إليه باليد.
رأيت علي في اليوم التالي. فكرت في أغنية الليلة التي تركت كلها لي بعدما انقض الجميع. ضحك عندما أخبرته أنني غنيتها. قال ضاحكاً: لكنك لست أمي!
-المهم؟
المهم هو إزالة الورم. سيحدد مستر بيترسن وقت العملية. المزيد من الصور. ربما هذه المرة للجسد كله. الصباح يدب بعجلاته وخفق مراييل ممرضيه ومرضاه. المرضي المحيطون أخذوا أدويتهم بحجوزات كرتونية بيضاء. هناك أداء أوتوماتيكي. هناك لغة مشتركة وخلفيات نسجت بينهم وطاقم القسم.
واضح أنهم سبقوني إلي هنا. وضعوا روتيناً. أنا الآن أحدهم. شقيقهم في المرض، وربما في المحن التي لا أعرف عنها شيئاً «لم أكن مريضاً»، ولم تكن لدي محنة سوي ورطة الوجود الإنساني نفسه. سوي أنك لغز، سوي أنك لا تعرف هذا اللغز الذي سيفسر لك عن وجه مقنع أيضاً.
أنا الآن تحت رحمة الكتلة. هل استدعتها كلماتي؟ يا للسخف كيف أفكر بذلك؟ هل جاء وقت قصيدة حديث عادي عن السرطان. لتثبت لي مرة واحدة في حياتي أني كنت مصيباً، أن الشعراء قادرون علي التنبؤ بمصائرهم؟ من يصدق ذلك؟ أنا أول المكذبين.
لاحظوا معي: هناك شخص صامد في هذا السرد الطالع من مناسبة رحيل صديق مشترك. الراحل. السارد. المسرود عليه. المسرود عليه كان قد نجا، بحسب السرد من آفة السرطان التي أصابت أخاه. لقد تجاوزه في العمر. السرد يقول إن الناس يموتون كما يموت أهلهم. كانت أمامي بضع سنين (...) لأبلغ العمر الذي رحلت فيه. أنا الآن في هذه السنين بالضبط.
أفكر أن مرضي يشبه حياتي. تطرف. لا توسط. مراودة الأقصي.
أنتظر العملية الجراحية. الورم في دماغي أنا وليس في أدمغة الأطباء. ليسوا مستعجلين. أنا المتعجل. لا علي ذهاب ولا علي بقاء. ولكن علي إزالته فقط، لست مرتاحاً لوجود هذه الكتلة القاتمة في دماغي.
كل شيء حيٌ هنا في حديقة بيتي الصغيرة. هذا الطير الثقيل الذي يمر بجانبي وفي منقاره عود يابس. واضح طبعاً أنه يبني عشاً في الأكمة الخضراء التي التفت علي شجرة السرو.
رأسي مسنود إلي نبتة مليسة تفوح منها رائحة ليمونية تنفذ إلي القلب.
منعني الطبيب من التدخين بتاتاً. قلت له بعد كل هذا الورم في دماغي؟ قال: ليس هذا قصدي، بل للتنفس بعد العملية ولتسريع شفاء الجرح بعدها.
أجرت العملية جراحة شابة تدعي صوفي
لا أعرف أين دخلت وكيف خرجت
ولكني أتذكر قبل دخولي إلي غرفة العلمليات أن بني أنس قرأ عليّ قصيدة يحبها ويعرف أني أحبها أيضاً.
أي إيثاكا هذه؟
كم مرة كتبت عن هذه القصيدة من قبل؟ كم مرة قرأتها؟ العديد من المرات.
ولكنها لم تظهر علي هذا النحو مرة من قبل.
أي إيثاكا من قبل كانت هدفاً لرحلة، أو عودة من نوع ما.
أي رحلة هذه التي أسمع فيها صوت ابني أنس يقرؤها عليّ بترجمتها الإنكليزية البلورية وأنا أهم بالدخول إلي غرفة العمليات؟
وأنت تنطلق إلي إيثاكا
فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة
حافلة بالمغامرة، حافلة بالاكتشاف
لا تخف من الليستريغونيات والسيكلوبات
وبوسيدون الغاضب
لن تجد شيئاً من ذلك في طريقك
طالما احتفظت بأفكارك سامقة
طالما مست روحك وجسدك الإثارة الرائعة
لن تقابل الليستريغونيات والسيكلوبات
ولا بوسيدون الغاضب
ما لم تحملهم داخل روحك
ما لم تضعهم روحك أمامك
فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة
ولعل صباحات الصيف تكون كثيرة
ويا لها من متعة ، يا لها من بهجة
لتدخل موانئ تراها للمرة الأولي
ولعلك تتوقف عند محطات التجارة الفينيقية
لتشتري أشياء جميلة
عرق اللؤلؤ والمرجان، العنبر والأبنوس
فوصولك إليها، هو غايتك الأخيرة
لكن لا تتعجل الرحلة أبداً
فالأفضل أن تستمر لأعوام طويلة
حتي لو أدركتك الشيخوخة، وأنت تصل إلي الجزيرة
غنياً بكل ما جنيته في الطريق
دون انتظار أن تمنحك إيثاكا الغني
لقد منحتك إيثاكا الرحلة الرائعة
فبدونها ما كان لك أن تبدأ الطريق
لكن ليس لديها ما تمنحه لك سوي ذلك
فإذا ما وجدتها فقيرة، فإن إيثاكا لم تخدعك
فبالحكمة العظيمة التي جنيتها، بهذه الخبرة الكبيرة
لا بد أنك بالتأكيد قد أدركت، بذلك ما الذي تعنيه إيثاكا.
(ترجمة: رفعت سلام)
قرأت هذا من قبل. أعرفه، وكنت أظن أنني أعرف إيثاكا التي يعنيها كفافي وأعرف أن الطريق إليها لم يكن سهلاً ولا أقل أهمية.
أو علي الأقل لم تكن هدفاً أقل من الوصول إلي «البلاد»، أو «الوطن»، أو أيُ ما تعنيه إيثاكا لكل واحد منا.
ولكن عن أي إيثاكا يمكن الحديث؟ بل أي إيثاكا تبدو لي وأنا أسمع صوت ابني أنس يقرأ قصيدة الشاعر اليوناني العجوز؟
الرحلة؟
إلي ماذا؟
العودة؟ إلي أين؟
أفكر في هذا وأنا جالس بالقرب من نبتة المليسة. ها هي حية، نضرة، ذات رائحة لا تنضب وها هو صباح جديد يغمر حديقة بيتي الصغيرة. لا صورة للحياة أقوي من ذلك: جوقة من أصوات طيور وعصافير تتداخل ... وأسمعها تنتقل من شجرة إلي أخري؟
«تجهيز: نفسي»
أول صورتين،
قبل العلاج الإشعاعي:
رأيت وجهي
لقد صبوا قناعاً «بلاستيكياً» علي رأسي
صبوه بكل معني الكلمة. أدخلوا رأسي في آلة
وراحت تنسج خيوطها البلاستيكية
بإحكام حول رأسي...
وما أن انتهوا رأيت نفسي في مرآة الحمام
ففزعت. من هو هذا الرجل
الفضائي؟ أو هذا الحرثون الكبير. أو الحرباء المرقطة
بالأخضر؟
بهذا القناع المحكم إلي درجة أنه يترك أثره علي وجهي، له شكل فتحات وشبابيك صغيرة وظيفته تثبيت رأسي عندما تسلط الأشعة.. لا حركة لا نأمة. هناك شخصان علي يميني ويساري يضبطان الإحداثيات وينقلانها مباشرة إلي غرفة التحكم التي أعرف أين هي.
أعبر ممراً في الخارج فيه مراية وأري هذا الرجل الأخضر يمشي إلي جانبي
أهذا رجل أم تجهيز فني؟
العصفور المغرد
أهلاً أيها العصفور المغرد. ها أنت تتفقد موقعي اليوم، بجانب نبتة المليسة، أو التي يسميها الإنكليز فيزبانا.
أسمع صوتك في أغصان شجرة السرو، أعرف هذا الصوت جيداً، ولطالما سمعته في هذا الركن من حديقة بيتي الصغيرة.
ولطالما رأيتك.. بالقرب مني. لا تخف. ثم تطير إلي غصنك. لكن اعذرني نسيت اسمك، لا أظن أن هذا الأمر يؤثر علي علاقتنا الطويلة، فأنت أيضاً لا تعرف اسمي. تري جسدي المكوم علي كرسي.. شعر رأسي الشائب. تعرف أنني أنا، تسمعني موسيقاك من دون أن أطلبها. وبلا قيد أو شرط.
المهم الآن هو وجودنا. أنا أؤكدك وأنت تؤكدني. هذه علامة حياة لكلينا.
جسدي
جسدي يتداعي كمركب للاجئين في بحر هائج.
الألواح تسقط..
المياه تصعد إلي السطح.
المحرك يتلقي ضربة من قرش أو حوت.
الحصار محكم.
وأنا لا أستطيع الفرار.
ليتني أستطيع أن أترك جسدي هنا.
وأنجو ببضع حبات جوز وضعتها في آخر لحظة في جيبي.
جسدي يخذلني.
وهذا ليس جديداً.
كان يفعل ذلك مراوغة.
الآن صريح ومباشر في مسعاه.
كلما نهضت وقعت علي الأرض.
لا أستطيع أن أبقي واقفاً علي قدمي ما تبقي لي من أيام.
حتي الشجرة لا تفعل.
ألم نر أشجاراً ممددة إلي جانبها لكي ترتاح من عبء الوقوف؟
نص طويل نشره أمجد ناصر عن محنة المرض
علي صفحته الخاصة بفيسبوك
متمرد يشاكس بطائرة من ورق
إلياس فركوح
غيَّر اسمه لكن جوهره ظلَّ ثابتاً
واهِمٌ كُلُّ مَن يقول بأننا لم نتغيَّر، ففي ذلك ادّعاءٌ متفاصِحٌ يفضحُ جَهْلاً بقوة الزمن كعاملِ قَلْبٍ وإعادة تشكيل. غير أنَّ مَن يَجرؤ علي التطرف، بالمقابل، بالإشارة إلي أننا «شخصيات جديدة»، نتخلّق في كل حينٍ نحياهُ، كأننا كائنات أخري؛ إنما يكون قد ذهبَ بعيداً في شططه، ناسياً أنَّ ثمة «جوهر» في كل كائنٍ حيّ ينغلُ فيه (في كُلِّ كُلِّهِ) لا ينقلبُ علي نفسه بقدر ما يتحوَّلُ، أبعاداً وأعماقاً وتجليات صُوَر، انسجاماً مع التحولات الجاريّة في الواقع، وتكيّفاً في سبيل «النجاة» وسط وقائع الخراب الضارب جهات يومنا الأربع.
ما الذي تغيَّرَ في أمجد ناصر، صديقي، الذي عرفته قبل ثلاثة وثلاثين سنة؟ في عام 1977 تحديداً، أي في النصف الثاني من القرن الماضي (لنا أن نتخيّل كم كانت من عواصف، وتيّارات، وأنهار، ورياح سموم مَرَّت)، سوي أنه كان يحيي النميري، وقتذاك، فأصبحَ أمجد ناصر بعدها بسنتين، وحتّي الآن؟ هل تتغيّر الشخصيات عندما تتغيَّر أسماؤها؟ أو فلأضعْ السؤال علي نحوٍ آخر: هل تتغيّر الشخصيات بعد أن تنتحلَ لأنفسها أسماءً أخري، بصرف النَظَر عمّا دفعها إلي فعل ذلك؟ من جهتي، لا أعتقدُ أنَّ تغيّراً حقيقياً، أي جوهريّاً، يحدث وأن يصيبها في داخلها ومن داخلها. أما ماذا وكيف يري الآخرون، الغَيْر، فليس هذا مجال تفكُّري وفضاء سؤالي ها هنا. فأمجد ليس أوّل مَن غَيَّرَ اسمه ولن يكون الأخير، بالطبع. فبالتوافق الزمني حدثَ وأن أكْسَبَ ثالثنُا، داود الزاوي، نفسَهُ اسماً آخر شاعَ وذاعَ في الأوساط الثقافية العربيّة والملتقيات الدوليّة، تماماً مثلما حصل مع أمجد، فباتَ يُعْرَف ب: زكريا محمد. أما أنا؛ فربما هي المصادفة، أو التقدُّم عليهما في العُمْر، أو «ضرورة المرحلة»، ما جعلني أعودُ إلي اسمي المُسَجَّل في شهادة الميلاد ليكونَ دالاً علي صاحب القصص المنشورة منذ البداية – بعد أن كنتُ، في بيروت، أنشرُ كتابات أخري باسمٍ آخر! وربما، أيضاً، هو الفارقُ بين شاعرين، وقاصّ / روائيّ.
أيُّ مفارقة هذه!
أعودُ إلي عَمّان من بيروت، فأخلعَ (خالد ...) عن كتابتي، لأنشرها باسمي العَلَني.
يغادران عَمّان إلي بيروت، فيُخليان قصائدهما من (يحيي، وداود)، ويَخلعان عليها، منذ نَشْر كتابيهما الأولين، اسمين جديدين.
أهي مفارقةٌ خالصةٌ حقاً، جاءت هكذا بلا وعيٍ، أو بمحض الصُدفة بلا أي تدبيرٍ مُفَكَّر به، أم تكتنفها جُملةُ تضمينات تستحثّ علي التأمُل، وتستدعي النبشَ في داخل كُلِّ واحدٍ مِنّا؟ وماذا عن غواية الاسم؟ فنحنُ، لحظة أن نقررَ استبدال أسمائنا أو العودة إليها، إنما نمارسُ ما يشبهُ طقوس «تجديد وجودنا»، بدرجةٍ ما وعلي نحوٍ ما ولغايةٍ ما، دون أن نعي أنَّ «إرادتنا» في فعل ذلك تنحصرُ في مساحة «الرغبة»، أو «الصورة المُرْتجاة»، نعممها علي الخارج بنجاحٍ كبيرأحياناً، غير أنَّ داخلنا ينغلقُ دونها!
إذَن: ليست هذه ب«معموديّة» تُكَّرِسُ للواحد مِنّا «ولادةً جديدةً» بالرمز، وبحسب المدلول المسيحي.
وهكذا نعودُ إلي نقطة «الجوهر» لنستأنفَ ما هو ليس بقابلٍ للانتحال، ونبني عليه.
يتلّخص جوهرُ أمجد ناصر، رغم العقود الثلاثة والثلاث سنوات، وكما عاينتهُ مؤخراً، في مُفردتيّ: التمرّد والمشاكسة. وهو، ضمن هذا التكثيف، لم يبتعد كثيراً عن ذاك ال«يحيي» القديم، الأوّل، الذي عرفته داخلاً عمّان لائذاً بأحلامه فيها، فارّاً من المفرق فالزرقاء، عَلَّه يجد في هذه المدينة ما يغذّي أجنحةَ طموحات وتحليق هي من السِعَةِ ومخزون الوعدٍ ما تستعصي عليه إمكانيات تلك التجمعات المرتَجَلَة، الأقرب إلي شَوك البوادي الناشفة وعشوائيّة نموها، عَلَّهُ يفلتُ من عبثيّة الذبول، ذبوله وذبول الأحلام والطموحات في داخله وانتثارها جميعها.
أكانَ يتنبأ بأنها، عمّان، ليست بالحاضنة الحقيقية القادرة حقاً علي رعاية أحلامه، والحدب علي أجنحته الفتيّة ما تزال؟ أكانَ يري بأنَّ هذه ليست سوي محطة ستقوده إلي محطات ومحطات، وكُلّ واحدة منها ستشكِّلُ لتجربته الفنيّة عَلامةً أو وشماً، بالانجبال بتجربته الحياتيّة اليوميّة علي أرصفة المدن الغريبة، وحُجراتها، ونسائها، واكتظاظ مقاهيها ومكاتب جرائدها بفصائل الشعراء والمثقفين، الذائعين منهم والواعدين - الموعودين؟ فإذا كانت بيروت هي التي أطلقت ديوانه الأوّل حاملاً اسمه الجديد، «مديح لمقهي آخر» (وهذا امتيازٌ بعُرف ذاك الزمن)، فإنَّ عمّان وحيثيات «البلَد» كانت تضجُّ في أوراقه وتقول، للقارئ الذي لا يعرف، أنَّ ثمة مقاهٍ دائماً في جميع المدن، ودائماً هي موجودة ليعبرها الشعراء العابرون، وليستذكّروا فوق كراسيها، لَمّا يؤوبون زُوّاراً، طلائعَ أحلامهم التي باتت تُسمّي، فيما بعد، «مشاريع».
أجَل. كان أمجد ناصر، ولعلّها البذرة في خاصيّة التمرد والمشاكسة في شخصيته، يُضمر لنفسه «مشروعاً» سوف يحققه ذات يوم. ولكن ما هي حدود مشروعه يومذّاك؟
علي الوجه الآخر لصورة له بالألوان، يُحدّقُ فيها بالبعيد، بشَعرٍ طويل ولِحية وشارب علي طراز غيفارا، وسيجارة مشتعلة بين أصابع تستندُ إلي الصدغ، بعثَ بها من بيروت، كتب: «الصديق الحبيب إلياس، من أجل رفاقيّة صلبة تستمر طويلاً وطويلاً جداً نذرنا أنفسنا للحياة والجماهير. مع ذكريات الأخبار. يحيي النميري، 7/ 1977».
كُنّا تصادقنا وعملنا، علي نحوٍ أو آخر، في جريدة «الأخبار» المهمَشة، الواقعة حينذاك في شارع وادي صقرة المقفر إلاّ من سيول الوحول الثقيلة شتاءً، وأسراب الحشرات الطائرة بحجم نصف القبضة صيفاً، ضمن مجموعة ضمّت شخصيات اتصفت بالقلق وقتذاك، كزهرة عمر (كانت تنشر تحت اسم ميساء)، ومحمد داوديّة، ومحمد كعوش، وسهير التل، وآخرين. وكان أن أجري أوّل حوارٍ معي ونشره علي صفحاتها. ثم كان خروجه المفاجئ إلي بيروت، ملتحقاً بزكريا محمد/ داود الزاوي.
إنَّ الغاية من إيراد كلمات الإهداء علي الصورة، هو تبيان طبيعة الأحلام والطموحات التي جَعَلَت من أمجد ناصر شاعراً يُحدد دوراً له في الحياة، لكنه دورٌ لا ذِكْرَ للشعر فيه. وهذه مسألة تبدو ناشزة، في ظاهرها علي الأقلّ، إذا ما استعدنا سيرةَ عديد من الشعراء والكُتّاب أعلنوا أنهم كانوا يضفرون مشروعهم الشعري في جديلة مشروع التغيير الاجتماعي والسياسي الكبير والعام، حيث كانوا جزءاً فاعلاً فيه ومتفاعلاً معه. غير أنَّ المسألة تُغري بالتأمل أكثر وطَرْح الاحتمالات، حينَ نجدُ عَبّاس بيضون يشير إلي خصوصيّة أمجد في تقديمه للأعمال الشعريّة في طبعتها الأولي 2002، وفي معرض قراءته للمجموعة الأولي «مديح لمقهي آخر» الصادرة عام 1979، أي بعد سنتين من كلمات الصورة، وبالمقابل من: «ذلك الإغداق الشعري القائم آنذاك، ومع كل ذلك الطموح البعيد المدي للشعر والأوهام حول الذات والمشاريع الكبري الشعريّة (....). وإذا شئنا أن نتوسع كثيراً في ذلك قلنا إن اختيار أمجد ناصر في هذه الفترة مع عدد من شعراء الطور الثاني من القصيدة الجديدة كان اختياراً لقدرات الشاعر الذي عاد من جديد كائناً عادياً».
عادَ الشاعرُ ليكونَ كائناً عاديّاً من جديد!
كيف؟
تتجلّي العاديّة لدي هذا الكائن / الشاعر في إدارة الظهر للفهم «الثوري – الانقلابي» المتسيّد القائل إنَّ الشعر يكتنز في تضاعيف قصائده مفردات، وروح، وشحنة التغيير القادم، لا للمشروع الشعري السائد فقط (إذ هو عنوانه – يا للمفارقة الهازئة!)؛ بل للحياة العربيّة برمتها أيضاً. وأن نكون كائنات عاديّة، وشاعرة كصفةٍ أساس فينا، فإننا لا نكتفي بالإعراض عن استعراض القضايا الكبري في كتاباتنا وكأنها شعارات الشارع مسبوكة بإيقاعات رقّاصة ولغة متفاصحة ذات صِناج وتهييج؛ وإنما نغوصُ إلي عُمق الحياة «العاديّة» لنقرأ علي هوانا، ونعاينُ بأعيننا، تفاصيلها التي كانت مهمَلة. وهذا ما تحوَّل إليه أمجد ناصر. ولتلافي خطأ الفهم أو سوء القراءة؛ أعني: هذا ما تحوَّل في «جوهر» الشاعر المتمثِّل في التمرد والمشاكسة. لقد تمرّدَ علي السائد والمهيمن في القصيدة، كخطابٍ وشَكْلٍ ومُتَلَقٍ مأمول يبتغي إرضاءه. وكان في صنيعه هذا مشاكساً، كعادته، ولكن داخل الكتابة الجديرة باسمها، وليس علي حواف وسطوح الخارج الاجتماعي الراضي باحتجاجٍ هنا وتَعريضٍ هناك – أكان شخصاً، أو ظاهرةً، أو تجمعاً ثقافياً وأدبياً، أو نَمَطَ مسلكياتٍ سلطويّة طاووسيّة مغرورة ومضحكة في آن، تطفو علي وجه المشهد الثقافي آنذاك - وربما حتّي الآن، هو موضوع التعرُّض.
لعلَّ اختماراً كامناً للتحوّل إيّاه، مبكّراً وأصيلاً، ما كَوَّنَ ما بدا لنا «قفزةً خاطفةً لم تتعدَ السنتين»، فصلت بين مضمون كتابة الصورة وإيحاءاتها من جهة، وما جَلَّتْهُ لنا أوراق الديوان الأوّل. وكذلك (أميلُ إلي هذا) ربما هو الوعي لديه بأنَّ تشابُك اليومي علي الصعيد الشخصي المنخرط، بشكل أو بآخر، باليومي علي صعيد الآخرين (الجماهير)، داخل المصهر البيروتي الساخن تلك الفترة الملتهبة بكّل المعاني، عملَ علي التمييز الواضح بين «الثورة» في الشعر وعلي الشعر، و«الثورة» علي الخنوع، بكافة تمظهراته في الحياة، وإنْ كان داخل «الثورة»! فالتمييز هنا لا يعني الانفصال أوالانبتات، بقدر ما يدلل علي العُمق البريء لمقولة: «أعطِ لقيصر ما لقيصر، وأعطِ لله ما لله»!
أُدركُ أنَّ صورة جوهر أمجد ناصر (التمرد والمشاكسة)، والتي طُبِعَت في كتابة تفاصيل اليومي، والعادي، والهامشي، والمُهمَل، قد تجاورَت مع صورة القصائد التي «اكتشفناها» فجأةً عند يانيس ريتسوس، واحتذي حذوها جيشٌ صغير من الشعراء. لكنني أدركُ أنَّ أمجد تابعَ ما بدأه في بدايته الأولي، وقبل أن تصلنا قصائد اليوناني مترجمةً، لأنني أعرفُ تلك الورقات الصغيرة المثناة، الخارجة بزهوٍ واعتداد من جيب قميصه الفضفاض الكالح أيام عمّان الأخبار، ومطعم هاشم، وشرفة رابطة الكتّاب، وشقة وادي سرور. أعرفُ تلك الورقات التي لاحقَ عبر سطورها تضاريسَ المرأة في خروجها الصباحي، وملامح المدينة وأشياء أرصفتها البسيطة. ففي اللحظة التي انضوي وانطوي فيها شعراء الأردن، بمن فيهم الشباب الجدد أصحاب الوعود حينذاك، تحت ألوية القصائد (بأشكالها غير العموديّة) المتخندقة داخل الموضوعة «الوطنيّة» و«الثوريّة» و«الرافضة» و«الملتزمة» إلخ، بغنائيتها الرخوة؛ كانَ هو، وزكريا محمد معاً، يكتبان ما هو خارج السياق، ويشهرانه في المحافل المحافظة في صميمها، رغم ادّعائها عكس ذلك. كانا مثل وَلَدَين شَقيين، مشاغبين، يصنعان من قصائدهما طائرات ورقيّة صغيرة، ويقذفان بها في فضاء قاعات المنابر الواطئة، فيجفل الحضورُ الغافي علي وَقْع المعتاد!
أين وصلَ أمجد ناصر، الذي كان يحيي، في تجربته، ولا أقول «مشروعه»، فذاك رهن المستقبل؟
بعد محطات عمّان، وبيروت، وقبرص، ولندن حيث ما عادت هذه الأخيرة محطةً؛ أين وصلت قصيدته بالأحري؟ هي لم تعُد تلك التي في «مديح لمقهي آخر»، ولا الذكريات والأمكنة المستعادة في «منذ جلعاد كان يصعد الجبل»، أو جميلات الكتابة / التحوُّل (في نَظَري) في «رعاة العزلة»، إلخ.
ذلكم سؤالٌ مسببٌ لإشكالٍ تتصادي الحواراتُ العاقلة، وغير العاقلة أيضاً، وربما هي الأشد صخباً والأعلي ضجيجاً، بين جَنَبات المعنيين بالشأن الشعري خصوصاً، وبماهيّة الكتابة تخصيصاً، وبهوية المتلقي تحديداً، وبكيفيّة التواصل تعييناً، وشروط التوازن، أو التخلخل، بين كتابات تنسجمُ مع منطقها الخاص.. وقراءات ترتهنُ لموروثها العمومي!
نص من كتاب «الكتابة عن التخوم»
صدر عن دار «أزمنة»
القادم من الصحراء.. العائد إليها
أحمد عبد اللطيف
الرجل البدوي الذي لا يعرف إلا الصحراء، لن يتحوّل مهما طال الزمن إلي ابن المدينة
ما السؤال الذي كان يشغل إدوارد سعيد في كتابه «خارج المكان»، ربما أسئلة كثيرة، لكنها تتمحور بالأساس حول سؤال الهوية، هويته التي استعادها في الغربة، سؤاله حول التعرف علي نفسه من جديد في الأرض الغريبة.
بنفس المقدار، بصورة قريبة ومعمّقة، لن تمثل الهجرة إلي لندن أي شيء بالنسبة للشاعر والناثر الكبير أمجد ناصر، ستكون بمثابة رحلة قصيرة حتي لو امتدت لعقود. الرجل البدوي الذي لا يعرف إلا الصحراء، لن يتحوّل مهما طال الزمن إلي ابن المدينة. أمجد هنا أمام سؤال الهوية لكنه، علي عكس إدوارد، لديه أمل في الرجوع، لديه فرصة. سيتجول أمجد في المدن الأوروبية واحدة وراء أخري، لكنه أثناء ذلك سيبحث عن المطاعم العربية في كل مكان، وسيتابع القنوات التلفزيونية العربية وعلي رأسها الحدث العربي، حتي أنه سيشاهدني في برنامج تلفزيوني علي القناة الثقافية المصرية، القناة التي لا يراها المصريون أنفسهم ولا يتابعها العرب، سيراني أمجد عليها ويهاتفني ليخبرني بأنه رآني وتابع الحلقة في الحال. سيبحث أمجد في غربته، في هذه المدن البعيدة عن صحرائه، عن أوجه للتشابه، سيحب الأماكن التي تذكّره بأرضه، سيكون الجنوب الإسباني من الأراضي المحببة إليه، وستكون غرناطة رمزًا لتعايش ضاع منا في أرضنا العربية. لن يتغير الشاعر في شيء، لن يتغير قلبه، ستراكم السنوات الخبرات واحدة وراء أخري، لكنها مثل طوابق بناية أساسها خيمة في أرض أردنية، وطوابقها باتساع العالم.
ما الذي يحدث لنا في الغربة؟ إدوارد سعيد سيستعيد نفسه، وبعد بداية في الأدب الإنجليزي والنقد الأدبي، وأطروحة عن جوزيف كونراد، سيجد نفسه بمواجهة سؤاله الأصلي: ثقافته العربية الإسلامية، ليطرح حولها أسئلته الراهنة. أمجد ربما يختلف قليلًا، ترك الأرض العربية لكنه بقي فيها، ولم ينشغل بأي عالم خارجها. سؤال الهوية ذاته لم يغب عن أمجد في كل كتاباته، كأن الغربة لم تحدث، ما حدث أنه غيَّر موقعه الجغرافي. نتعرّف علي أنفسنا في الأرض التي نعرف أنها ليست أرضنا، وننظر لثقافتنا نظرة أكثر موضوعية، بكثير من الرفق، بكثير من التسامح. هذا ما اتفق عليه ناصر وسعيد.
أدرك أمجد ناصر منذ البداية أن الحياة بالفعل كسرد متقطع، كمراحل تُشيَّد واحدة فوق الأخري، هو نفسه استجاب لهذا اللغز، وكانت جل أعماله محاولة لفك شفرته. لكنه في كل ذلك، منذ كان الشاب أمجد ناصر (الاسم الذي اختاره لنفسه بديلًا عن يحيي النميري) كان يعلم بأسئلة «يحيي»، ويعلم أنه سيعود إليه علي الدوام. سنوات أمجد في البلاد البعيدة لم تفعل إلا قوة تذكيره بالصور العربية والمجاز العربي، استفاد من الشعر الغربي في قوته وتجديده، غير أن أسئلته كانت دومًا تعود إلي أرضه الأصلية. الأرض التي، بالفعل، لم يبرحها.
ما الذي يمكن أن تضيفه الغربة للشاعر؟ بأي لغة يكتب؟ من هو جمهوره؟ ما سؤاله؟ هذه الأسئلة الجوهرية التي يطرحها كل كاتب مغترب علي نفسه، وينتظر قراؤه الإجابة عنها، كانت أعمال أمجد جوابًا حاسمًا لها، علي الأقل في حالته كرجل لم يتخل عن جذوره ولم يتبن هوية بديلة. في الغربة، سينبش الشاعر الأردني في ثقافته، في تراثه العربي، في تاريخه القديم، لتكون أعماله الشعرية المتتابعة قطع بازل متناثرة، بجمعها يمكن تقديم قراءة جمالية وتاريخية لثقافتنا الإسلامية.
هذا الهم بالقديم العربي يمثّل في عمقه سؤالًا عن الحديث، عن الزمن المعاصر، إنه اختيار جمالي يستدعي من خلاله صوراً شعرية تتفق مع بنية الشاعر الذهنية، مع بداوته وصحرائه، «منذ جلعاد حتي يطلع الجبل» «وحيدًا كذئب الفرزدق» «مرتقي الأنفاس»، كلها عناوين تدل علي هذا الذهاب للأصول، إلي العودة كطريق وحيد للفهم، كطريقة وحيدة للبحث. حتي في روايته الأحدث «هنا الوردة» سيختار مكانًا عربيًا للأحداث، سيصنع رواية تاريخية علي طريقتها، رواية لا تفارق العالم العربي، محصورة بين قوسيه، بين قوسي أزماته الطارئة الممتدة، قراءة نقدية لتاريخ حديث نتلقي تبعات أخطائه يوميًا، لكن أمجد الروائي لن يتخلي عن شعريته، لكن الشعر هنا لن يكون في اللغة المنسالة، الدفاقة، إنما سيكون في أفق الرواية الشعري، في مجازه الكبير، وبعده عن الواقع الملموس، أو الوصول إليه عبر طرق غير مألوفة. والبطل ليس بطلًا غريبًا عنا، هو ظل دون كيخوتة، القادم من ثقافة قريبة لنا بتجسيده، الفارس الهمام الذي يستل سيفه ويمتطي حصانه خارجاً لتغيير العالم، العالم الذي أفسده الوهم والفرسان المزيفون. لكن دون كيخوتة هنا يتمتع بصفات عربية، هو في نفس الوقت الابن الأصيل لثقافتنا، الشبيه ببديع الزمان الهمذاني، شبيه برسومات يحيي الواسطي التي تجسد مقامات الحريري، إنه الفارس الممتطي فرسه بحثًا عن حكاية، بحثًا عن ثغرة للمرور. بالبنية التي اختارها أمجد لروايته، بقدرتها علي الإخفاء حينًا والتجلي أحيانًا أخري، تحمل الرواية مستويات متعددة للقراءة، كلها، في نهاية الأمر، تطرح سؤال الثقافة العربية في القرن الأخير.
ورغم أن سيرة أمجد ناصر موزعة بشكل غير عادل عبر أعماله، إلا أن رحلته الطويلة من الأردن إلي لندن، ومحطاته المتعددة من فلسطين إلي قبرص، جديرة بأن يُكرس لها عمل سيري يمتد إلي اللحظة الراهنة، سيرة تشمل الشاعر والروائي والصحفي والمناضل اليساري، وتشمل التأثيرات التي شكّلت، قبل أي شيء، قصيدته التي جعلت منه رائداً من رواد الحداثة الشعرية العربية، وجعلته من الأسماء المخلدة في خريطة قصيدة النثر. سيرة ستكون مرجعية تاريخية هامة عن زمن التوترات العربية وحركة اليسار والقضية الفلسطينية، بقدر ما تضم حياة شاعر ثرية، وحياة مهاجر شاهد عالمنا من نقطة بعيدة.
بيته.. أعرق ديموقراطية في العالم
زليخة أبوريشة
عندما صحا من تخدير عملية إزالة الورم من الدماغ، قال لي بصخَبِ صوته الضاحك،
وبكلام فصيحٍ مريحٍ متماسك عفيّ: «كأنَّها لعنة»
كنا أنا وهند نتغامز عليه، صديقنا المشترك أمجد، وخصوصاً عندما يكون مكتئباً وروحه علي أرنبة أنفه. وكان ذلك مصدر قهقهاتٍ مكتومةٍ لنا، ومحاولة منه ليظهر (كوول) ولا يأبه. الوسيم الطيّب، المشغول دوماً بمشروعه الشعري أو الأدبي، حاملَ سلّم اللغة بالعرض وبالطول، ليصطاد منها أجملَ بلاغاتها. وبما أن هند لبنانيّة، بما يعني ذلك - وليس بالمطلَق- تقديراً لفكرة التحرّر، وذاتُ ماضٍ نضاليّ أيضاً، فهي دوماً أكثر انفتاحاً علي الحداثة الواقعية، وأكثر إخلاصاً لما يُسمّي Political «orrectness . هند واجبُها أن تنتقد الصديق الزوج، وأنا عليّ أن أؤيدها غالباً، وكانت هذه لعبةً ممتعة لثلاثتنا؛ لأن أمجد كان يقهقه عالياً وهو يعترفُ، بشقاوةٍ، بخطئه، ويرضي به مهما خالفَ القواعد السامية لحقوق الإنسان، أو كان ملوَّثاً بالتحيّز الجندري.
أقول كان وكانت وكنّا، لأنَّ ذلك كان يحدثُ في بريطانيا، في أثناء إقامتي فيها، وكنت كثيراً ما أزورهما في بيتهما في لندن، وتمنحني ابنتهما الجميلة والفهيمة «يارا» غرفتها، بينما «أنس» الفنان يعبث بنظام النظافة والترتيب في غرفته الصغيرة التي لم تعد تتَّسع لموهبته عندما شبّ. يارا أيضاً كانت، علي حبّها الكبير لأبيها، تنتقد كلامه إذا خالفَ المنطق، أو وجدت فيه، مثلنا، ما يشوبه من تحيّز، فهي قد تربَّت في أحضان أعرق ديموقراطية في العالم، ومع ذلك فالعائلة كلُّها تُهرَعُ إلي بيت الجدة والجد في المفرق حال وصولها إلي عمان، فهذا الطقس لا تهاونَ فيه، كما لا أحد من النعيمات (عائلة أمجد) يعترضُ علي الحفيدة وأمها في حلّتهما المعاصرة.
لأمجد طقوسٌ في يومه وفي أسبوعه؛ فهو يستيقظ ويستعدُّ ويفطر ويحمل عدّته إلي أحد المقاهي الأثيرة، مثل تلك التي علي أحد فروع التيمز في منطقة ريتشموند، حيثُ تترقرقُ مياهٌ بعيدةٌ في حلمه البدويّ، ويستغرق الشاعر في الكتابة حتي ما بعد الظهيرة، ليتوجَّه بعد ذلك إلي مكتبه في القدس العربي، في همرسمِث، ليعود حوالي الثامنة مساءً. أما السبت فهو للخروج مع هند للتسوّق. هو يكتبُ كلَّ يوم، لا يخرمُ موعدَه مع الكتابة إلا حادثٌ جلَلٌ.
أمجد طيبُ العلاقة مع جميع أفراد عائلة هند، ومحبٌّ لأصدقائه، ومعاتبٌ فذٌّ لتقصيرهم، بينما هو قلَّما يري تقصيره، وبينما كل ما يحتاجُ إلي سماعه بعد اللوم الذي يوجّهه دون تريّثٍ هو عبارة «حقك عليّ»، وربما شوية اعتذارات أخري تنتهي بضحك الطرفين؛ فأمجد قطعةُ فؤادٍ من البياض العاجيّ لا يعرف الحقد، وهو كائنٌ قطع أشواطاً في تخليصِ نفسه من قيم مجتمعٍ تكبِّلُ الروح والإبداع. فمن مدينتَيْ المفرق والزرقاء ذهبَ بعيداً في رحلته متحرِّراً من عُقَد التربية التي تواجه شاباً طموحاً بحجمِه، ومن بيئةٍ محدودة كبيئته، ليشكِّلَ كينونةً أريبةً مهمّةً في أفق الثقافة العربية المعاصرة والحداثويّة. فهو ليس شاعراً متميّزاً فحسب، جعلَ من كلِّ كتابٍ أنجزه أسلوباً فارقاً في الكتابة الشعريّة، بل هو ناقد ثقافي وأدبيّ وقارئٌ جمالي للأمكنة وتاريخها، أيضاً. قال لي محمود درويش يوماً: أنا لا أكتب قصيدة النثر، ولكني أحبّ نصوص أمجد ناصر. ويوماً قال أمجد لابنه أنس: أنا لا أطمح أن أزاحم درويش أو أدونيس، اللذين أحبهما حباً جماً، ولكن عيني علي أولئك الذين في قمة العالم: أستورياس وأوكتافيو باث وفارغاس، أو ما في معناه!! وفعلاً فإنَّ شعر أمجد لا يشبهُ شعر كبار شعراء العربيّة؛ فخطُّه مختلف، حيثُ نزعَ عنه الغنائيةَ بعد أوَّل ديوان، وراح يفحص بقدمه أرض الشعر خارجَ هواء المدن وداخلها، متمرّداً علي كلِّ ما هو جاهزٌ أو سابقٌ. فهو بدويٌّ متمرِّسٌ بالخشونة والمحل وقلة الزاد، وعليه أن يعيدَ تدوير رؤاه ونسفَها علي نحوٍ ليس بعيدٍ عن الجَدّة المقعية علي نارها كغزالةٍ مُعَمِّرة!! تشبه بلاغةُ أمجد صناعةَ رغيفٍ من الخبز ولفّه بالثفال وشيِّه علي صاج الأثافي، وهو ما توغَّل في ذكره في كتابه «فرصةٌ ثانية»(2010، وزارة الثقافة، عمّان). ثمة رائحةُ دخان ورسيس رماد ونكهة أمٍّ علي هذا العجين الخامر الذي نضج وتقحمش. نكاد نسمع صوت تكسّر اللقمة تحت الأضراس، ورائحة الفراغ الصحراوي الذي امتلأ بالكائنات وحطبها:
«لم تتأكد ممّا عنته الشاعرة المتحدّرة من بطن عربي قديم عندما كتبتْ إليك تلك الكلمات، أثناء زيارتها للبلاد التي غادرْتها، خلسة، وعدتَ إليها بجناح تساقط منه ريش كثيرٌ…أنتَ، فعلاً، لا تدري. فالشاعرة المتحدرة من بطن عربي قديم لم توجد تقريباً. وتلك الرسالة لم تصلك إلاّ في حلم أو ما يشبهه، وليس صعباً علي ثلاثة، أو أربعة، يعرفونك أن يردّوا حيرة كلماتها إليك».
«تتذكّر وشماً علي نُحاس مؤكسدٍ، أو ربّما علي كاهل مغبرّ، كان يشبه فراشة زرقاءَ. رأيت يومًا فراشة زرقاءَ ترفرف علي منحدر خطر، قريباً من شِقّ أو هاويةٍ حيث تثوي رائحة عضوية مبيّتة، رقص الوشمُ علي نحاسه المؤكسدِ، فتحرّكت في ذاكرتك النقطة التي تودع فيها الرائحة سرّها. لم تكن نقطة بل مثلثاً غير متساوي الأضلاع، بل صدعاَ بنفسجيّاً قاتماً، بل خاتماً في صندوق….
تصاعدت الرائحة تأججت، ولكنها لم تبُح بمكنونها. ظلّت مثل الطلسم والحلم وغموض الحيوان».
«لكنك لن تطوف في طول البلاد وعرضها بحثاً عن اسم ضائع أو معني مطمور، فإن كان لابدّ من خطّ يقودُ خُطاك ويستحثّ بصرك، هناك واحدٌ ستسلكه بتعرّج. خطّ – طريق له أسماء بعدد أغراضه، وأحياناً باسم عابرين لم يُولدوا بعد». «مائة فارس في ثيابِ الحداد يمضون تحت درب الحليب.
عيونهم تسيلُ فضّة وخيلهم تخبّ في الظلام. إلي أين يغذون السير في ليل ملتفّ كغابةٍ مقفلة».
ومن جهةٍ ثانيةٍ، هناك شابٌ وجد نفسه في التجربة. في اختبار الجسد فكتب نصوصاً تجاوز فيها نصوص سعدي يوسف في «إيروتيكا» (1995، دار المدي) قبل أن يكتبها سعدي، وأعني «سُرَّ من رآكِ» (1994، السراة للكتب والدراسات والنشر، لندن)
وها هو أمجد لا يكادُ يهدأ بين لعنة لندن ولعنة المفرق، فعندما صحا من تخدير عملية إزالة الورم من الدماغ، قال لي بصخَبِ صوته الضاحك، وبكلام فصيحٍ مريحٍ متماسك عفيّ: «كأنَّها لعنة»، يقصد مرضه واكتشاف السرطان في الكلية التي أهداها لهند!!
لا يا صديقي! إنها لعنة الشعر هذا الرفيق اللدود!
لتنهض معافيً مثل كتابٍ ينتظر توقيعك!
الرحال في أقاليم الشعر
شعبان يوسف
كانت السخرية من تكوينه.. السخرية التي تحطم جمود المتزمتين في الثقافة
في السبعينيات كانت تترامي بعض الأسماء الشعرية العربية من كل الأقطار تقريبا، سيف الرحبي من مسقط عمان، علوي الهاشمي وقاسم حدّاد وعلي الشرقاوي من البحرين، خزعل الماجدي وكاظم جهاد وجليل حيدر من العراق، وجودت فخر الدين ومحمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وعباس بيضون ونوري الجراح من لبنان، ثم في الثمانينيات جاءت أسماء أخري تتزاحم كثيرا وتلقي ببعض ثمراتها، وكان من بين هذه الأسماء الشاعر أمجد ناصر.
لم تكن في ذلك الوقت تربطني به أي علاقة، مجرد اسم شعري تتناثر أو تنضبط قصيدته علي صفحات مجلة شعرية طليعية مصرية هي «إضاءة 77»، القصيدة كان عنوانها : «مبارزة» ، نشرت في العدد 12، الصادر في فبراير 1985، يقول مطلع القصيدة:
(سأفاجئ الذين ظنوا برهة
من ذهب الوقت، أنني أراود الكلام
عن عريه
وأستل من لحمه
غيمة يابسة، إنني:
من بلاد أطاعت وعصت
من زمان الرضا والغضب
من نسغ أخضر
من مياه دافقة
من رهافة السيف وهجمة الصقر:
جئت..).
كانت هذه الكلمات الشعرية، أول ماصافحني للشاعر، وفي الحقيقة كان هناك دور كبير للشاعر حلمي سالم الذي قضي وقتا ما في بيروت، وكان يعمل في الهلال الأحمر الفلسطيني أثناء اجتياح إسرائيل للجنوب اللبناني في تعريفنا بأمجد وغيره، فهناك تعرّف حلمي علي عدد هائل من الشعراء والمثقفين والكتّاب الطليعيين، حيث كانت بيروت بمثابة «وسط البلد» بالنسبة للأقطار العربية، كانت فيها المجلات والصحف ودور النشر والمؤسسات الثقافية الكبري، ومن ثم التحق بها كل المتمردين العرب، ولحق بهؤلاء المرتزقة والسماسرة والناشرون والهاربون من بطش حكوماتهم، ولذلك كان حلمي سالم جسرا طيبا ولطيفا وعميقا بين كثير من هؤلاء المثقفين والشعراء، والقاهرة، وبعد أن عاد حلمي إلي القاهرة شبه مجبور، بقي مخلصا لكثير من أصدقائه العرب الشباب والشيوخ الذين التقي بهم في بيروت، وكتب عنهم في كتابه «الثقافة تحت الحصار».
من ثم جاءت قصيدة أمجد ناصر سالفة الذكر، والتي نشرها حلمي سالم في إضاءة 77، مع قصيدتين قصيرتين أخريين للشاعر نوري الجراح وهما «لوركا والقناع»، وبلا شك كان حضور أمجد ناصر ما يزال حييّا وبطيئا، ولم تكن له لدينا تلك الكرامات الشعرية التي ظهرت فيما بعد، مما جعله أحد فرسان قصيدة النثر، رغم أنه كان قبل سنوات قليلة من عتاة قصيدة التفعيلة، قبل أن يذهب إلي بيروت مع الذين ذهبوا، والتقي هناك بحشود الثقافة والشعر والفن الطليعيين، هؤلاء من زلزلوا عقيدة أمجد الثابتة في الشعر الحر، كما هزّت تلك الحشود غيره من الشعراء، فانحرفوا _في اعتقاد النقاد التقليديين_ عن قصيدة التفعيلة، وبعدها صار اسم أمجد ناصر يتردد بقوة بيننا، ليس التردد فقط، بل كانت ثمة علاقات جمعت بينه وبين شعراء مصريين، فبعد ارتباطه بجريدة القدس، أصبح يدعو كتّابا مصريين كثيرين للكتابة في الجريدة، وصار واحدا من الذين يتحدث عنهم كثيرون بمودة عامرة وكذلك غامرة.
سألتقي به في مناسبات مختلفة، وسوف يحدثني عنه كثيرا الراحل الجميل «جميل حتمل» ، وكان أمجد يطلق عليه «جميل حتما»، وتلك التسمية تعود لأسباب كثيرة تخص «جميل»، والذي كان يقيم في باريس، ويكتب للقدس في لندن، وربطت بين الاثنين صداقة عميقة، صداقة تشابهت فيها الأرواح بشكل نسبي، وعندما رحل جميل في 7 أكتوبر 1994، كتب أمجد وداعا مؤثرا يقول: «كانت حياة جميل حتمل تقوم علي ثلاثة أركان، وقد رآها تتهدم تباعا : الوطن ، الحب، الصداقة.. فلا الوطن استطاع أن يعود إليه حيا ولا الحب الذي أخذه بالتلابيب طلع وفيا، ولا الأصدقاء بادلوه لهفا بلهف».
سيزور القاهرة أكثر من مرة مع زوجته الطيبة، ومع ابنته، وسنستمع إليه من منصّة المجلس الأعلي للثقافة في إحدي المناسبات الشعرية الدولية، وأتذكره عندما يشاكس حلمي سالم من المنصة في دعابة واضحة، تحمل ما نقول عنه «أبو دم خفيف»، وتضج القاعة بالضحك عندما يكشف عن بعض تقنيات حلمي الغرامية، ويبتسم المتحفظون في القاعة، ويغضب بعض المتزمتين من تلك الدعابات التي تنطلق من المنصة، لأن المنصات كما اعتقدوا وزعموا للهتاف والرصانة فقط، لكن حضور أمجد المتنوع والمتعدد، يحطم بعضا من ذلك الجمود الذي يحيط بالشعر والثقافة بشكل عام، وفي تلك الأثناء، أجد في أوراقي ثمة صورة تجمعني معه ومع العزيز حلمي سالم، التقطها أحد لنا في كافيتريا المجلس الأعلي للثقافة، صورة وحيدة تماما.
لا أريد أن أسترسل في ذكريات لا أملك منها إلا القليل، فمثل أمجد ومن يشبهه، الشاعر والانسان والمسئول عن نافذة صحافية، كان يسير مخفورا بكثيرين من الشعراء والمثقفين والكتّاب، وهذا لا يتيح لبعض البعيدين تكوين علاقات قوية مع هذا النوع من المثقفين، يكفي الاحترام الذي يتكون من مسافات بعيدة، وتكفي المحبة التي يحملها بعض الأصدقاء للمتباعدين، وتولي صديقنا الذي رحل مبكرا جدا، الكاتب الصحفي والمبدع مجدي حسنين، وكان يكتب بشكل شبه يومي في القدس، نقل أخباره إليَّ أولاً بأول، وكان أمجد لا يمتنع عن نشر أي مساحة أو تغطية يكتبها مجدي، حتي لو استغرقت أكثر من صفحة، وأعتقد أنه كان ينتظر المادة الصحافية الثقافية التي تأتي من القاهرة باهتمام ، وأظن أن الشاعر محمود قرني له تجربة ثرية في هذا الأمر.
وإذا كان أمجد نشر بعض شعره في القاهرة، عن دار شرقيات، وعرفه المثقفون والكتّاب المصريون شاعرا، إلا أنه ناثر وكاتب صحافي من الطبقة الأولي، ومن أصحاب الأساليب المتميزة في أدب الرحلات، وحسنا أنه نشر كتابا عنوانه «تحت أكثر من سماء.. رحلات إلي اليمن، لبنان، عمان، سورية، المغرب، كندا»، يُظهر بجلاء أنه كاتب رحلات ضليع، ينثر كافة خبراته السياسية والثقافية والاجتماعية فيما يكتب بامتياز، لذلك لم يأت ذلك الكتاب الضخم مجردا من بعض سيرته الفكرية والتكوينية والإبداعية، ولم يقتصر علي وصف البلاد والأحداث التي عايشها فيها، ولكنه كان عميقا للدرجة التي تشعر بأنه يريد أن يبلغنا عدة رسائل دفعة واحدة، وبالطبع لا يستطيع المرء أن يتعرّض لكل ما ورد في هذه الرحلات، لأنها تحتاج إلي مناقشات واسعة، وأعمق مما تحملها كلمات محبة طارئة، ولكنني سوف أطوّف علي بعض ماورد في الكتاب، ولاح فيه بعض من أفكار وهواجس الشاعر، فالشاعر عندما يكون صحافيا، يختلف الأمر.
وهو يشعرنا في مقدمة كتابه بأنه لم يكن راغبا في كتابة مقدمة كما صار تقليدا أو فرضا، ولذلك فهو آثر السلامة، وكتب مقدمة تحريرية، ونثر فيها خواطر سريعة، خواطر تكاد تكون معضلة أو حلّا في الوقت ذاته. «.. رغم أن هذه الرحلات إلي أمكنة عربية، مشرقية ومغربية، تمت لأسباب مختلفة، فإنني أظن أن هناك ما يوحدها ويجمع بينها، فأسئلة الأمكنة العربية اليوم السياسية والثقافية والاجتماعية متشابهة جدا تشابه خيبات أبناء هذه الأمكنة في تحقيق الحدود الدنيا من طموح في جعل أمكنتهم صالحة لحياة كريمة، ولكن هذا لا يعني أن للسياسة ثقلا كبيرا في هذه الرحلات، فالثقل الأكبر، كما سيلمس القارئ، هو للثقافي والاجتماعي والتاريخي باعتبار هذه الأبعاد أكثر قدرة من السياسة، علي عكس ما هو استراتيجي، فليست السياسة دليلا صالحا لمعرفة ما يعتمل في الحياة العربية من أحداث وتمحضات بينما الثقافة، بمختلف أوجهها هي دليل أقل مراوغة».
ورغم أن أمجد ناصر أعلن أن الثقل الأعظم للثقافي والاجتماعي والتاريخي، وليس للسياسي، إلا أننا سنلاحظ أن السياسي كان مهيمنا، بغضّ النظر عن أنه لا يشغل مساحة واسعة من الكلام، فحديث أمجد طوال البوح والفضفضة والحكي كان يتناول لقاءات مع أشخاص هنا أو هناك، ونجده يرصد جغرافية بعض الأماكن التي يذهب إليها، كما أنه يتحدث مثلا عن رامبو الشاعر الفرنسي الاستثنائي، والذي تم الاحتفاء به في عدن، أكثر مما يتحدث عن الأزمات السياسية العربية، ولكننا سنلاحظ أن ظلّ السياسي الثقيل، سيفرض نفسه بطبيعة الحال علي كل ماكتبه أمجد في الثقافة والتاريخ والأحوال الاجتماعية.
وسوف نجد أن أمجد ناصر كان منشغلا أثناء زيارته لعدن، بتلك الخلافات العميقة التي جرت بين جبهة التحرير الديمقراطية الفلسطينية، والجبهة الشعبية، حول اغتيال الرئيس علي سالم البيض، وتنصيب عبد الفتاح إسماعيل رئيسا للجمهورية اليمنية الديمقراطية في الجنوب، وهو يضع عنوانا مثيرا لرحلته إلي اليمن وهو: «اليمن: من آرثر رامبو إلي عبد الفتاح إسماعيل.. إلي الفتنة الصنعانية»، ورغم أن الرحلة كانت مخصصة لحضور ندوة في (بيت رامبو)، والتي أشرف عليها الشاعر شوقي عبد الأمير، إلا أننا سنجد حضور السياسي كان طاغيا وداميا في الوقت نفسه، بالرغم من لغة أمجد الفاتنة والمنسابة بجمال له رائحة، فعندما يصف رحلته الأولي إلي عدن يكتب أنها كانت في عام 1978: «.. وشمس عدن الدانية ترفع حرارة الأجساد والأشياء.. وتحوّل البحر المحيط إلي حمام سباحة دافئ..»، وهو يصف جغرافية عدن وتاريخها بدقة وفتنة مدهشتين، ويتوغل في سرد وقائع من الماضي البعيد الدال علي شيء ما يريد إبرازه، وكذلك يركز علي بعض من أحداث عديدة في الحاضر القريب، ولكنه يغلّف كل ذلك بالمناخ السياسي، فالأثر السياسي ليس طارئا أو عابرا، بل هو أثر مقيم، وعلي أعمدته تقوم جميع الظواهر الأخري، فلا ندوات ولا مؤتمرات ولا فعاليات ثقافية وشعرية وأدبية دون استقرار سياسي.
من ثم كان الحديث عن الحياة العنيفة التي اقتحمت حياة اليمنيين ضروريا وحاسما، وكلنا يذكر تلك المرحلة التي تولّي فيها الزعيم الماركسي عبد الفتاح إسماعيل رئاسة عدن، الطرف الجنوبي من اليمن، ورغم أن رومانسية سياسية كانت تحيط بالفكرة، إلا أن الحدث كان عنيفا للغاية، الرومانسية الفكرية تأتي من محاولة فرض نظام شيوعي علي مجتمع قبلي وعشائري مثل اليمن، مثلما حدث تماما في أفغانستان، وكانت النتيجة ليست صفرا فحسب، بل كانت أبعد من الصفر بكثير، فالاغتيالات كانت تعمل بوتائر سريعة للغاية، والخيانات كانت تجد لها مبررات شبه وطنية، وكأن الخيانات ضرورات حتمية في مثل هذه الظروف، ولم تكن تلك الأحداث المحلية في اليمن، مجرد أحداث داخلية، بل نجد لها امتدادات في الصين وموسكو، كذلك في الأنظمة العربية، وتصريحات لمن ليس لهم علاقات مباشرة بالأمر، كل هذا كان يحكيه أمجد ويسرده بسلاسة شديدة، مازجا بينه وبين الأحداث الثقافية، والوقائع التاريخية، والشخصيات الأدبية التي يقابلها صدفة، أو يبحث عنها، أو يسعي إليها، إنه يصنع خلطة «رحلاتية» عجيبة، ليعطي لنا مزيجا ذا تنوع هائل، يضع فيه كل خبراته الثقافية العميقة.
ومثلما فعل في رحلته إلي اليمن، فعل ذلك في رحلاته الأخري إلي سوريا ولبنان والمغرب وبقية البلدان، وسوف نجد بعضا من وقائع سيرته الذاتية ماثلة في كل سطور الكتاب دون أي تمويه، فهو يسرد وقائع أول خروج له من بلاده الأردن، كذلك وصوله إلي بيروت، وعودته مرة أخري لكي يكتشف فيها ما لم يكتشفه في مكوثه الأول، إنها رحلات إلي الأفكار والأعماق، بقدر ما هي رحلات إلي مناطق جغرافية حميمة، مناطق يشتبك معها، ونجد أنفسنا في قلبها معه، وكأننا نعرفها بعينيه، ونكتشفها من جديد عبر سطور فاتنة كتبها شاعر، أزعم أنه يغرق في رومانتيكية عربية مدهشة، مهما زعمنا غير ذلك، فالرومانتيكية ما تزال تحيط بذلك العربي التائه في أي مكان من العالم.
مسعي المصافّ الأرقي
صبحي حديدي
كان لابد أن تسفر تربية أمجد الجمالية عن رسوخ فصحي رفيعة وذات بهاء خاص
ليس جديداً انحيازي العلني إلي تجربة الشاعر الأردني أمجد ناصر، سواء بمبادرة من جانبي تنطوي علي مراجعة إصداراته، أو بمبادرة منه حين يتكرّم فيطلب مني أن أقدّم لمجموعة جديدة له أو مختارات، وكان آخر عهدي بهذه «المهمة» المحببة أنني قدّمت أحدث مجموعاته، «مملكة آدم». أسبابي الأولي في هذا الانحياز تبدأ من قناعة مركزية مفادها أنّ تجربة ناصر هي بين الأبرز، والأكثر نضجاً وانفتاحاً وتجدّداً، في الجيل الشعري العريض والتعددي والغنيّ الذي صعد منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي؛ وحمل هاجس العبور الشائك من النثر الشعري كما أطلقه جيل محمد الماغوط وأنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال، إلي شكل قصيدة النثر كما صرنا نقرأ نماذجه الرفيعة في حفنة من التجارب التي لا تكفّ عن الارتقاء.
ولقد بدأ ناصر شاعر تفعيلة، وفي مجموعته الأولي «مديح لمقهي آخر»، 1979، نقرأ عدداً من القصائد التي تفاجئنا ولا تزال تفعل اليوم أيضاً في مستوي نضجها الفنيّ، وهدوء نبرتها الإيقاعية، وذكاء استكشافها للطاقات الموسيقية الكامنة في عدد من التشكيلات التفعيلية، وبراعة تملُّصها من تبعات الشكل الأخري (أنظمة التقفية، علي سبيل المثال). وفضيلة هذه البدايات أنها أتاحت للشاعر طوراً من التدرّب المبكّر علي خفايا موسيقي الشعر، الأمر الذي أسفر عن دربة إيقاعية، وحسّ يقظ بالشكل، وتَنبُّهٍ إلي مواطن القوّة (وهي، أيضاً، مواطن الجمال) في تصميم الأبنية الإيقاعية. هذه العوامل، في مجموعها، أتاحت له أن ينتقل بخطي ثابتة، وبأمان ملموس، نحو شكل قصيدة النثر الذي طبع كتابته الشعرية منذ العام 1979 وحتي اليوم.
كذلك كان طبيعياً، وإنْ لم يكن آلياً أو تلقائياً، أن تسفر تربية ناصر الجمالية عن رسوخ فصحي رفيعة وذات بهاء خاصّ. فمنذ القصائد الأولي بدا واضحاً أنّ اللغة رهان مركزي في قرارة الشاعر، وأنّ هاجسه تطوير جملة عربية غنيّة، حارّة المعجم، عالية الإيحاء، حسّية العناصر، تشكيلية الصورة، بصرية الاستعارة، وإيقاعية التكوين في بنياتها الدلالية والصرفية والصوتية.
ومنذ مجموعته الرابعة، «وصول الغرباء»، 1990، شرع ناصر في تكريس تقليد يندر أن نعثر عليه بهذه الدرجة من الصفاء والقصدية وحسن التنفيذ في معظم المشاريع الشعرية المكتملة التي تصنع مشهدية قصيدة النثر العربية المعاصرة: تكريس مجموعة شعرية بأسرها لموضوعة واحدة، أو لسلسة تنويعات ضمن موضوعة واحدة جامعة. ثمة، هنا، فرصة استدراج القراءة إلي استقبال أكثر حيوية للنصّ الشعري، واقتياد القارئ إلي درجة أرقي في تذوّق ما تنطوي عليه هذه الكتابة الشعرية من مشقّة. وثمة، إلي هذا، مغامرة زجّ الشكل الشعري في اختبار مفتوح مع الموضوعة المتكاملة، والقبول بعواقب ما يمكن أن يسفر عنه جدل هذه المواجهة، وما إذا كانت ستُنهِضُ الشكل أم تُقعِده. وفي سياقات هذا التحدّي، قارب ناصر الموضوعة الإيروسية في مجموعته الخامسة «سّرّ مَن رآك»، 1994، ولكنّ قصائده تجاوزت الشبقي والغريزي والحسّي، أو هي بدأت من هذه كي تقارب قصيدة الحبّ القصوي.
وفي مجموعته السابعة «حياة كسرد متقطع»، 2004، سجّل ناصر نقلة مميّزة، وذات أهمية خاصة، في تفصيل مركزي بالغ الحساسية: هاجس الشكل إجمالاً، وقلق الشكل الراهن تحديداً. ذلك لأنه اشتغل، هنا، علي القصيدة الدرامية، أو القصيدة بوصفها سردية قصيرة حول لقطة إنسانية بالغة الخصوصية؛ ليست مع ذلك متجرّدة من عوامل الماضي والحاضر والمستقبل، وليست في منجاة من ضغوطات المعني والتاريخ والبلاغة والأسطورة.
ولعلّ المسعي الأهمّ في شعرية ناصر أنه يجهد للانتقال بشكل قصيدة النثر العربية المعاصرة إلي مصافّ أخري أشدّ رقيّاً، وأكثر مشقّة، وأعلي قدرة علي تخليص الشكل من سكونيته، وبناء تعاقد صحّي مع قارئ لا يضلّ طريقه إلي الشعر الحقيقي.
مع تحيات فيينا
طارق الطيب
صديقي العزيز أمجد ناصر
أشواقي من فيينا حتي لندن، «رايح جاي»!
أما بعد،
[عزيزي أمجد ناصر
عاطر تحياتي من فيينا،
أرسل لك قصتي (في انتظار سارة) وأرجو أن تروق لك وتجد مكانها علي صفحات جريدة «القدس العربي» التي نعتز بها وباسمها.
تقبل سلامي وتقديري
طارق الطيب، فيينا، سبتمبر 1991]
كانت هذه رسالتي الأولي لك يا أمجد، أرفقت معها هذه القصة المذكورة والتي كتبتها في فيينا في فبراير 1988. مر علي كتابتها حتي عامنا هذا 31 عاما؛ وعلي نشرها في «القدس العربي» 28 عاما.
ما لم تعرفه يا صديقي يحيي أنني كتبت في تلك الفترة هذه القصة وغيرها من الكتابات، علي الآلة الكاتبة التي صارت اليوم تحفة عتيقة تجمعها المتاحف. هذه الآلة الكاتبة العربية طلبتها -وأنا في سنواتي الأولي في فيينا- من السعودية لتصلني بعد أسابيع طويلة، لأجد مكتوبا عليها (Made in «zechoslovakia)أي (صُنِع في يوغسلافيا). يعني سافرَتْ تلك الآلة الكاتبة من البلد الجار علي حدود النمسا لتحج في السعودية ثم تعود إلي النمسا، لتكون تكلفتها الضعف ربما دون أن أدري. لكني خلعت عليها لقب (الحاجة آلة)!
في أواخر الثمانينات كنت أكتب القصص بيدي في دفاتر ثم أعيد طبعها علي (الحاجة آلة)، ويا ويلي لو نسيت سطرا أثناء الطباعة! فليس هناك أي حل إلا إعادة الكتابة من جديد وبحرص مضاعف، أما الأخطاء البسيطة في حرف أو كلمة، فكنا نعيد الكتابة علي الحروف نفسها بوضع «كَربونة» بيضاء تغطي الحروف السوداء بالبياض، ثم نضرب حروف الآلة علي البياض من جديد.
إنه تاريخ الكتابة والنسخ والطبع الذي لازمنا جميعا أبناء ذاك الجيل.
من فيينا حادثتك تليفونيا مرات يا أمجد، وكانت تحيتك تصل عبر الهاتف بالحضن الدافئ للأصدقاء الحميمين. كنتَ مشجعا لأقصي درجة لأن أرسل لك دائما قصصا جديدة؛ فشاركتُ بغير القصص في استطلاعات أدبية، وأرسلتُ مقالات لها علاقة بالفن أو المسرح أو السينما أو الرأي أو ما كان يحدث علي ساحة فيينا الأدبية والفنية آنذاك.
في الفترة من 1991 حتي 1993، وهي بالضبط خلال عامين ونصف، نشرتَ لي في «القدس العربي» إحدي عشرة قصة قصيرة غير المقالات، واستمر النشر لسنوات طويلة بعدها، ربما حتي قرب نهاية الألفية الثانية، فنشرتَ لي أكثر من عشرين قصة قصيرة جديدة، صدرت كلها فيما بعد في المجموعة القصصية الثانية (اذكروا محاسن ...).
كنت يا يحيي ترسل لي نسخا يومية من جريدة القدس العربي علي عنواني في فيينا. كانت تصلني الجريدة متأخرة ليومين أو ثلاثة أو قد تمتد لأسبوع. في بعض الأحيان كانت تتأخر أكثر لأن صديقا لي كان يعمل في مكتب بريد فيينا العمومي، وكان ينتظرها مثلي. كان يخفيها عن الإرسال من المكتب الرئيسي ويأخذها معه لبيته ليوم أو أكثر، ثم يعيدها لي عبر مكتب البريد الذي يعمل به وكأنها وصلتهم حالا، أحيانا كان يكتب لك بجانب العنوان: (مع أطيب تحياتي يا طارق- فلان).
لاحقا رجوت صاحب محل الجرائد القريب بيتي في الحي السابع، أن يحصل لي علي الجريدة من مركز التوزيع في فيينا؛ علي أن أمر عليه في أي وقت للحصول علي أعدادها.
كانت فترة مهمة لي يا أمجد في مدينة لم يوجد فيها كتاب عربي أمامي؛ فلا مكتبة ولا بريد يصلنا بالكتب والمجلات من البلاد البعيدة ولا مال، فكنت في أيامي الأولي أقرأ أي حروف عربية أجدها كأنني وقعت علي كنز: أقرأ الوصفات الطبية علي «الروشتات» لو كانت بها ترجمة للعربية، كذلك محتويات العصائر المكتوبة بالعربية علي كرتونة العصير أو المكتوبة علي أي منتجات أخري. العين كانت ظمأي لأي حرف عربي.
كنت أفلّي جريدة القدس العربي من أولها لآخرها، قارئا ومُطّلعا علي كل موادها، وطبعا كنت أسعد كثيرا حين أجد قصة لي منشورة في صفحة الأدب وقد زينتها بعض الرسوم أو التخطيطات لفناني الجريدة.
صديقي الجميل أمجد
أنت الحاضر هنا وأنا أكتب عن نفسي وعن فيينا وعن القدس العربي وعن الطباعة علي الآلة الكاتبة، لكنك كنتَ المحفز والداعم لكي أستمر في كتابة منتظمة، وأن أنشر فيما بعد مجموعتي القصصية الأولي المعنونة ب (الجمل لا يقف خلف إشارة حمراء) وبها إحدي عشرة قصة من ضمن أربع وعشرين نشرت مسبقا في جريدة القدس العربي، التي كنت أنت يا يحيي مسئولا عن تحرير صفحاتها الثقافية، تلك الصفحات المميزة، التي عرفنا من خلالها الكثير من الأسماء من كل الدول العربية ومن المهاجر النائية، وتعارفنا بفضل الجريدة وتواصلنا واجتمعنا علي صحيفة لها صوت بارز ومصداقية عالية واحترام كبير، وعليها أيضا منعٌ وتخوُّفٌ ومصادرة في بعض الدول المرتعشة.
مقالاتك يا صديقي كانت صادقة ولماحة، كنتَ مُقِلا في نشرها في القدس العربي، ونحن نتمني المزيد لكننا نعرف إيثارك للأصدقاء؛ فكنت رابئا وهذه شيمتك.
قبل أيام قليلة كاتبتك بهذه السطور –أدناه- أيضا من فيينا، وبين أول رسالة في عام 1991 ورسالتي أدناه مر أكثر من ربع قرن يا صديقي وكأنها أربعة أسابيع.
ما زلت أنت الصديق الشاعر العزيز النادر، صاحب المسئولية الثقافية الصادقة، وأُذَكِّرك أن فيينا ترسل لك تحياتها وما زالت تنتظرك!
في انتظار ردك الجميل يا أمجد
كن بخير دوما يا صديقي روحا وقلبا وجسدا!
طارق الطيب، فيينا 19-5-2019
وإليك قصاصة كتابتي لك قبل أربعة أيام
ومحبتي تسبقها
أتعرف يا أمجد (ناصر)
أراك تنظر إلينا كأمٍّ تقف في مطبخها
تنقل قدميها في مساحة ضيقة
تتأمل صغارها في الخارج
من خلف زجاج
يتصايحون
يختلفون
يضحكون أو يبكون
وفي همِّها بِهم
تجرح إصبعها
تلعق الدم بغريزة الأرض
وعيناها لا تفارقهم
نحن الأطفال الجوعي
خلف مطبخ لا ندخله
إلا بإيعاز المعدة
لا تكمل وجبتنا يا أمجد
أطِل وقوفَك
وابعد السكين عن كفك
وتأملنا
طارق الطيب
فيينا، 2019
خُذْ هذا الخاتم
عبد المنعم رمضان
نحن الآن فيما قبل العام 1990م، حيث كنت صاحب ديوان صغير نشرتْه نشرا بائسا محدودا في 1980م جماعة أصوات، وفي خمسمائة نسخة، وعندما، في أزمنة تالية، حننتُ إليه، لم أقبل نشر أغلبه، لأنه كان أرعن مثل صرخة، أرعن مثل جسر للعبور نحو الشعر، أرعن مثل حرب ضد الآخرين، أرعن مثل حرب ضدي، ولأنه... لأنه كان أرعن مثلي، نحن الآن في قلب العام 1990م، حيث كنت طوال عشرة أعوام سابقة علي الأقل، أحاول الغناء، أحاول سرقة إيقاع زمني تمهيدا لسرقة إيقاعات الأزمنة، أحاول مطاردة قصائدي قبل مطاردة قصائد أقراني من دعاة الحداثة في الأقاليم كلها، ففي لبنان طاردت وديع سعادة وعباس بيضون ورشيد الضعيف ومحمد العبد الله وسليم بركات، أعرف أنه سوري، وفي سوريا طاردت نزيه أبو عفش ومنذر مصري ونوري الجراح ولينا الطيبي، أعرف أنها امرأة، وفي البحرين طاردت قاسم حداد، نعم طاردته وحده، وفي المغرب كان محمد بنيس والمهدي أخريف وعبد اللطيف اللعبي، أعرف أنه يكتب بالفرنسية، وأنني أقرأ بالعربية، لكنه أخي الأكبر، أخي الذي له حق أن أنتظره رغم طول غيابه، وفي العراق عبد القادر الجنابي وسركون بولص، وفي فلسطين والأردن زكريا محمد وأمجد ناصر، نعم زكريا محمد وأمجد ناصر، اللذين أريد أن أهمس لهما، لماذا كان أغلب شعراء جيلنا وفق ذاكرتي ذكورا؟ وأريد أن أسألهما متي أراكما؟ إننا إذن فيما قبل العام 1990م، حيث كنت طوال أكثر من عقد سابق، أطالع كتبا تشبه أحلامي، فأقرأها كأنها لسواي، وأدّعيها كأنها لي، هكذا قرأت منذ جلعاد كان يصعد الجبل، هكذا قرأت رعاة العزلة، هكذا قرأت وصول الغرباء، هكذا أيضا قرأت جسدي يخذلني وهذا ليس جديدا، الحصار محكم وأنا لا أستطيع أن أترك جسدي هنا، لا أستطيع أن أبقي واقفا علي قدمي، حتي الشجرة لا تفعل، إلخ إلخ، وهكذا أنوي بعد قليل أن أضع قلبي علي الكتب الثلاثة، خبط الأجنحة، خذ هذا الخاتم، وفي بلاد ماركيز، ليتها تكون كتب رحلات، ليت أحدها يخفي داخله قصر البتراء، إننا إذن فيما قبل العام 1990م، أظننا كنّا أكثر صخبا لأننا غاضبون دائما، أظننا كنّا أعداء أنفسنا، لأننا سنتغير ونغيّر، لأننا سنقدر ونستطيع، لأننا سنقف دائما علي الحافة، لأن شعرنا كما زعم كائن الحداثة في معبد لندن هو شعر اللحظة الراهنة، فعبد الصبور وأدونيس ودرويش بحسب كمال أبو ديب يملكون وعيا تاريخيا، وأحد مكونات مشروعهم الحداثي إعادة صهر التاريخ وصياغته ضمن مسرد كلي جديد، فيما ينتسج، نعم ينتسج، شعر اللحظة الراهنة خارج فضاء التاريخ، أو مشيحا عنه، وهكذا أصبحنا فجأة في قلب العام 1990م، الذي فيه كنت ضمن آخرين من شعراء جيلي علي مشارف الأربعين، والذي فيه كان مؤتمر الشعر العربي برعاية جابر عصفور ورئاسة عبد القادر القط، والذي فيه قابلت لأول مرة أمجد ناصر، ولم أسأله قط هل أنت فلسطيني أم أردني، رغم شغفي بالإجابة، واكتفيت بأنني لم أصل إلي إجابة حتي الآن، والآن سأعترف، رغم خجلي من الاعتراف، بأنني أحببت دائما الهاشميين كراهة فيمن أخرجوهم من ديارهم، من الحجاز، لكنني عندما في بيت جابر عصفور حشدنا حناجرنا بالأصوات العالية، وزعمنا أننا نغني، كان عباس بيضون علي سجيته، وكان أمجد ناصر علي سجاياه، ساعتها أدركت محبتي للاثنين، ثم أدركت ثانية محبتي لأمجد، عندما في بيت حلمي سالم رأيته يبكي، جراء ما زعمه الدغيم، شخص مجهول اسمه ربما: محمود سيد الدغيم، وربما: محمد السيد الدغيم، بأن والد أمجد كان ضمن قتلة وصفي التل رئيس وزراء أردن الملك حسين، أيام انعقاد مؤتمر القمة العربي بالقاهرة 1970م، وبعده بأقل من أيام ذهب عبد الناصر إلي آخرته، في بيت حلمي سنة 1990م كانت دموع أمجد تشبه دموع أمي، ولصفائها كانت خاتمة لهزل أصررنا علي استبعاده من ذاكرتنا، أصررنا علي استبعاد اسم الدغيم، خاصة أن موت علي شلش المفاجئ صرفنا إلي حزنٍ حقٍّ لم يحاول أمجد أن يستره، ولم نحاول نحن، فبكيناه جميعا، في سنة 1990م، في الأيام ذاتها، في القاهرة ذاتها، كان أحد ضيوف المؤتمر كمال أبو ديب، القادم من لندن مثله مثل أمجد، ومثل علي شلش، كان يتمضمض ثلاث مرات قبل أن يقطف من شعرنا فاكهته المحرمة ليصنع منها قائمة النماذج التي يضج بها شعر اللحظة الراهنة، شعرنا، نموذج شعر الصفاء اللغوي والفقرة الإيقاعية المسبوكة بعناية والقلق الميتافيزيقي وأحيانا الوجد والوصال الصوفي ويمثله أحمد طه وعبد المنعم رمضان وآخرون، نموذج شعر الماضي الشخصي وإعادة ابتكار الماضي ويمثله أمجد ناصر وحده، نموذج شعر اللقطة، نموذج شعر الفتلة الختامية، نموذج شعر الكركبة اللغوية والمعاظلة التركيبية، نموذج شعر الجسد ويمثله أمجد ناصر وعبد المنعم رمضان وآخرون، نموذج شعر الفضاء المتقلص المنكمش المنحسر باستمرار وتمثله المرحلة كلها، نموذج شعر الذات المعاينة بحياد يتوهج أحيانا توهج المطفأ ويمثله كثيرون وكثيرات، إلي أن بلغ عدد النماذج سبعة وعشرين نموذجا، وكلها تفضي إلي أن هذا الشعر، شعرنا، لا رائحة له، لا مكان له، وإلي أنه شعر يُكتب عن الجسد، ولا نشم رائحة جسد حقيقي، ويكتب عن الموت، ولا نري سوي فكر تجريبي عن الموت، دون روائح الموت، وعن الأرض، فلا نشم ترابا، وعن الوطن، فإذاه خريطة معقمة، وعن اللغة، فإذاها تجريدات، إنه في الخاتمة شعر بلا مكان، صاحبه عابر كأنه طيف، في 1990م تحولتْ فتلة كمال أبو ديب إلي حبال تتدلي من ألسنتنا جميعا، وعندما ذات مرة رأيت مشهدا يجمع الشاعر أمجد ناصر والممثل خالد النبوي، وهما يمشيان كصديقين، أسِفتُ لأن عينيْ كمال لم ترهما، ربما كان ذلك المشهد سيلهمه النموذج الثامن والعشرين من نماذج شعر اللحظة الراهنة، عموما في المؤتمر تحولت فتلة كمال أبو ديب إلي طرفة نتندر بها ونسمع بسببها ضحكة أمجد ناصر الصافية، فيما بعد 1990م سيروي حلمي سالم شفاهة وكتابة عن سعدي يوسف وعدلي فخري وزين العابدين فؤاد وأمل بيضون وأمجد ناصر وآخرين جمعهم حصار بيروت، ولمّا ستجمعنا الأسفار أنا وأمجد سأراه بوضوح أكثر، في برلين زاملنا أدونيسَ ودرويش وعباس بيضون وأمل جبوري ولميعة عباس عمارة ومؤيد الراوي، وبينهم جميعا سوف أري حماسته الفائقة، حماسة أمجد، للتعبير عن أفكاره، وفي باريس المرة الأولي خاصم حجازي بسبب فجاجته، فجاجة حجازي، وإصراره علي التعليق في أثناء قراءة أمجد لقصائده، وفي باريس الثانية صادمني درويش بسبب مقالتي (كيف كتب المازني مقالته الأخيرة عن محمود درويش)، وفيها أيضا اعتزلنا جميعا شوقي أبو شقرا، اعتزلنا ليكتفي بمجالسة زوجته الست حلوة، وله حق، وفي المنامة كنا معا ضيفين علي قاسم حداد، في السفرات كلها اكتشفت أن أمجد صاحب نجم مكشوف، قليله يدل علي كثيره، وأن ثروته علي مائدته، وأن وجهه مرآة داخله، هكذا هكذا إلي أن جمعتنا جريدة القدس، طوال زمن حسني مبارك، هو يعمل بها، وأنا أرسل بشكل غير منتظم مقالات، أحيانا باسمي، وأحيانا باسم مستعار، كنت عبد المنعم رمضان، وكنت الحسن حاج مصطفي، والغريب أنني ومنذ زمن طويل أحسب أن أمجد ناصر اسم مستعار، بينما سقط من رأسي الاسم الحقيقي، هناك اسم آخر ينبش في ذاكرتي، لعله يحيي، وهكذا سيشاغلني ثانية السؤال الذي لا أعرف له أهمية، هل أمجد ناصر فلسطيني أم أردني، وهل نادته أمه يا أمجد، أم نادته يا يحيي، مثلما أدونيس الذي أعلم أن أمه نادته يا علي، عموما فتاتي التي سمعت مني بعض شعر أمجد، ورأت بعض صوره، أوصتني أن أكف عن السؤالين، أوصتني أن أنقل عنها قولها شاعر جميل، ورجل وسيم وجذاب، وأنها تريد أن تستكمل قراءة سُرّ من رآك، الفتاة فوجئت بأنني لم تسخن أذني، وأن حبي لأمجد غلب غيرتي، الفتاة ذاتها تخابثت واستمرأت الكلام عن أمجد، وفجأة سألتني عن قصر البتراء، ففتشت مكتبتي حتي عثرت علي ما كتبه الطاهر بن جلون وعبد الوهاب المؤدِب وجمال أبو حمدان وأدونيس وجبرا إبراهيم جبرا وعبد السلام العجيلي وجمال الغيطاني ونبيل نعوم، يا هواي عليك يا نبيل، لكنني آثرت أن أعِدها بكتاب خذ هذا الخاتم، ورجوتها أن تنشد بصوت عال، من وضعَ يدًا علي صابونة الركبة، من غطَّي إصبعا في السُرّة، واشتمّ سرًا، سُرّ من رآكِ، وعندما تصمت الفتاة، تخايلني دموع أمجد ونشيجه العالي، ثم يخايلني ضحكه وقهقته الخافتة، كأننا معا في قاربه النشوان، مما سيدفعني إلي أن أفكر في سؤاله عما أغراه بكتابة رواية، خاصة أن شعره ليس شعر سرد حكائي، خاصة أن روحه ليست روح سرد حكائي، فإذا لم يُجب، سأسأله ثانية عما أغراه وهو البدوي الحاد بالإقامة الطويلة في قلب الغرب، فإذا جاءت الإجابة خليطا مشوشا من السياسة والتعب، سأصمت عنها، لكنني قد أستكمل المعرفة إذا كانت الإجابة تدل علي شعوره العدائي تجاه جمهور عربي يقرأ له، وشعوره المغاير بالتواصل والغبطة وهو يقرأ لجمهور فرنسي، كما أورد كمال أبو ديب دون أن يقصد الزراية، بل إنه، أي كمال، خمّن السر وراء هذا التفضيل، بأن الجمهور العربي يتلقي شعر أمجد، واضعا إياه بصورة آلية فورية في سياق الشعرية العربية، أما الجمهور الفرنسي فيتلقاه عاريا من أي سياق تاريخي إبداعي، يتلقاه بعذريةِ ما لا يُقارن، وبمتعة منْ يري غير المألوف، انتهي كلام أبو ديب، الكلام الذي سيجعلني مثل شخص أصابه المسُّ لحد أنني سأسأل أمجد ثلاثا، يا أمجد، هل اغتربت أم تغرّبت، هل اغتربت أم تغرّبت، هل اغتربت أم تغرّبت، لأنني رأيت دائما أن شعرك له مكان هنا، وأن إقامتك الطويلة هناك لم تمحُ حضور مكانك هنا، فالصوت في لغتك مكان، والجسد في لغتك مكان، والحنين الدائم في لغتك مكان، عند ذاك أحسب أن كمال أبو ديب سيوقفني ويستدرك: اسمعني، أنا الكاهن في معبد لندن، إن شعر أمجد ناصر أحد التجليات الأعمق أهمية لروح المرحلة وإيقاعها وهواجسها وهمومها وتقنياتها ولغاتها ولأشكالها وإشكاليتها ولإخفاقاتها ونقاط امتيازها في آن واحد، سُرّ من رآهما، مدملجين، مثمرًا أعلاهما، سُرّ من قرّباه، ولثمَ غبار الطّلع، امرأتَنا كلنا، وُلدتِ بهاتين العينين لتبصري غيرنا، متكئين يدنو لهم حفيف، وتنفلق ثمرات، غرباء بينهم، نرتقي أدراجا، إلي حيث يلعب هواؤكِ بالرؤوس، وتتكسر نصال علي المرمر، بالنمش الذي تتركينه علي بدني، أغدو جميلا، تحت قمر الحسد، سُرّ من رآكِ.
في معني البسالة والإباء
عزت القمحاوي
كانت هدية أمجد لهند منذ نحو سبع سنوات، دليلاً
جديدًا علي مغادرته البداوة؛ ففي البداوة الحقة
يستبدل الرجلُ المرأةَ، ولا يهديها قطعة من لحمه
خُضنا في الحديث شرقًا وغربًا: ثقافة، سياسة، وحضارة. من ابن خلدون إلي نصر حامد أبوزيد، ثم توقف أمجد ليصنع انعطافة مفاجئة:
تعرف يا عزت أننا نحتقركم؟
ابتسمت بدهشة، لأن معرفتي بالأمر كانت ناقصة حتي تلك اللحظة، إذ كنت أراه من الزاوية المعاكسة؛ فقال مؤكدًا:
صدقًا؛ نحن نري الفلاح شخصية خانعة، يشقي ستة أشهر في الاعتناء بزرعة، بينما يأتي البدوي ويخطف المحصول في ساعة!
الفلاح يري الخطف عارًا والبدوي يراه فروسية، والاحتقار متبادل، ولم يفتح أمجد الباب إلا علي سبيل السخرية، من كل العصبيات الضيقة التي يجب التخلي عنها كشرط أساسي لصناعة المستقبل.
غادر أمجد بدويته وجغرافيته الأردنية مبكرًا جدًا. ظهر هذا في اختياراته السياسية، في نصه، في علاقته بالحياة، وفي علاقته بالمرأة خصوصًا؛ في كل التفاصيل. لكنه لم يتخل عن التطرف حتي في العاطفة، ولم تتخل عنه شجاعة خوض المعارك الخاسرة سلفًا، بما فيها منازلته الأخيرة الأبية للموت.
أكتب الآن صفة «الأبية» عامدًا؛ تلك الكلمة التي أصابها الصدأ في المعارك الوطنية المزيفة علي مر السنين؛ حتي فقدت معناها.
أعاد أمجد جلاء معني الإباء والبسالة، وهو يطلب من ذلك الغامض أن يكشف عن نفسه وينازله رجلاً لرجل:
ما أنت؟
ما مشكلتك معي
إن كنت رجلاً اخرج إليَّ من مكمنك
تعال نلتقي في أي جبَّانة تريد
وجهاً لوجهٍ
لسوف ألقنك مواثيق الرجال
كما لقنتني إياها الصحراء والغدران الجافَّة
منذ أشهر، عرفت أنه في محنة تتعلق بتطور مقلق يخص هند رفيقة عمره. وكان منذ سنوات طوال يتردد بصحبتها علي المستشفي ثلاث مرات في الأسبوع من أجل الغسيل الكليوي. البسالة في الوفاء نفسها عايشتها في صديق آخر هو طلعت الشايب مع قرينة عمره.
هاتفت أمجد للاطمئنان، قال: «كليتي اللعينة تسرطنت في جسمها». في نبرته لوم كأنه يُحمَّل نفسه ذنب إهدائها كلية ملغومة. كانت هدية أمجد لهند منذ نحو سبع سنوات، دليلاً جديدًا علي مغادرته البداوة؛ ففي البداوة الحقة يستبدل الرجلُ المرأةَ، ولا يهديها قطعة من لحمه ولا يعيش مرضها كأنه مرضه.
وكنت أظن أن أمجد أخذ حصته من الألم في مرض رفيقته، وأنه آخر من تليق به تلك المعاملة القاسية من الحياة؛ القسوة القصوي، التي تجعل روحه حارسة لجسدين معطوبين. وكنت أتصور أن الحياة ملزمة بمعاملة أحبابها المخلصين برفق.
هذا تصور ساذج بالطبع، لم أتخل عنه، رغم تكرار الحالات التي صدت فيها الحياة أحبابها بخشونة غير لائقة.
في قلب انهماكه في محاصرة سرطان كليته في الجسد المجاور، أعلن ورم آخر عن نفسه في مخه هو، يافعًا معربدًا، ويبدو أنه أعطي إشارات في صداع متكرر لم يوله أمجد اعتبارًا. ظل واقفًا حتي سقط علي الأرض فانكشف ما أسماه «الودة». حاولت علي الهاتف أن أداري الصدمة، قلت كلامًا من قبيل إن ورم المخ هو الأقل خطورة، عددت له معارف استأصلوا الورم وعاشوا طويلاً. قال بتسليم «سنري».
لكن الآخر، واصل التسلل وإحراز الأهداف، وسريعًا واجه الأطباء أمجد بنتيجة المباراة!
ما من كائن إلا ويمضي في طريقه نحو الموت من لحظة صرخة الميلاد. والمدي معروف بالتقريب، فيما يُسمي ب «متوسط الأعمار» للبشر ولكل نوع من الكائنات والزروع والأشجار، لكن وضع توقيت محدد شيء آخر. هذه القسوة يواجهها ملايين البشر، كنتيجة لأمراض ميؤوس منها أو أحكام إعدام.
لا يعرف الأصحاء، أو من يظنون أنفسهم كذلك، ما يشعر به كل واحد من الملايين الذين ينظرون في عين الموت. ماذا يقولون له، وكيف يرون العالم من حولهم؟ كيف ينظرون إلي بستان، كيف هو طعم الشاي، كيف يتلقون خبرًا عن جولة مفاوضات في نشرة أخبار، أو استعدادات عرس في العائلة، كيف يرون تفجيرًا انتحاريًا قام به شخص صحيح الجسد ليحصد أجسادًا أخري سليمة!
وحدهم المبدعون يبوحون بمشاعرهم تحت وطأة الهول المطلق لموت حدد الأطباء أو القضاة ساعته. وليس كل المبدعين من يملك القدرة علي ذلك. في ثقافتنا يحضرني الآن أمل دنقل، وسعد الله ونوس. لكن الذي قفز إلي ذهني في محنة أمجد كان دوستويفسكي، ربما لأن ما كتبه أمل وسعد الله كان أقرب إلي التسليم الصوفي، لكن ما أظهرة أمجد البدوي ليس سوي الغضب الذي رأيته عند دوستويفسكي.
لم يكتف الكاتب الأعظم ب «ذكريات من منزل الأشباح» قصاصًا من سلب الحرية الذي يعانيه السجين كما يعانيه المريض، الكتاب الذي أبكي حتي القيصر، بل عاد في كتابات أخري ليشدد علي قسوة عقوبة الإعدام التي أُعفي من تنفيذها بعد أن وقف في طابور الإعدام، حيث جاء فارس من البعيد يحمل مرسومًا من القيصر بتخفيف الحكم، لكن هول المواجهة مع الموت لم يغادره إلا مع روحه.
وقد كتب دوستويفسكي بعد إعفائه من هذا الحكم أعماله الكبيرة الخالدة، وربما كانت بسبب هذه التحديقة في عين الموت. محاكمة ديمتري كارامازوف هي المحاكمة الأكثر توترًا في تاريخ الكتابة. المتهم نفسه ومحبوه وحتي محاميه، كلهم يهذون أمام المحكمة بما ينفعه وما يضره علي السواء!
وفي رواية «الأبله» نري الأمير ميشكين في القطار عائدًا من رحلة علاجه في سويسرا، وأول حوار يجريه مع شخص بعد مغادرة القطار كان حول قسوة عقوبة الإعدام مع خادم أسرة الجنرال أيبانتشن لحظة وصوله إلي بيتهم.
لا علاقة لعقوبة الإعدام مع موضوع الرواية، ولا مع شخصية الأبله الشاب، الذي لم يمنعه عدم المعرفة المسبقة للخادم ولا الفارق الاجتماعي من التباسط معه حول قسوة حكم الإعدام.
وعلي مدار الرواية يعود إلي الترافع في القضية ثلاث مرات، ولا يمكن لنا أن نري علاقة السياق بهذه المرافعات أو علاقتها بشخصية الأبله، لكنه احتراق صانع الشخصية!
في حدود علمي، أظن أن دوستويفسكي أول مناهض لحكم الإعدام، وقد أسس حكمه لا بدافع عاطفي بسبب مروره بالتجربة، بل بدافع عقلاني، فهو يعتبره عقوبة تفوق الجرم، حتي لو كان المحكوم عليه مدانًا بالقتل.
علي لسان الأمير ميشكين، يري دوستويفسكي أن المجني عليه في جريمة القتل يكون معلقًا بأمل النجاة أو مشغولاً عن الهول بالدفاع عن نفسه، لكن المحكوم يقبع ضعيفًا عاجزًا في زنزانته تُفزعه كل حركة بالجوار.
وما السرطان غير هذا الفزع، غير هذا السلب للحرية. تضيق الدنيا لتصبح زنزانة، وما من أمل في الفرار، وما من قدرة علي المساعدة من المحبين مهما كان عددهم.
وأمجد لم يفزع، لكن أغضبه سلوك الغيلة المنافي لأخلاق الفرسان، يبنما تخايله سعادات يعرف أن بوسعه عيشها، ونصوص تريده أن يُكملها.
أفكر في الصديق الذي لم يحتفظ من البداوة إلا بأجمل ما فيها، بينما يحملني الغضب علي الشك في جدوي نصوص نكتبها أو لحظات سعادة عابرة نعيشها ثم نفقدها.
ما الذي سيأخذه فلاح يزرع أو بدوي يخطف؟!
أتساءل؛ حقيقة لكننا لا نفهم أنفسنا، ربما هو غضب المحبين ليس أكثر، فكلي أمل في رسول ينطلق علي ظهر حصان، ملوحًا بمرسوم تخفيف الحكم علي أمجد.
كلي أمل في أن يأخذ فرصته كاملة للقصاص من صاحب الوجه المُقنَّع كما أخذها دوستويفسكي.
«أمجد» الذي حمل «يحيي»
غسان زقطان
في يومياته تتضح تلك العفوية العميقة الخالية
من التباهي التي ترافق تجربة الشاعر والسارد
التقيت «يحيي النميري»، الذي سيصبح بعد سنوات «أمجد ناصر» في عمان منتصف السبعينيات، كان قادما من المفرق وهو يحمل بداوته كاملة وريبته الفطرية بنوايا المدن، وكنت قادما من مخيم الكرامة علي الضفة الشرقية لنهر الأردن بالحمولة التي توفرها مخيمات اللاجئين الممتلئة بالشكوك والتحفظ علي عدالة المجتمعات «المستقرة»، وكانت العاصمة في حينه أشبه ب«نداّهة» يوسف إدريس.
لعل تلك الدهشة أمام المدينة التي توارت فيما بعد، هي المكون الأعمق لتجربته الشعرية المدهشة المتصاعدة. التكوين الغريب الذي شكل تجربة «أمجد» منحه بقوة تلك السمة الخاصة، والتي تبدو مثل بصمة لا يمكن تقليدها أو تكرارها، أقصد التمازج المبدع بين النشأة بتقشفها سواء في مشهدياتها التي تغلب عليها العناصر القليلة لطبيعة البادية، ما يسمح للمتأمل أن يحدق في كل شجرة علي حدة، والسعي في مدن الآخرين بلا أباليتها وما انطوت عليه من تجاهل وقسوة، وهو ما فعله أمجد في مشروعه الشعري المستمر إلي الآن والذي عمقه في جهده السردي اللاحق.
تكمن الوصفة في التداخل العميق بين ذاكرة الفتي «يحيي» واندفاعاته وشغفه في تنقله مع عائلة الأب العسكري، من المفرق والطرة والزرقاء، حتي وصوله الي عمان وجلوسه علي شرفة رابطة الكتاب الأردنيين بثقة المجادل وأفكاره المبنية علي هدم المتداول والسائد، كان في العشرين، وكان يمكن سماع نبرته الحادة ومعجمه المتمرد علي تلك الشرفة الحجرية في شارع «إبراهيم طوقان» في «جبل اللويبدة» غرب عمان، من الصالات الداخلية للرابطة حيث يواصل المؤسسون تكديس أفكار نقدية مدرسية، وإعادة إنتاج تعاليم متفق عليها للكتابة.
بين ذاكرة «يحيي» المتدفقة في نصوصه من الألفة والبيت والعائلة والقبيلة كبحيرة شكلتها الينابيع، وبصيرة «أمجد» التي تسعي في حواضر غريبة ومكتبات وحروب تلد حروبا، بني الشاعر كوكبه الخاص، ومن الألفة الأولي كون حداثته التي حفرت مجراها في المشهد العربي.
حمل «أمجد» «يحيي» في تلك الرحلة، كان يحيي حاضرا في كل جملة مما كتب وما سيكتب، لم يتخل عنه، كان يري بعينيه ويسعي في مخيلته، ذلك في نظري، أحد مصادر السحر في هذه التجربة.
لقد قمت بزج نفسي في مدخل هذه المقالة السريعة، ربما لأنني بحاجة إلي شاهد، ولهذا أيضا اقترحت علي العزيز حسن عبد الموجود، أن أضيف لها مقدمة كنت كتبتها لكتاب أمجد «بيروت صغيرة بحجم اليد»، وهو كتاب يوميات لافت عن «حصار بيروت» في صيف 1982، يوميات كنت شاهدا علي ولادتها في ذلك الصيف قبل أن نفترق، حيث غادرت مع السفن إلي اليمن وبقي أمجد في بيروت ليتوجه إلي دمشق.
في اليوميات التي كتبها «أمجد» تتضح بقوة تلك النواة التي حاولت الإشارة لها، العفوية العميقة الخالية من التباهي التي ترافق تجربة الشاعر والسارد، ولكنها تبدو أكثر وضوحا في يوميات عن الحرب، حيث لا مجاز أمام سعي العدو ورغبته في أن تموت.
المقدمة
قيمة هذه اليوميات يكمن في عدم ادعائها وفي احتفاظها بطاقة الوهلة الأولي، ليس هناك بحث عن بطولة ما، الأشخاص الذين يتجولون في اليوميات أبسط بكثير من حيلة البطولة وبلاغتها، وأكثر قربا من إنسانيتهم، حتي أولئك الذين سيقتلون فيما بعد في مدن بعيدة في صباحات صافية واصلوا حياتهم في اليوميات بحيوية من لا يعرف.
لم يحاول أمجد ناصر أن يعيد النظر في الحكاية، لم يضع هوامش أو تعليقات تعكس وعيا لاحقا، ببساطة قاسية احتفظ بالخوف والقلق وإشارات الندم الشخصي والحنين، ثمة نزاهة عميقة هنا منحت النص طاقة يصعب أن تجدها في نصوص مشابهة حاولت التصدي لذلك الصيف الذي يبدو بعيدا الآن.
الشاب الأردني ابن السابعة والعشرين، الشاعر المتمرد الذي وصل بيروت ذات صبيحة دون مخططات وبحقيبة كتف متقشفة، دون أن ينظر إلي الوراء حيث العائلة في المفرق تحدق مثل صورة بالأبيض والأسود في غرفة الابن البكر التي فرغت، هذا الشاب هو الذي كتب هذه اليوميات، وهو الذي حملها ثلاثين عاما في مدن لم يفكر يوما أنه سيصلها، قبل أن يفتح أوراقه ليجدها كما هي حية تتنفس.
لا يقترح أمجد ناصر، علي قارئه حلا أو إجابة، إنه يجلس ببساطة ويفرد أوراقا حميمة كتبها في لحظات نادرة بينما كان الموت يطوف حوله وينظر إليه عبر الزجاج، ثمة اعتذارات هنا تتلامح في الظلال وإحساس أبيض بالخسارة، خسارة غير واضحة ولكنها موجودة في مكان ما من الحياة التي سبقت انغلاق الحصار وسبقت الغارة الأولي، هناك عناد شخصي يكمن خلف كل هذا، مزيج من الأخلاق والثقة يصل علي نحو ما إلي تلك الغرفة الصغيرة في المفرق ويلمس القميص المكوي المعلق علي مسمار في الجدار كامتياز حبيب للابن البكر.
في عودته للأماكن الأولي في الجزء الثالث من الكتاب، تنفتح الخسارة علي نحو مؤلم وعميق، الخسارة العميقة للأمكنة التي رافقت أمجد في معظم كتاباته والتي رفدت إضافته للشعر العربي ومنحته تفرده ومكانته الخاصة.
هذه اليوميات تضع ذلك الصيف بين يدي القارئ بنزاهة شاب لا يخلو من مثالية وبراعة شاعر كبير أنضج تجربته وطورها حتي أصبح شريكا أساسيا في المشهد الشعري العربي، بالنسبة لي لقد أحببت أنني كنت هناك شاهدا علي كتابة اليوميات في ذلك الصيف، وشاهدا علي صدورها بعد ثلاثين سنة.
ولعلني في اعتراف متأخر أضيف إلي ذلك، أن سطوة تلك الحرب وقسوتها الاستثنائية التي تسللت إلي أرواحنا عبر الإحساس الصامت، غير المعلن، في وصول الأشياء إلي لا جدواها، لم تتمكن من الوصول إلي أمجد الذي حول كل ذلك إلي لحظة تأمل عميقة حركت الأثاث القديم ونفضت الغبار عن الحب والصداقة والأحلام التي خلنا أننا فقدناها بينما هي تنبض وتتنفس في العتمة.
يكتب كمن يصقل المرايا
قاسم حداد
1
أن تكون اللغة أوجُكُ الذي تشمخ به لكي تحسن اكتشاف الجمالات التي يتيحها لك شعر أمجد ناصر.
هذا ليس شرطاً، إنه رجاء.
هذه المرة، هنا بالذات، الآن، أكتشف السبب الغامض الذي يجعلني أحب نص أمجد، وأشعر بضرب من الاطمئنان فيما أقرأ قصيدته.
إنها اللغة.
غير مرة كنتُ أقول إنه، في ما أقرأ القصيدة العربية الجديدة، لا بد لها أن تقنعني بأنها مكتوبة باللغة العربية. فكيف ينبغي لي الشعور بالروح العربي إذا لم تتمكن القصيدة من اقتراح لغتها العربية الخاصة علي سليقة القارئ؟
اللغة العربية ليست حروفَ أبجديةٍ أو كلماتٍ منظومة ومصفوفة ومرتبة وحتي مموسقة أو موزونة فحسب. اللغة العربية هي الروح الشعري الغامض الذي يستعصي علي الوصف المباشر العقلاني القائم علي منطق قياس المادة وفيزياء الدلالات الملموسة. اللغة هي أن تشعر بأن النص قد ولد تواً من عبقريات الجمال الرهيف الذي صقلته تجربة الكتابة العربية وأثثته الروح العربية الطرية منذ الأزل. اللغة هي تلك العلاقات اللامرئية والمتوهجة بفعل تجربة العشق الكثيفة التي لا يطول كنهها إلا الشاعر وهو يصوغ بها تدفقات بوح روحه، فيما يمزجها بلحظته الذاتية المتناهية العمق والطفولة في آن.
هذا هو تحديداً ما أزعم أنه السبب الغامض الذي يجعلني أحب شعر أمجد ناصر. وبالطبع ليس ثمة حياد في مثل هذه التجربة. فمن بين ما لا يحصي من أقران أمجد ناصر من الشعراء الشباب، لا يوجد من يمكن مقارنة لغته بلغة أمجد بسهولة. لأن سواه سوف يتعرض غالباً، إلي ما أسميه إشكالية لغة الحياد في النص. وأعني بالحياد هنا هو ذلك التذبذب بين الروح العربي في اللغة والتفريط المبالغ فيه في جماليات اللغة العربية بوصفها طريقة تعبير وذائقة للشاعرية في النص. وهما شرطان أري إليهما في كونهما من الملامح التي تمنح الكتابة الشعرية العربية الجديدة طبيعتها الخاصة في مشهد الكتابة الشعرية في العالم.
ولست ممن يميلون إلي التفريط في مثل هذه الملامح، لأنني أشعر بأننا سنتعرض لخسارة فادحة عندما نتنازل عن هذه الجماليات الفاتنة التي تتيحها لنا اللغة العربية، في جذرها العبقري، وتمنحها لنا الطبيعة الإنسانية لهذه اللغة بوصفها من بين أبرز الخصوصيات التي تتجاوز حدود مفاهيم الهوية الضيقة، لتشكل العمق الكوني لما يسعي له الشعر في المطلق عبر حواره مع العالم.
وليس من الحكمة أن نكتب نصنا الشعري الجديد من غير أن نكترث بهذا التراث الكثيف من التجربة الجمالية التي اكتنزت بها اللغة العربية عبر المنعطفات الكبري في معطيات الكتابة الأدبية العربية، وخصوصاً عندما نتأمل المعني لهذه الثروة الغنية التي تمثلها لغة عمرها أكثر من أربعة آلاف سنة، لم تضعف أو تندثر أو تنصهر في غيرها، وعليه فهي حسب التاريخ الثقافي، أقدم لغة حية علي الإطلاق.
2
الآن وهنا تحديداً، يجوز لي القول إنّ هذا التداعي هو ما يفسّر علاقتي الحميمة بكتابة أمجد ناصر. وأظن أن أهمية التجربة الشعرية تكمن في قدرتها علي جعلنا ندرك العمق الإبداعي والمعرفي الذي تقترحه علينا، بوصفها القضية الأبعد من النص والقصيدة، والأكثر تغلغلاً في البنية الروحية لحياتنا.
ولكي لا نفلت من سطوة هذا التداعي، أتذكر أنني، غير مرة، كنت أقول، إزاء النص الشعري الجديد، إن أكثر ما يقلقني هو إحساسي بأنني في حضرة نص مترجم عن لغة غير عربية ومكتوبٍ بالعربية. وهذا هو الأمر الذي لم يكن يكترث به الكثيرون من الشعراء فيما يصوغون لغتهم لحظة الكتابة وبعدها. بل إن النقد الجديد لم يتوقف أمام هذه الظاهرة بالصراحة والجرأة الضروريتين، لئلا نبالغ في الزعم بأننا نكتب شعراً عربياً فيما نفرط في الماء السري لجماليات اللغة العربية. بل إن ما كان يصدمني حقاً أنني حضرت غير موقف سمعت فيه ما يشي بالزعم الواعي لعدم الاكتراث باللغة العربية وتجلياتها الخاصة وجمالياتها المائزة، لأن في ذلك الاكتراث حسب زعم الزاعمين، صنيعاً تقليدياً يصدر عن حساسية تراثية ويخضع لها. أكثر من هذا، سوف يزعق أحدهم ذات جلسة مصرحاً أنه لم يعد يحترم شروط اللغة العربية إلي درجة أنه (يدوس) بقدمه اللغة عندما يكتب. وقتئذ تأكد لي بأن ثمة مشكلة وشيكة الحدوث علينا الانتباه لها، إذ بأي شيء يمكنك أن تحسن التعبير في النص الأدبي إذا لم تكن تحترم لغتك وتحبها وتعشقها أيضاً؟
3
الآن وهنا، أستطيع التيقن من أن ما وضعني في مهب تجربة أمجد ناصر إلي درجة الهيام، هو هذا الأمر الذي استطاع هذا الشاعر أن يحققه لي لحظة قراءة شعره. ليس في وصفي قارئاً فقط، إنما باعتباري عاشقاً للغة العربية وشاعراً أيضاً وخصوصاً. فالشاعر الذي يحتفي بلغته ويفتح لها الآفاق الرحبة من جماليات مخيلته الشعرية من شأنه أن يمنحني أنا الشاعر المتضرع للغة كيما تسعف نصي، الثقة في النفس والتأكد بأن ثمة من يصقل لنا المرايا لكي نحسن الرؤية ونباهي بأننا ممن يفتحون أبواب الرؤيا للآخرين، مسلحين بقدر كبير من جذوة اللغة ولهبها الأصيل واللامتناهي.
هنا تكمن اللحظة السحرية في تجربة أمجد ناصر الشعرية. فأنت لا تقرأ نصاً مترجماً، ولا يذكرك شعره بلغة من خارج النص. ومن بين أقرانه سوف تلاحظ (إذا كنت قد أفلت من سطوة مقاربات لغة النص المترجم) جمال أن يكون الشعر الجديد مكتوباً بلغة عربية خالصة، دون أن يكون في هذا نزوع إلي تقليد يستلزم القدح، فليس نقيصة أن يكون الشاعر العربي محتفياً بلغته العربية، وإلا كيف لنا أن نميّز شعرنا عن شعر الآخرين، إذا ما تمّ التفريط في أهم خاصية من خواصه التعبيرية والبنيوية في حين أنها أداة تعبيره الأساسية؟ ثمة جماليات سيكون وبالاً علينا إذا نحن تفادينا حضورها البهي في كتابتنا الأدبية.
لكنّ أمجد ناصر، من غير أن يطرح علينا خطاب المباهاة اللغوية أو التنظيرية، وبسبب إخلاصه العفوي لتراثه الشخصي والجمعي الذي سوف يشكل جوهرة المراصد في مجمل تجربته، استطاع أن يجعلني أشعر بالاطمئنان بأن ثمة كائنات شعرية لا تزال قادرة علي منحي لحظة الثقة بأن بوصلتي لم تخطئ. وهذا هو الأهم في التجربة الشعرية؛ أن تقدر علي علاج المسافات الكونية بين التجارب الأدبية والتجارب الإنسانية. ففي المشهد الكوني، لن يكترث بنا الآخرون إن كنا نكتب مثلهم، ولن يفعلوا إلا إذا اكتشفوا أنّ لنا طريقة خاصة ومميزة لا تشبههم ولا تشبه أحداً سوانا، وخصوصاً إذا تعلق الأمر باللغة.
4
الآن..
تستطيع أن تفتح كتاب (سُر من رآك) و(مرتقي الأنفاس) أو (وردة الدانتيلا السوداء)، لتكتشف ما أردت الإشارة إليه، وتلاحظ أن بنية الجملة الشعرية عنده لا يمكن أن تكون صادرة إلا عن سليقة اللغة العربية أصلاً. كذلك، من شرفة الصورة الشعرية، فإنك ستلاحظ أن المخيلة الشعرية في النص لا يمكن إلا أن تكون مرتبطة باللغة العربية وجمالياتها. إذ ليس من غير دلالة الربط بين أداة التعبير وأسلوب الاشتغال المخيالي في الكتابة الشعرية، وإنْ كنا في حاجة دائماً إلي نقاد مختصين يضيئون لنا مثل هذه الجوانب المحورية في تجربة الكتابة الشعرية العربية الجديدة.
نُشر المقال في كتاب «ما أجملك أيها الذئب، جائع، وتتعفف عن الجثث» الصادر 2006 عن المؤسسة العربية للدرسات والنشر وأعاد قاسم حداد نشره في موقعه.
إلي أمجد ناصر
الذي لن يرضي مِنَ الغنيمة بالإياب!
محمود قرني
1
عندما قرأت سيرة شاعر الحداثة الأمريكية «والاس ستيفنز» تذكرت علي الفور «أمجد ناصر»، ذلك المراهق المحتد الذي لم تظهر عليه أية عوارض للحكمة رغم شيبته، كما يقول هو نفسه في إحدي قصائد ديوانه الفريد «حياة كسرد متقطع». موقع التشابه ليس في أن أمجد مثله مثل ستيفنز شاعرا فذا فحسب، بل هو أيضا يملك اعتدادا نادرا بذاته جعل منه شاعرا مُقدرا في الشعرية العربية الحديثة كما جعل من ستيفنز شاعرا مخيفا في الأوساط الأمريكية. فقد انتهت المقابلة الوحيدة لستيفنز مع إرنست هيمنجواي إلي التشابك بالأيدي عام 1936 وقد سبقها بمقابلة أقل حدة مع معاصره «روبرت فروست». «هيمنجواي» كان يصدر في أعماله الروائية عن إيمان بقشرية الواقع ولاجدواه لذلك كان يدافع طيلة الوقت عن تهتكه وعن تقشف لغته بينما كان ستيفنز برناسيا ليس فقط لأنه صاحب فلسفة لادينية بل لأنه يري الشعر غاية في ذاته. في المقابل كان أمجد ولا يزال من أبعد شعراء الحداثة عن الذاتية، مؤمن بالتركيب الشعري، مؤمن أيضا بتعقيدات العالم ولاجدواه في الوقت نفسه، من هنا تبدو لغته فريدة وسط شعراء جيله، كذلك تبدو جحيمية التخييل، لديه دافع مؤثر في تطوحاته بين التاريخ والفلسفة وأسطورية اللغة. ربما لذلك كانت تساؤلاته ممضة عن الشعراء الذين يسرفون في استخدامات اللغة التداولية النابعة بالأساس من الخصومة بين وظيفة الشعر كجوهر يحل بديلا للحياة نفسها وبين تحوله إلي عبادة اللاشيء عبر عبادته لذوات تفتقد الوجود بالأساس. أمجد ناصر قناص برتبة شاعر، فرادة صورته الشعرية وانفلاتها تذكرني بمقولة المصور الفرنسي «إدجار ديجا» إن «المصور يرسم اللوحة بنفس الشعور الذي يرتكب به المجرم جريمته». ولعل تلك الحرب التي خاضها طيف واسع من فناني الحداثة وما بعدها ضد النزعة الامتثالية جعلت لتلك اللغة القاسية مقبولية في أوساط العامة بدرجات متفاوتة. وأمجد الذي لايقل إجراما عن ديجا سيظل واحدا من هؤلاء القلقين من دون أن يعني ذلك تورطه في خصومات شعارية جوفاء مع الماضي.
2
الضجر الشعري لأمجد ناصر لم يكن في أية لحظة إلا تعبيرا عن هزيمة الشعر أمام أعطيات العصر الصناعي. الساردون الجدد احتلوا موقع الشعراء. فهم قادرون علي التسرية عن ساكني المخيمات والملاجئ وقتلي الحرب وملايين العمال أمام الماكينات. الساردون الجدد قادرون علي صناعة المشاهد الساحرة وتخفيض حالة التشيُّؤ التي تبدو لدي الساسة مقدمة لاضطرابات عظمي لا بد من السيطرة علي اعتمالها مبكرا وقبل الأوان. ربما لذلك بدا الساردون الجدد هم الأقدر علي تبادل المواقع مع السلطة والقيام ببعض مهامها. الشاعر ساخط عظيم علي كل هذا والمجتمع نفسه ينظر بسخط شديد إلي كل خلق جديد ومختلف، لكن السارد كما أنه أكثر واقعية هو أيضا الأكثر رومانسية لأنه كما يقول ياكبسون: «ذلك الرجل المحفلط الذي يقسم أن الوجود ليس به نساء دميمات». لقد سب المتنبي الزمن لأنه جعل منه شاعرا، وكان شديد الضجر بتلك المهمة، ربما لذلك كان واحدا من بين أقل الشعراء العرب إنتاجا، وليس غريبا أن يعيد تساؤله أبو الفوارس التميمي عندما يقول: «إلامَ يراك المجد في زي شاعر/ وقد نحلَتْ شوقا فروع المنابر»». إن وعي أمجد ناصر بوظيفته كشاعر كانت ثقيلة إلي أبعد حد، لأنه كان ينتظر من الشعر ما هو أكبر من طاقاته علي الاحتمال. أمجد ليس رومانسيا بطبيعة الحال لكنه مثل كل الشعراء الكبار يري الشعر يناضل لإرغام العدم علي إنجاب الوجود كما يقول أرشيبالد ماكليش، ولعمري هي مهمة تبدو أشبه بنكات زمننا الشحيح. أمجد نفسه أول من أدرك تلك الحقيقة لذلك كان أكثر المتهكمين في شعره، بل هو أكثر المتهكمين من حياته. لم يعبأ بشيء ولم يكن عبدا لشيء. كان حرا ولا يزال.
3
اليوم وأنا أحاول تحري الصدق عندما أكتب عن أمجد ناصر في محنته، أتساءل عن ذلك الغبار الذي يفصل بين بقائي علي قيد الحياة بثلة من الأمراض وبين أمجد الذي يقيم علي مبعدة تقدر بمئات الأميال بينما يعاني صواعق دماغية بفعل المرض. الغبار هنا ليس هو الدليل الباقي علي أن ثمة شاعرا يسكن في البعيد بينما يتأسف علي أنه ذات يوم سيكون مضطرا إلي أن يقبل بالطبقة السادسة التي قرر أفلاطون أن تكون منزلا للشعراء في جمهوريته. هنا فقط سيصبح ضجر أمجد ناصر في محله وكأنه يستعيد قول امرؤ القيس «لقد طوفت في الآفاق حتي رضيت من الغنيمة بالإياب». هو نفسه يري مولده عاما من أعوام الفاقة عندما يقول «وصل عام 1955 فعالجوه بالفاقة/ وبين أترابه قاده ضوء بارد إلي ما رأته عيناه». ضجر أمجد من الشعر دفعه إلي أن يبدأ حياة سردية مغايرة بداية من كتابه «فرصة ثانية». وهو نص يخرج من وعي البداوة الصارخ، باحثا في أشد مفرداتها خصوصية وكأنه يتنكب أسرار بقاء السلالة وإعادة استنباتها عبر لغة تشف أحيانا وتغور في كثير من الأحايين. يعيد أمجد طرح سؤال الشعر في مواجهة اللغة. ففيما تبدو اللغة – للوهلة الأولي - كعلم لدني، إلا أنها تحطم قوي النظام ولا تأبه به، فتتحول من كونها هيكلا مقدسا وكهنوتيا إلي ملكية يتشارك فيها كل صناعها، وهو ما يحول اللغة من أسطورة شخصية إلي أسطورة صنعتها التداولية العامة. لقد كان ولا يزال أمجد ناصر يتأسي بجعل ابتكاراته قابلة للشم واللمس والسمع كما كان يقول رامبو لصديقه بول دوميني، إنه باختصار باحث عن لغة لم تلوثها العادة.
4
قبل أكثر من عشر سنوات كتب الشاعر «أمجد ناصر» مقالا تحت عنوان «الشعر والمرض» بدأه من قصيدة المتنبي التي ينعي فيها مرضه بالحمي، وهي القصيدة التي يقول في مطلعها: «مَلُومُكُمَا يجل عن الملامر ووقع فعاله فوق الكلام». بدا أمجد شديد الاعتزاز بموقف المتنبي في تعاليه علي المرض، وإن رأي في موقفه الكثير من التَنَفُّج، وهي المفردة التي يحب أمجد استخدامها تعبيرا عن الإسراف في تعظيم الذات، حيث يري أن المتنبي «لا يوكل للزمان مهمة سوي رواية قصائده». سيزداد الأمر جلاء عندما يتناول أمجد حالة سعد الله ونوس. فأكثر الأشياء التي تركت أثرا في نفسه كانت تلك «النظرات المودعة، والمشفقة»، التي تشايعه مع كل التفاتة. وعندما وقع هذا المقال ثانية في يدي، أدركت لماذا لا يرد أمجد علي مهاتفات أصدقائه، ولماذا لا يستجيب لأي نوع من التواصل معهم. فأمجد، البدوي المعشر والمحتد، بين أكثر من عاشرت اعتدادا بذاته، وإذا كان البعض يعير ذلك إلي طبيعته القبلية، إلا أنني دائما كنت أراه حصيلة لتعففه وشرفه واعتصامه بمنظومة من القيم الرفيعة التي كانت تتكاثر مع كل محنة، وكل انعطافة. وقد جاورت أمجد أكثر من ثلاثة عشر عاما في جريدة القدس العربي لم ينشر فيها مرة واحدة مقالا عن أعماله رغم كثرة ما كان يرده من مقالات، ولم أر ولم أسمع يوما أنه استغل موقعه بأي صورة من صور الاستغلال، علي كثرة ما رأيت من هذا الغثاء طيلة حياتي المهنية، كما لم يشُب سلوكه أي تواطئ من أي نوع مع أية مؤسسة أو مثقف أو ناقد في العالم العربي. وقد وصلته عشرات الشكاوي من المتابعات التي كنت أبعث بها إلي الجريدة من القاهرة حيث كان يتم تفسيرها باعتبارها طعنا في بعض رؤساء الهيئات أو كبار المثقفين، فكان ينشرها دون أن يحذف حرفا واحدا. المرات النادرة التي فعل فيها ذلك كانت لأسباب مهنية محضة. وأستطيع القول، دون إسراف، أن ما فعله أمجد من أجلي خلال تلك السنوات أكبر من اللغة. أذكر أنني تعرضت للفصل من الجريدة حوالي ثلاث مرات، كانت كلها تقريبا وشايات، ما دفع أمجد في المرة الأخيرة إلي أن يرهن رحيلي عن الجريدة برحيله، بينما كنت مجرد محرر في مكتب القاهرة وهو مدير للتحرير في لندن. هذا ربما كان السبب المباشر الذي جعلني أقول له عندما أبلغني برحيله عن الجريدة أنني لن أمكث يوما واحدا بها، وقد حدث بالفعل أن قدمت استقالتي في نهاية العام 2013 رغم نصيحة أمجد لي بالبقاء.
5
وأخيرا فأنا لست في حاجة لأن أعود أمجد أو أراه علي حالته تلك رغم علمي بأنه يمكنه العيش لعشرين سنة قادمة، فقد تعلمت تلك القسوة من مشهد تكرر أمامي مرات ومرات. فقد كان أصدق أصدقاء أبي يرفض تماما رؤيته في مرضه. كان يأتي يوميا إلي البيت يسأل عما آلت إليه حالته، لكنه كان يرفض، بقطعية أدهشتني، دخول غرفة أبي. رأيت في ذلك بعض القسوة غير المفهومة. ولم أفهم كيف يمكن لتلك الوحشة أن تتبدد بين صديقين جمعتها صداقة نادرة لأربعين عاما. بعد ذلك بسنوات طويلة فهمت أن ما بين الرجلين كان أكبر من الموت. أما أنا فرغم اتصالي بأمجد أكثر من مرة في لندن واضطراري لترك أكثر من رسالة مرتبكة في بريده الصوتي، إلا أنني كنت أحمد تلك الأسباب التي صرفته عن الرد أيا كانت. أمجد لا يحب نظرات الشفقة ولا نحنحات الوداع وأنا لا أحب لنفسي، مهما كانت الأسباب، أن أكون مودعه. كان أمجد قويا ولايزال، وأظنه سيعيش عمرا مديدا. وكما كانت دعوته الرامبوية، لي ولغيري من الشعراء، إلي الانغماس في الانحلال «المقصود هنا المعني الشعري»، أعاود أنا أيضا دعوته لتلك الانغماسية. فكما يقول رامبو في إحدي رسائله إلي جورج إيزامبار: «العذابات هائلة، لكن ينبغي علي المرء أن يكون قويا، أن يكون قد ولد شاعرا يموت علي معتقده».
جسد شبيه بالشعر
محمد بدوي
في شعر أمجد ناصر لغة حسية تنشدُ كتابة اللذة لا بوصفها تفاصيل مادية ولكن
بوصفها مقولة أخلاقية تصل إلي حد العقيدة
ينتمي أمجد ناصر إلي الجيل العربي الذي وُلد أفراده في نهاية الأربيعينات وبداية الخمسينات، فهو جيل قومي بامتياز. حتي من كان منه لا يتبني الأيدولوجية القومية لم يكن قادرًا علي الإفلات من مفاهيمها الأساسية، الأرض والدم فلسطين ونبل الفقراء حلم التحرر الجماعي. المفارقة أن هذا الجيل تحديدا قاده تطوره إلي التمرد في الكتابة والحياة علي (الواقع القومي) و(الدولة الوطنية) لأنه حين بدأ الكتابة كانت هزيمة 1967 جاثمة علي كل شيء ومن هنا سمة التمرد فيه تمرد علي الكتابة السابقة شعرًا ونثرًا وولع بالتجريب بحثًا عن كتابة جديدة.
في وقت مبكر كتبت مقالًا عن أحد دواوين أمجد نشر آنذاك في مجلة القاهرة حين كان يحررها غالي شكري. لم أكن أعرف شيئا عن شخص الشاعر، لكن بدا لي الديوان مسارًا يتقدم إلي شعرية جديدة برغم أنه ينطوي علي تنازعات لغوية وشعرية بين شعر التفعيلة وقصيدة النثر، وحين التقينا في أحد مؤتمرات الشعر في القاهرة لم أندهش. لم يكن وجوده الجسدي مغايرًا لشعره الذي أخدت أتابعه في تطوره وتغيره. ثمة آثار ثقافية من جسد بدوي نحيل يخفي هشاشته وراء مظهر صلب، لكنها صلابة مرتحل لم يكن يتصور أنه وهو المتحدر من أصول بدوية سيكون بدويًا مرتحلا في العالم ومتلقيًا لفعل الارتحال في الحياة والكتابة كان ثمة انتقال رهيف بين آثار أيدولوجيا السبعينات اليسارية إلي فضاء مختلف. تتراجع فيه الأيدولوجيا لتحضر الحياة أي يحضر الجسد الإنساني المهدد والهش، هذا الجسد الذي يعلم نفسه يوميا أن تصبح هشاشته مجال شعريته. في هذا انتقل أمجد من الشعر التفعيلي وقيمه وتقاليده ومجازاته ووظائفه إلي قصيدة النثر المعادية للغناء والإنشاد والإيقاع الواضح وحراسة الثورة واللغة. وبدا أن أثمن ما لديه هو صهر ما يبدو نثرا في لغة واحدة موحدة فترتفع التفاصيل إلي مستوي الشعر باعتباره طريقة مختلفة في المعرفة ومعاينة العالم وإعادة تخطيبه.
في شعر أمجد ناصر لغة حسية تنشدُ كتابة اللذه لا بوصفها تفاصيل مادية ولكن بوصفها مقولة أخلاقية تصل إلي حد العقيدة. في هذا الشعر اللغة ترغب في العالم، والتفاصيل في هذا العالم تبادلها الرغبة ولهذا فإن أمجد ناصر ليس شاعرًا إيروتيكيًا برغم هذه الحسية لكنها شعرية اللذة التي تغني التفاصيل الصغيرة وقد أدرجت في رؤية أساسها الجسد، الشيء الوحيد الذي بقي ملموسًا وصلبًا ولا سبيل إلي الشكك فيه بل الشيء الوحيد الذي يبعث علي البهجة ويفجر الشعرية حتي لو كان بالغ الهشاشة.
إمبابة.. لندن
هشام أصلان
أمجد ناصر مع إبراهيم أصلان
1
علي قتامة إثر انقطاع التيار الكهربي في جلسة عائلية أو سهرة أصدقاء، يشعر صغار السن، أحيانًا، بشيء من حميمية، دفء. ربما هو اطمئنانهم إلي استمرار السهرة حتي يعود التيار. صخب أقل، وونس مُضاعف لارتياحهم إلي أنه لن يتم إجبارهم علي النوم. الكبار مضطرون للانتظار حتي يعود النور. وفي إمبابة، تحديدًا حي وراق العرب، الذي هو ريفي زحف عليه الحضر فصار شعبيًا بشكل ما، كان التيار ينقطع كثيرًا.
الساهرون في بيتنا تلك الليلة من أوائل التسعينيات قرروا الذهاب في الظلام. نزلوا من شقتنا في الدور الثالث، علي نور خفيف يتسرب من بير السلم، مصدره لمبة جاز تخرجها زوجة عمي أمام شقتها في الدور الأرضي، تؤنس الطالع والنازل عندما ينقطع النور. كانوا منتشين بالشراب، يغنون بصوت شَعَر أبي معه بالقلق أن يسري في صمت الليل. جيراننا محافظون، يحبوننا كثيرًا، ويتفهمون اختلاف بيتنا. هذا لم يمنع الحرج المُبتسم.
بيتنا، وصعوبة الوصول إليه بسبب طبيعة الحي، ليس مؤهلًا بشكل كبير لاستضافة مثل هذه السهرات. ضيوف أبي عادة هم أصدقاء يسكنون بالقرب منا. أتذكر منهم الروائييْن إبراهيم عبد المجيد ومحمود الورداني والشاعر محمد كشيك. غير أن ضيوف هذه الليلة أتوا من لندن. مع ذلك لم يفكر أبي كثيرًا في صعوبة استضافتهم في وراق العرب. أتصور أن كون العلاقة بدأت عائلية سهل عليه الأمر. هم أصدقاء أمي أيضًا. كانت قد عادت برفقة أبي من العاصمة الإنجليزية قبل عام، حيث أجري جراحة دقيقة في القلب، وكان ضيوف ليلتنا هم من التفوا حولهما بدعم كبير، قبل وبعد جراحة أبي، ليعود بصحة جيدة وأصدقاء جُدد.
في ظهيرة اليوم الثاني التقينا الأصدقاء، الشعراء: نوري الجراح ولينا الطيبي وأمجد ناصر وزوجته السيدة هند أو أم أنس. لا أتذكر أين تناولنا الغداء. في المساء حضرنا أمسيتهم الشعرية في المؤتمر الذي جاءوا للمشاركة به، ثم كانت المرة الأولي التي أدخل فيها «الجريون». كنت في الصف الثالث الإعدادي.
2
ربما كنا في 2006 أو 2007، لست متأكدًا عندما حدثتني زميلة عمل عن موقع فيسبوك. قالت إن المرء منا يستطيع أن يستعيد عبره كل أصدقاء وزملاء الماضي، هؤلاء الذين تصورت أن الحياة ألقت بهم في أبعد ما يكون. وتساءلت في نفسي عن الضمانة التي تجعل من كل الذين مروا في حياتك يتوفرون علي هذا الموقع.
3
نحو 30 عامًا مرت. لم يفقد أمجد شكله المُميز، إن لم يكن زاد حضورًا. بعض من زيادة الوزن لم تفسد شيئًا علي العكس، وخصلات شعره الكثيف الناعم صارت رمادية لامعة. ملامح وتكوين جسدي يساعد علي أناقة الملبس. أشعر بسعادة شخصية عندما لا يأتي الزمن علي من عرفتهم صغيرًا. استمرار تألقهم لا يعني سوي أن أتربة السنين لم تزل بعيدة عني بمسافة معقولة. هكذا فكرت وأنا أقلب في صوره بعدما جاءتني منه رسالة علي فيسبوك يدعوني للتعاون مع الموقع الثقافي الجديد الذي يؤسسه.
أبناء مهنتنا يتحسسون طريقهم بحرص بالغ بعد ما آلت إليه الأحوال في تبعات الأحداث السياسية التي قلبت الأمور رأسًا علي عقب، وصار الاستقطاب السياسي خطرًا عمليًا. تحدثت معه في مخاوفي بادئًا ب«إنت مش غريب وانا هكلمك بصراحة». كنت أشعر فعلًا بأنه ليس غريبًا. له في ذاكرة صباي مساحة يصعب نسيانها وإن كانت صغيرة. أتذكره، علي أقل تقدير، كلما تفاخرت أمام الأصدقاء بدخولي الجريون وأنا لازلت «في الإعدادية». وهو أكد لي أنه يسعي إلي تأسيس موقع ثقافي يكسر حالة الاستقطاب هذه. نعم، كان أمجد مشغولًا فعلًا بالفخ الذي وقع فيه مثقفو العالم العربي بسبب الأحداث السياسية المهولة، وتلك الفراغات التي حفرتها السياسة في الواقع الثقافي العربي الذي كان بالأمس يشبه مدينة واحدة يعرف ساكنوها التعايش مع بعضهم البعض وإن اختلفوا، باستثناءات طبعًا. كان يتكلم عن فقد شخصي لسنوات أجمل عاشها بين أصدقاء في كل مكان يذهب إليه، بداخل تلك المدينة الكبيرة الشاملة: مدينة الثقافة. قال لي: «يصعب علي ألا تغطي القاهرة بأهميتها الثقافية من أجل أمور عبثية. علي أي حال، جرب وإن وجدت ما يقلقك تستطيع أن تتوقف».
4
أمجد، فضلًا عن كونه شاعراً وكاتباً كبيراً، يتسم بعفوية الطيبين. لطالما انزعج من كسلي وتكرار عدم الوفاء بوعود إرسال المادة المتفق عليها في مواعيد مناسبة، نتحدث في اليوم التالي عن العام والخاص، ومواضيع نغلقها باتفاق علي مادة جديدة أتأخر في تسليمها فينزعج مجددًا، قبل أن يفاجئني بإرسال صورة قديمة له مع أبي في لندن لينفتح حوارً ينتهي باتفاق جديد علي أفكار للعمل.
هكذا لم يتوقف التواصل بيننا منذ أواخر عام 2016 حتي اختفي فجأة قبل شهور، وقال زملاء إنه مريض دون أن يُفصحوا عن طبيعة المرض. بعد فترة حكي لي حكاية الورم الذي أصاب دماغه. كان متفائلًا لدرجة التوصية بألا أتكاسل عن إرسال مادة للزملاء في غيابه. وذهبت أفكر في أن الرجل الذي يعاني منذ سنوات في رفقة السيدة زوجته التي أصاب السرطان كليتها، صار هو الآخر مصابًا. المفارقة الكبيرة، أن تلك الكلية المصابة في جسد زوجته كانت كليته هو قبل أن يتبرع بها قبل ذلك بسنوات. وكأن الورم الخبيث ظهر خارج جسده، قبل أن يظهر بداخله.
5
النص الذي نشره أمجد علي صفحته قبل أيام نص جميل قاسٍ. منتهي الجمال من منتهي الألم مع سرده لكيف نصحه الطبيب بكتابة وصيته ثم استعادة حكايته مع المرض. غير أن ما صفعني بقوة هو: أي إيمان بالكتابة يجعل من اللجوء إليها جدوي في ظرف كهذا؟
لو كان الموت يقرأ
هدي بركات
كتابة أمجد ناصر لا تتكئ علي ما كنتُ عرفت وقرأت، ولا تشبه غير نفسها
قرأت أمجد ناصر متأخّرة. لكن منذ القصيدة الأولي من الديوان الأوّل الذي وقع في يدي، عرفت أني سأقرأ كلّ ما كتب ويكتب.
كتبه في مكتبتي في الرفّ القريب من الكنبة، أعود إليها غالبا وكثيرا. لا صداقة تجمع بيننا، لا أظنّ أني التقيته يوما، ولا بالصدفة. ولم أكن أسعي لذلك وكنت سأتجنب محادثته لو فُرضت الصدفة علينا. فهذا الشاعر يضع في ما يكتب ما يحملني علي لقائه كلّما قرأت له، كأخ حقيقي لروحي. وكالعادة أخاف من الخذلان، من الخيبة، وممّا قد يجعل من المعرفة الشخصيّة سقفا واطئا للخيال الجميل...
وأمجد ناصر من النادرين الذين يدفعونك إلي الكتابة بعد قراءته وأنت تغصّ بكلماته، سطرا سطرا. فيحصل أن يدلّني صوته الخفيض إلي شخصيات رواياتي، وأحيانا أتخيّل إنّه يحادثهم. أو يقف بجانب أحدهم وراء نافذة في مكان ما.
لا أدري كيف كنت ولا زلت أشبّهه ببسام حجار. فكلّما قرأت له كانت وحشتُه في شعره، وحدتُه في نثره، في المقهي أو الشارع، إزاء الليل والعناصر، وغربةُ الأشياء وغرابتها القريبة من نفَس العالم، كانت تلك الكتابة تدبّ في القلب أو تسير سيرا خفيفا حتّي الطيران فتعلو قارئها كهالات القدّيسين. كتابة أمجد ناصر لا تتكئ علي ما كنتُ عرفت وقرأت، ولا تشبه غير نفسها، وهي لا تقعد في مكان فتستطيع ردّها إليه، بقيت زمنا لا أعرف أنه أردني، وأنّه عاش في بيروت، ولا أعرف أنّ له اسما آخر للأوراق الثبوتيّة. هناك قصائد لأمجد ناصر ترقّ لغتُها فترتفع عابرة الحدود فعلا، كأن تقول لنفسك إن رقّة هذه الملاحم الصغيرة ليست عربيّة «فقط».
قرأت أن أمجد ناصر ينتظر الموت. قرأت ما كتب يكلّم السرطان. قلت إن ما وصلت إليه كتابته، شعرا ونثرا، كانت لتغيّر مسار السرطان في خلايا رأسه لو كان الموت يقرأ. وقلت إني لم أعرفه شخصيا، وإلاّ لما استطعت أن أكتب لأقول وداعا، لكني سأسمح لدموع خفيفة أن تطلع الآن إلي عيني، إعجابا وتأثرا حين أعود إلي قراءته، أمجد ناصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.