زوجي العزيز.. تحية طيبة وبعد.. هذا أول وآخر خطاب أكتبه لك بعد انقضاء ما يزيد علي الأسبوعين لي هنا في سجن القناطر. أرغب في البداية بطمأنتك: السجن ليس بالسوء الذي تتصوره. أنت خير من يعلم أني سجينة في الخارج كما في الداخل، وأني أحمل سجني معي حيثما حللت. حين أمشي في شوارع يحجب زرقة سمائها الرماد والغبار، شوارع الأشجار علي أرصفتها مجدوعة، والمورق منها يمتزج فيه الأخضر بالرمادي، شوارع بناياتها تتفاوت في ارتفاعها، وتجتمع علي القبح، وأيا ما كان لونها، فالرماد والغبار يحجبانه، تنظر لك بعداء واستعلاء، وتصر علي قهرك واحتقارك، شوارع علي أسوار بناياتها أينما ذهبت، بقع بول ضخمة، وسحابة لا ترحل من رائحة الصنان، وفوق كل هذا شوارع تمشي فيها بنور الله: خروجك من بيتك وعودتك إليه سالما نفسيا وجسديا هو معجزة بكل المعني الحرفي للكلمة. تعرف أيضاً أني من قبل اخترت سجني الصغير بين حوائط بيتنا، واعتزلت كل ما يجمعني بالسجن الكبير في الخارج: استقلت من عملي، قاطعت الأصدقاء، وحتي أهلي استجديتهم بقوة لزيارتي طيلة الوقت عوضاً عن الذهاب إليهم. لا تختلف جدران بيتنا عن جدران السجن كثيراً، بل علي العكس ارتاح هنا كثيراً لغياب الشمس طيلة الوقت، ولا شبابيك تصر علي فتح ستائرها كما في البيت مصمما علي احتياجي للشمس، التي كانت تؤذيني بشدة، لكني افتقد كثيرا وسائلي الفاخرة لقتل الوقت: الإكس بوكس، والأفلام، وأكره وجود جمع النساء هذا في عنبري، وأكره الزحام والضوضاء. أفتقد جدا سماعاتي والموسيقي، أسد آذيّ بأصبعي كثيراً وأغني بصوت عال يغطي علي أصواتهم، في البداية كن يضربنني ليخرسنني، الآن الوضع أفضل بكثير، يتركنني في حالي، مع نظرات شفقة أحياناً. حدث هذا بعد خناقتي منذ أسبوع مع نبطشية العنبر:غادة. في أيامي الأولي قررت التوقف عن أخذ الدواء، أي اكتئاب سيمنعه هذا الدواء؟ ولماذا أثبط تحولات مزاجي العنيفة وعدوانيتي وميولي الانتحارية؟ قررت أن أطلق السراح لجنوني يا حبيبي، فالجنون طريقي للخلاص هنا. في أيامي الأولي كنت أتجنب الجميع، داخلي بركان غيظ وعنف، ولا أعرف كيف أصرفهما غير في الصراخ والدموع، كنت أبكي كثيرا. كنت لا استطيع النوم خوفاً من الاعتداء الجنسي، وإن نمت تفسخني الكوابيس. جاءت امرأة من شلة جواسيس غادة تحاول مواساتي، جلست جانبي علي الأرض وربتت علي ظهري قائلة: شكلك بنت ناس، عملتي إيه بس؟ ظللت صامتة فبادرت بتعريف نفسها وتهمتها. لم أستمع لما قالت وأخبرتها أني غير متهمة، نحن مجرمون وخلاص! أخبرتها أني كاتبة وكتبت قصصا قبيحة، ولهذا قبضوا عليّ، ثم استطردت قائلة بوجه باسم وصوت خافت أني مجنونة، وأن عليها أن تنصح الآخرين بأن يتجنبنني، ودون أن أنتظر رداً منها، شرعت من فوري بدون مقدمات حكاية تفاصيل فيلم Dogtooth لها، العجيب أنها استمعت بتركيز واستمتاع لقصة الفيلم، ومن وقتها يا عزيزي وأنا أحكي لشلة يزداد عدد أفرادها يومياً قصة فيلم، أخبرتهن أن أفلامي تدعي أفلام مهرجانات، وسخروا منها ومن الاسم كثيرا. سيشتهر كثيرا في عنبرنا تعبير "الهجرة إلي استراليا" إشارة إلي الموت أو الانتحار بعد أن أحكي لهن في ليلة قصة فيلم The Seventh Continent، وبدلا من قول فلانة أخذت إعدام، سيقلن فلانة ستسافر إلي استراليا. سأحب الحكي وأقضي كثير من الوقت في ممارسته، سأحكي قصص أفلام كثيرة منها: 12 angry men, Amour, white ribbon, piano teacher, death proof. يوم سماع النطق بالحكم قررت من فوري الهجرة إلي أستراليا، تعرف أني رغبت في ذلك طيلة الوقت في سجن بيتنا وكنت كثيراً ما أقاوم، هنا سأفعلها بلا تردد. الفرص كثيرة لعلمك، آخرها الخناقة إياها، حين أرادت غادة أن تعلّم علي، مستخدمة الموسي، بعد أن رفضتُ تدليك ظهرها، وكنت قد دلكته بالفعل مرتين سابقاً، لكن هذه المرة كان مزاجي سيئاً، فقلت لها بعلو صوتي: مودي ما يسمحش، فردت قائلة: نعم ياختي؟! رددت بتحد وبصوت عال وأنا أضغط علي كل حرف: يعني ماليش مزاج يا عضو أمِك »1«. كنت في هذا اللحظة عند نطقي لهذه الجملة بالذات، علي عتبات إحدي نوبات غضبي الجامحة التي تعرفها جيدا: حين أفقد السيطرة علي كل ما أقول وما أفعل، أتحول لشخص لا أعرفه، ولا أذكر ما قلت أو فعلت حين أفيق من النوبة. بعد الخناقة وفي الحبس الانفرادي- الذي أحببته أكثر من العنبر بالمناسبة- كنت أتذكر من الخناقة بعض اللقطات المشوشة للنسوة تصرخن، وزحام كتل اللحم حولي، يضربن ويفادين الضرب عني، ثم أتذكر بوضوح هذا المشهد: غادة تخرج الموسي من أسفل حلق فمها، وتلوح به في الهواء، مرددة بصوت مسرسرع شامت أنها ستعلّم عليّ، ثم خطفي للموسي من بين إصبعيها في حركة مفاجئة غير متوقعة، والرعب البادي في عينيها غير المصدقتين، ثم نظرتي الثابتة مباشرة إليهما وقولي: تعلمي علي مين يا أنثي الأسد،»2« بينما يدي تمشي بالموسي علي خدي الأيمن من أسفل عيني وإلي ذقني، ثم تنتقل بسلاسة إلي الخد الأيسر وتفعل المثل، ثم الجبهة بخط أفقي بعرضها، ودماء لا أراها ولكن أشعر بدفء اندفاقها، وغادة مبهوتة، ومعها النسوة يصرخن في فزع. العجيب أني لا أذكر الألم رغم أنه الآن لا يفارقني مع كل تعبير يرسمه وجهي، ومع كل فتح لفمي. يا حبيبي أعرف أن ما أقوله يعذبك، ولكن اسمع: هذا كان أفضل ما فعلت منذ مجيئي لهنا، وإن كنت نادمة علي شيء فهو عدم شج شرايين يدي اليسري في مثل هذه الفرصة الساحرة. لا أعرف الحقيقة لماذا لم أفعل ذلك، ربما لأن نوبات الغضب تلك تحجب عني كل تفكير عقلاني، وربما لأني استمرأت الرعب في عيونهن، أبيْت أن أرحل دون أن أترك انطباعي الأثير لديهن: مخبولة. وجهي الشائه بغرزه العديدة لا يعنيني علي الإطلاق، قريبا سأرحل عن هذا الوعاء بالكامل، لأحلق في سماء استراليا، حيث لا جسد يسجنني. بعد الخناقة كانت هناك المستشفي، ثم العقاب: قص الشعر، الذي أصررت في تحدٍ أن يكون حلقاً تاماً، ثم الحبس الانفرادي. ثم والأهم الهيبة التي تغلفني الآن برأسي الصلعاء ووجهي الشائه ودماغي المخبول: مجنونة ومستبيعة. أنا في عنبر الواردات، وبفضل خراطيش السجائر لم أذهب لعنبر الرأي بعد، وهو لعلمك، وإن كانت النسوة هناك أرقي، إلا أنه مزدحم أكثر بكثير من هنا، ورغم وجود أسرة به، إلا أن عليّ أن أنام علي الأرض أيضاً حتي يحين دور حصولي علي واحد. أفضّل عنبر الورديات بزحامه الأقل، رغم عدم وجود أسرة للنوم. ومع ذلك أهرب من زحام الأجساد الملتصقة علي الأرض في عنبري، إلي أرض الحمام، أفرش البطانية وأنام علي أرض الحمام. الحمد لله أن الحمامات هنا بلدي، لم أكن أتصور أبداً أن أجلس علي قاعدة كابنيه لوثتها مؤخراتهن وأفخاذهن المتعرقة. والرائحة ليست بالأزمة، مع الوقت ستعتادها حتي لا تشعر بوجودها. لا آكل إلا ما ترسله أمي، أخذ وجبة السجن يوميا، وأعطيها لمن ترغب بها من الأخريات. أقضي الوقت في قراءة روايات الجيب، حيث إنها جيدة لقتل الوقت، ساعة التريض بعد العصر، أمدد علي الأرض وأحملق في السماء وأطير، بينما أتلصص السمع للكثير من حكايات النسوة ولغطهن حولي. وأغني كثيرا يا حبيبي، قد استغرق ما يقارب الساعة إلا ربعاً في غناء أغنية كاملة للست. وأغني لعبد الوهاب، جارة الوادي بالذات، ولجورج وسوف أيضاً، وأرقص أحيانا طربة لصوتي الذي أعرف أنه قبيح! أدخن كثيرا، السيجارة لا تفارق فمي، لم تعد تعنيني رئتي العطبة، الوعاء بكامله ذكما قلت لك سابقاً- لم يعد يعنيني. أكتب لك هذا الجواب يا حبيبي لأودعك. اليوم قررت بلا رجعة السفر إلي أستراليا، بعد الغداء، سأشتري كوب شاي، أشربه علي مهل وبمزاج رائق، ثم أدخل إحدي غرف الحمام، وأغلق علي الباب بإحكام، وأكسر الكوب وأشج شرايين يدي اليسري بشظية من زجاجه، وأشاهد جمال حمرة الدماء الدافئة تفور من باطن معصمي، سأغني داخل رأسي، لأني سأكون أضعف من أن يخرج صوتي. فيما تحلق بي الطائرة للأراضي الأسترالية سأغني: غريبة ومش غريبة، إني أكون في لحظة مخيفة، خبر كان وسط الصحيفة، وفجأة أكون زي السطور، زي السطور المليانين، بحاجات كتيرة منورين، وانطفي ف الحال من غير سؤال. 1 - شتيمة دارجة في المجتمع المصري، يعرفها الصغير قبل الكبير، لكن حرصاً علي الحياء العام الذي غدا خدشه بالخيال سهلا، وتجنباً لقضايا يمكن أن ترفع، وسجن أصبح من السهل أن ينتهي بي الحال فيه ككتابة، اكتفي بالإشارة للفظ بالفصحي! 2- نفس الشرح والتفسير أعلاه!