«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمجد ناصر| قناع المحارب
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 06 - 2019


لا يولد فجر من دون جرح
على جسد الليل دم وتراب ومشيمة
راية بيضاء
في آخر زيارة إلى طبيبي في مستشفى تشرينغ كروس في لندن. كانت صور الرنين المغناطيسي عنده. من علامات وجهه شعرت بنذير سوء. قال من دون تأخير: الصور الأخيرة لدماغك أظهرت للأسف تقدماً للورم وليس حداً له أو احتواء، كما كنا نأمل من العلاج المزدوج الكيمو والإشعاعي.
كان مساعده دكتور سليم ينظر إلى وجهي وفي عيني مباشرة، ربما ليعرف رد فعلي.
قلت: ماذا يعني ذلك؟
قال: يعني أن العلاج فشل في وجه الورم.
قلت: والآن ماذا سنفعل؟
رد: بالنسبة للعلاج، لا شيء. لقد جربنا ما هو متوافر لدينا.
وفي ما يخصني ماذا عليّ أن أفعل؟
قال: أن ترتب أوضاعك. وتكتب وصيتك!
قلت: هذا يعني نهاية المطاف بالنسبة لي.
ردّ: للأسف.. سنحاول أن تكون أيامك الأخيرة أقلّ ألماً. ولكننا لا نستطيع أن نفعل أكثر.
قبل أن أغادره قال: هذه آخر مرة تأتي فيها إلى عيادتي. سنحولك إلى الهوسبيس. وكانت آخر مرة سمعت فيها هذه الكلمة، عندما دخلت صديقة عراقية أصيبت بالسرطان في المرحلة النهائية. يبدو أن الهوسبيس مرفق للمحتضرين أو من هم على وشك ذلك.
قلت له: لديّ أكثر من كتاب أعمل عليه، وأريد أن أعرف الوقت.
حدد وقتاً قصيراً، لكنه أضاف هذا ليس حساباً رياضياً أو رياضيات. فلا تتوقّف عنده.
الطريق إلى الكتلة
عدو شخصي
ليس لي أعداء شخصيون
هناك نجم لا يزفُّ لي خبراً جيداً،
وليلٌ مسكون بنوايا لا أعرفها.
أمرُّ بشارعٍ مريبٍ وأرى عيوناً تلمع
وأيدياً تتحسس معدناً بارداً،
لكن هؤلاء ليسوا أعداء شخصيين،
فكيف لجبلٍ
أو دربٍ مهجورٍ أن يناصباني العداء،
أو يتسللا إلى بيت العائلة؟
أيها الشيء القاتم الذي أخذ أمي وحبيبتي الأولى
والأنفاس التي رفعت عليها مداميك حياتي إلى الجانب الآخر من التراب
ما أنت؟
ما مشكلتك معي
إن كنت رجلاً اخرج إليَّ من مكمنك
تعال نلتقي في أي جبَّانة تريد
وجهاً لوجهٍ
لسوف ألقنك مواثيق الرجال
كما لقنتني إياها الصحراء والغدران الجافَّة
أرني وجهك قبل أن تنتضي قناعك الذي تسمّيه عقاباً إلهياً
فأنا لي آلهتي أيضاً لكني لن أدعوها لنزال الوجوه السافرة
إن كان لك دين عندي
أو مشكلة شخصية كأن أكون خطفت هيلين الشقراء من حضنك
ومرغت شرفك في الوحل
مع أني لا أذكر شيئاً كهذا
لا تسترد دينك من الذين يمرون في هذه الدنيا
كما تمر أنفاس الرعاة في قصب الناي..
روح حرَّة
إلى هند
أيَتها الروح الحُرَّة.
لم تنطفئ شعلتك رغم الريح التي تهب في غير موعدها،
رغم الأيام الجافة
الأيام الماطرة
النجوم التي صارت صخوراً بعدما هجرتها الأغاني
وهذه الليالي المرسومة بالفحم
كيف كانت ستدلني على الطريق.
زرعنا زيتونةً فأثمرت.
شتلة عنب فغطّت سياج الجارة التي لم تعرف
كيف نصنع من أوراقها الخضر طعاماً وخارطة
يدُكِ تقلب التراب فتعثر على دودة
تعيدها إلى مكانها،
شذرة ذهب فتطمرها
لعلها علامة الغريب الباحث عن كنز أجداده الذين مروا من هنا.
كنزك لا يلمع. بل يطلع من غصن يابس، وجذرٍ ذاوٍ.
ها نحن نرفع يداً فيرتد أربعون ظلاً على حائط الحمائم المطوَّقة
لم يعد، هنا، للكلام معنى إلا في رواسبه الغائرة
فقد أودع الأيدي سعفٌ كثير لأيام الأسبوع.
أيتها الروح الحرة
لا الأحمال هدَّتك
ولا طول الطريق.
الرحلة التي بدأت برقصة تحت نجم
لم تبلغ تلال الوعد السبعة بعد.
لم تكن لهذه الكلمات مناسبة. هكذا خطر في بالي حينها. إنها ليست أكثر من تحية لرفيقة رحلة شاقة. ولكن كلا، ففي ثناياها، في ما لم أره من وجوهها المحجوبة عني، حتئذ، تمدد شريط من الورم بين جسدين. عندما، لا تجد أي خيار، وربما بمحض اختيار حر، »تتبرع« ببضعة من لحمك (كلية) لتمشي خطوات أكثر مع رفيقة/ رفيق حياتك، قد يكون هذا أقصى ما بوسعك عمله، ثم تظن أنك قدمت، أخيراً، «هديتك» أو ربما «أضحيتك». تُقبل «الأضحية» وتقوم بعملها على أفضل وجه.. إلى حين، لكنه حينٌ طويل بعض الشيء (ست سنين)، إلى أن «تتسرطن»، وتفشل.. ثم يصار إلى استئصالها ورميها في مختبر ما لمزيد من «الدراسة» والتحليل.
قال لي الطبيب: سنحاول أن تكون أيامك الأخيرة أقل ألماً
كان صيف لندن هذا العام «هندياً» كما يقولون، هنا، عن الطقس الحار. يبدو أنني غفوت على أريكة في صالون منزلي. فكَّرت أنني أحلم: كان حولي ابني وابنتي وأخي، وكل منهم يقيم في بلد، تأكدت أنهم موجودون فعلاً، فهم يتحدثون، وهذه أصواتهم التي أعرفها. وهذه يد ابنتي تمسح العرق الذي بلل رأسي وعنقي بمنشفة. مع ذلك أظنني سألت باستفهام، أو استنكار، (لست متأكداً): لِمَ أنتم هنا؟ لأنك لست على ما يرام. كان رأسي خالياً من أي صورة. ذهني مشوَّش، ولكن بلا تفاصيل. أخبروني بما جرى:
كنت أنزل من سيارة أجرة أمام بيتي، ثم سقطت على الأرض. لكن لِمَ كنت أستقل سيارة أجرة وأنا لدي سيارة؟ يبدو أنني كنت عائداً من المركز الصحي المحلي بسبب صداع «زائد» عن الحد أصابني في الأيام الماضية. صداع غير ذلك الذي تعايشت معه طويلاً. حتى مع هذا التسلسل للأحداث، المسرود عليّ، ظلت هناك ثغرة لم تردم. في يدي سوار بلاستيكي عليه اسمي ورقمي الطبي، وتاريخ يشير إلى يومين سابقين. ما هذا؟ سوار كهذا لا يوضع في اليد إلا إذا نمت في مستشفى. هناك خور في جسدي. داخلي فارغ. إحساس بتخدير قوي. تذكرت ليلة طويلة في جناح الطوارئ. كنت هناك. كان لديّ ألم لا يطاق في خاصرتي اليمنى. صداع شديد. سمعت كلمة مورفين. كأني قلت لهم: كلا. ولكنهم لم يسمعوني. أو لم يتوقفوا عند اعتراضي. ألم كهذا لا يعالج إلا بالمورفين. هناك تقرير صغير يقول: احتمال حصى في الكلية! لم تكن هناك صور شعاعية للجسم، الرأس خصوصاً.
جاءت سيارة الإسعاف التي أقلتني إلى مستشفى تشيرنغ كروس، ذائعة الصيت، وليس مستشفى منطقتنا، في غرب لندن. في الأثناء قام الطاقم الطبي بفحصي. ركزوا على يديّ وقدميّ. عيني. طلبوا مني رفع يدي إلى الأعلى. خصوصاً الجانب الأيسر. هؤلاء يحملون أجهزة متكاملة. يصلون إلى نتائج سريعة ويقررون طبيعة المستشفى الذي يتوجهون إليه. كنت وحدي. هذا ما أظنه. لا أحد من عائلتي معي. أين هم؟ زوجتي في المستشفى. مستشفى آخر. سرير آخر. بجانبه كرسي لزائر. الفشل الكلوي يعود بعد سنين من العمل «الجيد» لكلية «سليمة». لكن هذه الكلية السلمية يتسلل إليها الورم السرطاني. جاء هذا من جسد لم يكن يعاني أوراماً، ولا حتى في الخيال!!
فهمت من الطاقم الطبي أن الأمر قد يتعلق بجلطة دماغية. السرير يدفع في الباب الرئيسي لمستشفى تشيرنغ كروس. إلى الطابق الحادي عشر (أم لعله العاشر؟). تظهر لافتات تشير إلى الجراحات الدماغية. بلا إبطاء إلى تصوير المقطعي. لا تتأخر الصور في الظهور. أنا في السرير. يسألني الطبيب الذي يقدم لي نفسه: دكتور خان. أسئلة ستكرر لاحقاً، بلا توقف تقريباً. يعود الجسد إلى اسم وتاريخ ميلاد ينبغي أن ينضبطا في ملف طبي. جاء طبيب شاب يدعى علي: مصري. يتحدثان. الصور تظهر شيئاً آخر. كلا، لم تكن جلطة دماغية. شعرت أن دكتور خان يتهيأ لرمي قنبلة. سألني إن كنت أفضل وجود فرد من العائلة. قلت له مازحاً، كأنك تمهد الأرض لرمي قنبلة؟ ضحك. قلت له: ارمها:
الصور تظهر، للأسف، ورماً في الدماغ.
ماذا؟
ورم في المنطقة اليمنى من الدماغ، ها هي الصورة. أرى الصورة. وردة متوحشة. شكل هندسي نابض. يسميه دكتور خان: كتلة MASS.
صمتُّ. لم أكن أتوقع خبراً كهذا. ربما أي شيء آخر.
ينتقل، فوراً، إلى ما هو عملي: سنبدأ علاجاً بالسترويد لتخفيف ضغط الكتلة على الجوانب الأخرى من الدماغ، ووقف الصداع.
من بين كل كتل الدنيا، خطرت في بالي لحظتها القصيدة التي سميتها: قصيدة الكتلة. بلوك. أردت أن أفهم من الطبيب المصري (المساعد) المزيد بعد انصراف خان. لم أجده. كنت رأيته يدخل مكتباً قريباً للأطباء. نزلت من السرير. مشيت في ممر كان يعج بالممرضات والممرضين وعاملي النظافة وصار الآن شبه فارغ .
رحت أغني أغنية مصرية: أنت فين يا علي أمك بتدور عليك!
الليل، لا نوم
بقيت وحدي. عدت من رحلة الممر العبثية إلى السرير. الليل لا يزال «شاباً» على حد التعبير الإنكليزي.
شظايا القنبلة تتحرك.
كتلة..
ورم..
لو لم أقع على الأرض ما عرفت بالتشكّل السريّ لهذه الكتلة، هذا الورم..
لقد كنت قبل ساعات فقط من «الأصحاء»، وها أنا في قسم خاص بالأورام الدماغية في مستشفى كنت أرافق إليه زوجتي، المريضة بالفشل الكلوي، من أجل «غسل» الكلى ثلاث مرات في الأسبوع، ولم أتخيل نفسي مريضاً في أحد أقسامه، بل لعله أكثرها إثارة للخواطر السيئة.
لم يطلع النهار بسهولة. يبدو أن الليل كان في أوله. منتصفه. لا أدري. أنا الآن في وضع غير الذي كنت فيه (ولم أكن أعرفه) قبل ساعات. قبل يوم. قبل أيام. شعرت برغبة شديدة بالتدخين. معي علبة سجائر. رغم أني توقفت عن التدخين ست سنين. طلبت من الممرضة المسؤولة عن الجناح أن تسمح لي بالنزول إلى الطابق الأرضي لتدخين سيجارة. رفضت. ألححت. فوافقت. أرسلت معي ممرضة وكرسياً متحركاً. كان هناك مرضى غيري يدخنون. لا تزال هناك حركة في شارع فولهم بلاس الذي يقع على جانبه المستشفى، أقف بالقرب من كتلة هنري مور. من تمثالي المتكئين إلى بعضهما بعضاً في مدخل المستشفى.
كتلة هنري مور
هذا ليس النصب الأصلي، بل هو نموذج مصغر من العمل الضخم الذي نفذه هنري مور بطلب من مركز لنكولن للفنون في منهاتن/ نيويورك. هناك يبسط عمل مور سيطرته على الفضاء/ طالعاً من بركة ماء. لا يختلف النصب الصغير في مدخل مستشفى تشارينغ كروس من حيث علاقته بالماء، عن الموجود في مدخل مركز لنكولن للفنون في منهاتن، الفارق يكمن طبعاً بالحجم. هنا في مدخل المستشفى يطلع النصب من بركة ماء صغيرة مخضوضرة تنعكس عليها صورة الكتلتين المتكئتين على الماء. ذكَّرني ذلك بآية قرآنية تقول: وكان عرشه على الماء. المقصود هنا عرش الله. قطعاً لم يكن ذلك في ذهن هنري مور وهو يصنع نصبه البرونزي. بيد أن هذا يمكن أن يدور في خلد واحد له مرجعيات ثقافية مثل مرجعياتي. ثم إن صلة النصب والتماثيل، عموماً، بالمقدس تبرر الخاطر الذي راودني. مؤكد أن النصب الحديثة انقطعت عن منشأها الأول، عن وظيفتها الأولى، كرموز، أو تجسيد للتصورات البشرية في خصوص الآلهة، لكن من يستطيع منع المقدس من الحضور في النصب والتماثيل؟ لقد رأى المثالون الحديثون النصب والتماثيل الطالعة من فكرة المقدس ودرسوها في الأكاديميات التي تخرجوا فيها. وفي هذا الطور من عمله الفني تخلى هنري مور عن النماذج والموديلات التي كانت تمهد للعمل الفني وصار يعمل مباشرة ، بلا موديل مسبق، على المادة نفسها، سواء كانت برونزاً أم حجراً، التي يجب، حسب قوله، احترامها فهي لها «حياتها المكثفة الخاصة بها»، والتي يتعين عليه، كفنان، إفساح المجال لها بالظهور.
وجدت في «كتلة» هنري مور حليفاً لي في ليل الأرق الذي كنت أتسلل فيه من جناح المصابين بالأورام مثلي، إلى البركة التي يتكئ إليها نصفا تمثال هنري مور.. هناك من «تسللوا»، مثلي أيضاً، من أقسام المستشفى المختلفة. بعضهم للتدخين، كما صرت أفعل، بلا هوادة، آخرون لتناول طعام غير ما يقرره علينا مطبخ المستشفى..
ذات يوم ربيعي في نيقوسيا ثمانينيات القرن الماضي، سليم بركات، محمود درويش
وأمجد ناصر الذي يقول: كان محمود يمر على قبرص للوقوف على كل عدد يصدر من «الكرمل» التي
يحررها معه، وكالعادة سليم بالفانلة رغم أن الطقس كان بارداً
دخنت أربع سجائر متعاقبة. ظمأ؟ انتقام؟.. هذا الرجل الذي يشعل سيجارة من عقب أخرى ليس أنا. هذا هو الرجل المريض. إني أرى انعكاس هيكله البشري في بركة الماء المخضرة التي تنتصب فيها كتلة هنري مور. يرتدي مريولاً تقطعه مربعات زرقاء وخضراء صغيرة. هذا زي المستشفى. في رسغه الأيمن سوار بلاستيكي عليه اسمه (أحد أسمائه!) ورقمه الصحي وتاريخ دخوله إلى المستشفى، يدخّن. ولكنه لا يفكّر. لا فكرة تخطر في باله سوى أن هذا الرجل الذي يتراقص ظله في البركة مريض، وأنه ليس هو بالضبط، وأنه لا يعرف ما الذي جرى له، بالضبط، وأنه ليس مسؤولًا عن ذلك. ولكن، مع هذا كله، عليه أن يعتاد وجوده. الأفضل، طبعاً، أن يفهمه ويتسامح معه. قد لا يكون الذنب ذنبه.
طلبتُ من الممرضة أن تعيدني إلى السرير. أريد أن أنام. أعود إلى الجناح. صوت غطيط النوم يُسمع عالياً. ثمة من ينام هنا. ثمة من حطّ عليه ملاك النوم. لكن ليس أنا. الوقت لا يمر. الليل صامد. تخطر في بالي أفكار غريبة بل أخلاط أفكار وصور وكلام قديم. أفكر في نصي «حديث عادي عن السرطان». أتذكر مسرحه. وسببه. شخص (صديق) أصيب بالسرطان. اثنان آخران يعرفانه. يتحدثان عن مرضه. الحوار حول سرطان الصديق يبلور نبوءة عشوائية:
-الشخص الأول يقول إن أخاه توفي بالسرطان في الأربعين من عمره، فيقول الثاني إنه قرأ لا يدري أين أن المرء يموت كما يموت أهله، ثم يقول إن أمه صارعت السرطان مرتين آخرها كانت في أوائل الستينات من عمرها.
النتيجة التي يخلص إليها الشخص الثاني: أنت تجاوزت عمر أخيك، فيما لما تزل أمامي سنون أمي المكتنفة بالاحتمالات!
أفكر: لماذا أعدت نبشه؟ لماذا نشرته قبل فترة قصيرة جداً من إصابة زوجتي بسرطان في الكلية، وقبل أن تتكون فكرة، أو أضغاث فكرة، عن ورمي الدماغي في ذهن عابر، لا أعرفه ولا يعرفني، في القطب الشمالي؟
أغافل الممرضة المسؤولة. أنزل من السرير. هناك باب أوتوماتيكي يفتح على المصاعد. دقيقة وأكون أمام المصعد. أهبط إلى الطابق الأرضي. لا أحد. ولا حتى عمال النظافة. الفجر بعيد. وهذا الليل لا ينتهي. ليلة الكتلة المتمددة في الدماغ. أمشي في الطابق الأرضي الفارغ من الناس. هذا عادة خلية نحل بشرية في الصباح وصولاً إلى الظهر. الكراسي مرفوعة على الطاولات. أخرج إلى ليل هنري مور. كتلته البرونزية. لا أحد. الماء ساكن. سيارات وشاحنات تمر بتقطع في الشارع. لطالما أثار شغفي أولئك الذين ينقلون، آخر الليل، مع الفجر، البضائع والمواد الاستهلاكية في شاحنات أو فانات صغيرة لتكون جاهزة للعرض والبيع ما إن تفتح الحوانيت أبوابها. راقبت أكثر من فجر في الطابق السفلي في المستشفى عندما كان مزوّدو المقاهي والدكاكين بالحليب والعصائر والخبز والمعجنات والصحف والمجلات يضعون هذه الطلبيات أمام أبواب المحال المغلقة حتى الآن. لن يطول الوقت حتى يجيء أوائل العاملين في هذه المحال ليضعوا طلبياتهم في البرادات وعلى الأرفف.
كوميديا الاسم
في هذا المستشفى البابلي ينطقون اسمي حسب ألسنتهم، وربما حسب أسنانهم. مرة ينادونني يايا، مرة يهياي، وثالثة يهى. في الخارج لي أسماء أخرى تنتظرني لتواصل عملها الآلي على ما يبدو. من أنا؟ لا أعرف. سوى هذا الجسد المتعثر بأسمائه.
يدبُّ الاسم وحده على الطريق ويكرج.
الذين سموني ماتوا. تركوا لي هذا الاسم يتضخم في الدوائر والمعاملات، ويتكفل بمصيره.
ماذا في الاسم؟ سؤال قديم.
ما الاسم؟
لثغ مرح،
إيقاع يتجدد على كل شفة؟
أم رمل، ملح ثقيل يطهرون به كل ما يفسده اللسان؟
لا اسم فارغاً. ارمه سيرنُّ كحبة جوز صلبة.
لا اسم ملآن.
اكسر حبة الجوز هذه: فارغة.
ارم الاسم في أي أرض يصبح شجرة.
في أي رحم يصبح سلالة. لكنه يظل وحيداً مع ذلك.
من يحمل عبء الآخر: الاسم أم الجسد؟ هذه المرة عرفت أن الاسم سيد التخلي. ماذا يبقى من الاسم؟ جرح الولادة، ندبة الموت، لا شيء. تحت الاسم اسم. اكشطه سترى الترسبات الألفية للجفاف الذي استمر طويلاً هنا. أسئلتي كانت أسهل عندما كان اسمي يمشي جانبي كرفيق غير مرغوب فيه. من منا المصاب بالورم، ويرزح تحت الكتلة؟ جسدي أم اسمي؟
يد/ قدم
أرقب أطرافي. يدي تتضخم. قدمي تصبح جذع شجرة. لم تكن هذه يدي ولا هذه قدمي. آخرون جاؤوا بسلالم قصيرة وسكنوني. يجتاحني الخارق. جسدي يدعوه في غفلة مني. أفكر أني إن نفضت رأسي ستتفتت الكتلة وتتطاير شظايا. ألا يعتقد أولادي أني سوبر هيرو؟ تبقى مع ذلك هذه يدي. هذه الأخاديد العميقة في راحتي، خارطة ترحالي، خط العمر، ورقة عنب؟ أعجبني التعبير. فعلاً، كأنّ يدي ورقة عنب تخترقها خطوط وعلى وجهها شبكة من الشرايين والشعيرات والأنهار الصغيرة الجافة. كان لأمي يد مثل يدي. كانت تموت تحت جناح السرطان. وكنت أحاول فهم الكلمة التي بادلَتَها بنفس أخير: نور. ربما المسمى نفسه. فقد هجرتها الأسماء. كنت أقول لها بوقفتي الطائعة أمام نظرة العين اليمنى، إنها لن تترك قمح يديها يتحلل.
***
رأيت أخواتي، في المنام، كن على برندة بيتنا في المفرق. كان الوقت مساء. كان هناك إبريق شاي وعدد كبير من الكاسات، لم يكن هناك ضيوف، أو أحد من إخواني. بجانب إبريق الشاي صحن صغير فيه أعواد نعنع. كن يعرفن «وضعي الصحي» بتفاصيله رغم أني لم أخبرهن. قلن لي: رأيناك تقع هنا بطولك كله في مدخل بيتنا في المفرق وليس في لندن. هل تذكر عندما دخلت عتبة البيت ووقعت على يديك ووجهك؟ قلت: أذكر، لكن ذلك حدث قبل أشهر، وكانت هناك درجة لم أنتبه إليها.
تحت رحمة الكتلة
ليس لجسدي اسم في هذه الممرات المقفرة. له حيز يشار إليه باليد.
رأيت علي في اليوم التالي. فكرت في أغنية الليلة التي تركت كلها لي بعدما انقض الجميع. ضحك عندما أخبرته أنني غنيتها. قال ضاحكاً: لكنك لست أمي!
-المهم؟
المهم هو إزالة الورم. سيحدد مستر بيترسن وقت العملية. المزيد من الصور. ربما هذه المرة للجسد كله. الصباح يدب بعجلاته وخفق مراييل ممرضيه ومرضاه. المرضى المحيطون أخذوا أدويتهم بحجوزات كرتونية بيضاء. هناك أداء أوتوماتيكي. هناك لغة مشتركة وخلفيات نسجت بينهم وطاقم القسم.
واضح أنهم سبقوني إلى هنا. وضعوا روتيناً. أنا الآن أحدهم. شقيقهم في المرض، وربما في المحن التي لا أعرف عنها شيئاً «لم أكن مريضاً»، ولم تكن لدي محنة سوى ورطة الوجود الإنساني نفسه. سوى أنك لغز، سوى أنك لا تعرف هذا اللغز الذي سيفسر لك عن وجه مقنع أيضاً.
أفكر أن مرضي يشبه حياتي. تطرف. لا توسط. مراودة الأقصى
أنا الآن تحت رحمة الكتلة. هل استدعتها كلماتي؟ يا للسخف كيف أفكر بذلك؟ هل جاء وقت قصيدة حديث عادي عن السرطان. لتثبت لي مرة واحدة في حياتي أني كنت مصيباً، أن الشعراء قادرون على التنبؤ بمصائرهم؟ من يصدق ذلك؟ أنا أول المكذبين.
لاحظوا معي: هناك شخص صامد في هذا السرد الطالع من مناسبة رحيل صديق مشترك. الراحل. السارد. المسرود عليه. المسرود عليه كان قد نجا، بحسب السرد من آفة السرطان التي أصابت أخاه. لقد تجاوزه في العمر. السرد يقول إن الناس يموتون كما يموت أهلهم. كانت أمامي بضع سنين (...) لأبلغ العمر الذي رحلت فيه. أنا الآن في هذه السنين بالضبط.
***
أفكر أن مرضي يشبه حياتي. تطرف. لا توسط. مراودة الأقصى.
أنتظر العملية الجراحية. الورم في دماغي أنا وليس في أدمغة الأطباء. ليسوا مستعجلين. أنا المتعجل. لا على ذهاب ولا على بقاء. ولكن على إزالته فقط، لست مرتاحاً لوجود هذه الكتلة القاتمة في دماغي.
كل شيء حيٌ هنا في حديقة بيتي الصغيرة. هذا الطير الثقيل الذي يمر بجانبي وفي منقاره عود يابس. واضح طبعاً أنه يبني عشاً في الأكمة الخضراء التي التفت على شجرة السرو.
رأسي مسنود إلى نبتة مليسة تفوح منها رائحة ليمونية تنفذ إلى القلب.
منعني الطبيب من التدخين بتاتاً. قلت له بعد كل هذا الورم في دماغي؟ قال: ليس هذا قصدي، بل للتنفس بعد العملية ولتسريع شفاء الجرح بعدها.
أجرت العملية جراحة شابة تدعى صوفي
لا أعرف أين دخلت وكيف خرجت
ولكني أتذكر قبل دخولي إلى غرفة العلمليات أن بني أنس قرأ عليّ قصيدة يحبها ويعرف أني أحبها أيضاً.
أي إيثاكا هذه؟
كم مرة كتبت عن هذه القصيدة من قبل؟ كم مرة قرأتها؟ العديد من المرات.
ولكنها لم تظهر على هذا النحو مرة من قبل.
أي إيثاكا من قبل كانت هدفاً لرحلة، أو عودة من نوع ما.
أي رحلة هذه التي أسمع فيها صوت ابني أنس يقرؤها عليّ بترجمتها الإنكليزية البلورية وأنا أهم بالدخول إلى غرفة العمليات؟
***
وأنت تنطلق إلى إيثاكا
فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة
حافلة بالمغامرة، حافلة بالاكتشاف
لا تخف من الليستريغونيات والسيكلوبات
وبوسيدون الغاضب
لن تجد شيئاً من ذلك في طريقك
طالما احتفظت بأفكارك سامقة
طالما مست روحك وجسدك الإثارة الرائعة
لن تقابل الليستريغونيات والسيكلوبات
ولا بوسيدون الغاضب
ما لم تحملهم داخل روحك
ما لم تضعهم روحك أمامك
فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة
ولعل صباحات الصيف تكون كثيرة
ويا لها من متعة٬ يا لها من بهجة
لتدخل موانئ تراها للمرة الأولي
ولعلك تتوقف عند محطات التجارة الفينيقية
لتشتري أشياء جميلة
عرق اللؤلؤ والمرجان، العنبر والأبنوس
فوصولك إليها، هو غايتك الأخيرة
لكن لا تتعجل الرحلة أبداً
فالأفضل أن تستمر لأعوام طويلة
حتى لو أدركتك الشيخوخة، وأنت تصل إلى الجزيرة
غنياً بكل ما جنيته في الطريق
دون انتظار أن تمنحك إيثاكا الغنى
لقد منحتك إيثاكا الرحلة الرائعة
فبدونها ما كان لك أن تبدأ الطريق
لكن ليس لديها ما تمنحه لك سوى ذلك
فإذا ما وجدتها فقيرة، فإن إيثاكا لم تخدعك
فبالحكمة العظيمة التي جنيتها، بهذه الخبرة الكبيرة
لا بد أنك بالتأكيد قد أدركت، بذلك ما الذي تعنيه إيثاكا.
(ترجمة: رفعت سلام)
***
قرأت هذا من قبل. أعرفه، وكنت أظن أنني أعرف إيثاكا التي يعنيها كفافي وأعرف أن الطريق إليها لم يكن سهلاً ولا أقل أهمية.
أو على الأقل لم تكن هدفاً أقل من الوصول إلى «البلاد»، أو «الوطن»، أو أيُ ما تعنيه إيثاكا لكل واحد منا.
ولكن عن أي إيثاكا يمكن الحديث؟ بل أي إيثاكا تبدو لي وأنا أسمع صوت ابني أنس يقرأ قصيدة الشاعر اليوناني العجوز؟
الرحلة؟
إلى ماذا؟
العودة؟ إلى أين؟
أفكر في هذا وأنا جالس بالقرب من نبتة المليسة. ها هي حية، نضرة، ذات رائحة لا تنضب وها هو صباح جديد يغمر حديقة بيتي الصغيرة. لا صورة للحياة أقوى من ذلك: جوقة من أصوات طيور وعصافير تتداخل ... وأسمعها تنتقل من شجرة إلى أخرى؟
«تجهيز: نفسي»
أول صورتين،
قبل العلاج الإشعاعي:
رأيت وجهي
لقد صبوا قناعاً «بلاستيكياً» على رأسي
صبوه بكل معنى الكلمة. أدخلوا رأسي في آلة
وراحت تنسج خيوطها البلاستيكية
بإحكام حول رأسي...
وما أن انتهوا رأيت نفسي في مرآة الحمام
ففزعت. من هو هذا الرجل
الفضائي؟ أو هذا الحرثون الكبير. أو الحرباء المرقطة
بالأخضر؟
بهذا القناع المحكم إلى درجة أنه يترك أثره على وجهي، له شكل فتحات وشبابيك صغيرة وظيفته تثبيت رأسي عندما تسلط الأشعة.. لا حركة لا نأمة. هناك شخصان على يميني ويساري يضبطان الإحداثيات وينقلانها مباشرة إلى غرفة التحكم التي أعرف أين هي.
أعبر ممراً في الخارج فيه مراية وأرى هذا الرجل الأخضر يمشي إلى جانبي
أهذا رجل أم تجهيز فني؟
العصفور المغرد
أهلاً أيها العصفور المغرد. ها أنت تتفقد موقعي اليوم، بجانب نبتة المليسة، أو التي يسميها الإنكليز فيزبانا.
أسمع صوتك في أغصان شجرة السرو، أعرف هذا الصوت جيداً، ولطالما سمعته في هذا الركن من حديقة بيتي الصغيرة.
ولطالما رأيتك.. بالقرب مني. لا تخف. ثم تطير إلى غصنك. لكن اعذرني نسيت اسمك، لا أظن أن هذا الأمر يؤثر على علاقتنا الطويلة، فأنت أيضاً لا تعرف اسمي. ترى جسدي المكوم على كرسي.. شعر رأسي الشائب. تعرف أنني أنا، تسمعني موسيقاك من دون أن أطلبها. وبلا قيد أو شرط.
المهم الآن هو وجودنا. أنا أؤكدك وأنت تؤكدني. هذه علامة حياة لكلينا.
جسدي
جسدي يتداعى كمركب للاجئين في بحر هائج.
الألواح تسقط..
المياه تصعد إلى السطح.
المحرك يتلقى ضربة من قرش أو حوت.
الحصار محكم.
وأنا لا أستطيع الفرار.
ليتني أستطيع أن أترك جسدي هنا.
وأنجو ببضع حبات جوز وضعتها في آخر لحظة في جيبي.
***
جسدي يخذلني.
وهذا ليس جديداً.
كان يفعل ذلك مراوغة.
الآن صريح ومباشر في مسعاه.
كلما نهضت وقعت على الأرض.
لا أستطيع أن أبقى واقفاً على قدمي ما تبقى لي من أيام.
حتى الشجرة لا تفعل.
ألم نر أشجاراً ممددة إلى جانبها لكي ترتاح من عبء الوقوف؟
نص طويل نشره أمجد ناصر عن محنة المرض على صفحته الخاصة بفيسبوك


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.