بالأرقام، لطفي شحاتة يحسم صدارة الحصر العددي في الزقازيق ب71,214 صوتا    من الإسكندرية إلى القاهرة والعكس، جدول كامل لمواعيد قطارات اليوم الجمعة 19 ديسمبر 2025    ما حضرتش فرح ابنها، نجل حنان ترك يحتفل بزفافه بعيدًا عن الأضواء دون ظهور والدته (صور)    بعد قليل، ظاهرة فلكية ترى بالعين المجردة تزين السماء    الداخلية تضبط 20 شخصًا على خلفية مشاجرة بين أنصار مرشحين بالقنطرة غرب    نائب وزير الإسكان يبحث التعاون مع شركة كورية متخصصة في تصنيع مكونات محطات تحلية المياه والصرف الصحي    محمد منير يشعل تريند جوجل ب«مكاني».. أغنية الوحدة العربية تتوّج ختام كأس العرب 2025    مصطفى بكري: أناشد الرئيس السيسي تخفيف الأعباء عن الغلابة والطبقة المتوسطة.. الأسعار هارية الناس    عبد المنعم سعيد: الإعلان عن اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والسودان هو تفعيل لها    رئيس إدارة المديريات الزراعية: صرف الأسمدة سيضم 6 محافظات بموسم الصيف المقبل    مشاجرة عنيفة وألعاب نارية باللجان الانتخابية في القنطرة غرب بالإسماعيلية، والقبض على 20 متورطا    «مطروح للنقاش».. إعادة هيكلة الجيش الأمريكي وتغييرات البث الرقمي    أسعار الذهب اليوم الجمعة 19 ديسمبر في بداية التعاملات    كبير الأثريين: الحضارة المصرية عقدة اليهود الأزلية.. الهجوم على المتحف الكبير سببه أنه مشروع ناجح    العليا للتفتيش الأمني والبيئي تتابع إجراءات تشغيل البالون الطائر بالأقصر    مستشار الرئيس للصحة: لا يوجد وباء والوضع لا يدعو للقلق.. والمصاب بالإنفلونزا يقعد في البيت 3 أو 4 أيام    اللجنة العامة ببنها تعلن الحصر العددي لجولة الإعادة بانتخابات النواب 2025    اللجنة العامة للدائرة الثالثة بالإسماعيلية تعلن نتيجة الحصر العددي للناخبين    الحصر العددي الأول بلجنة طنطا رقم 1، نتائج فرز أصوات اللجان الفرعية    انفجارات في أوريول.. أوكرانيا تستهدف محطة كهرباء روسية    واشنطن تفرض عقوبات على سفن وشركات شحن مرتبطة بإيران    اجتماع رفيع المستوى في ميامي.. ويتكوف يلتقي الوسطاء لبحث ملف غزة    الحصر العددي للدقهلية: تقدم عبدالسلام وأبو وردة والجندي ومأمون وشرعان    بعد جدل أمني، تيك توك تبيع أصولها في أمريكا    سفير مصر في المغرب يكشف تفاصيل معسكر منتخب مصر قبل كأس الأمم    اللجنة العامة للدائرة الثالثة بالإسماعيلية تعلن نتيجة الحصر العددي للناخبين    بالأرقام، الحصر العددي للدائرة الثامنة بميت غمر    نجاة الفنان وائل كفوري من حادث طائرة خاصة.. اعرف التفاصيل    بناء القدرات في تحليل وتصميم نماذج العواصف الرملية والترابية بالشرق الأوسط    فوز «حسن عمار» في جولة الإعادة بالدائرة الأولى ب انتخابات مجلس النواب ببورسعيد    وكيل فرجاني ساسي يصدم الزمالك: سداد المستحقات أو استمرار إيقاف القيد    كأس عاصمة مصر - إبراهيم محمد حكم مباراة الزمالك ضد حرس الحدود    أمم إفريقيا - منتخب مصر يخوض مرانه الأول في المغرب    (اشتباكات الإسماعيلية) إهانات بين الكعب الأعلى: جيش أم شرطة؟.. وناشطون: طرفان في المحسوبية سواء    بالأرقام، الحصر العددي لجولة الإعادة بالدائرة الأولى بالمنصورة    محمد موسى عن واقعة نبش قبر فتاة: جريمة تهز الضمير قبل القانون    «لم يصلوا أبداً».. حكاية 7 أشخاص احترقت بهم السيارة قبل أن تكتمل الرحلة بالفيوم    رحلة التزوير تنتهي خلف القضبان.. المشدد 10 سنوات ل معلم صناعي بشبرا الخيمة    الزمالك يهنئ بنتايج والشعب المغربى بالتتويج ببطولة كأس العرب    رئيس الوزراء يرد على أسئلة الشارع حول الدين العام (إنفوجراف)    جوتيريش يدعو إلى توظيف الهجرة لدعم التنمية المستدامة وتعزيز التضامن الإنساني    فلسطين.. قصف مدفعي إسرائيلي يستهدف جباليا شمال قطاع غزة    مش فيلم.. دي حقيقة ! شاب مصري يصنع سيارة فوق سطح منزله مع "فتحى شو"    أزهر اللغة العربية    بميزانية تتجاوز 400 مليون دولار وب3 ساعات كاملة.. بدء عرض الجزء الثالث من «أفاتار: نار ورماد»    مصطفى بكري: الطبقة المتوسطة بتدوب يجب أن تأخذ حقها.. وننقد حرصا على هذا البلد واستقراره    ترامب يدعو أوكرانيا إلى التحرك سريعا لإنهاء الحرب    كونتي: هويلوند يمتلك مستقبلا واعدا.. ولهذا السبب نعاني في الموسم الحالي    هل يرى المستخير رؤيا بعد صلاة الاستخارة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل عليَّ إثم لو لم أتزوج؟.. أمين الفتوى يجيب أحد ذوي الهمم    سنن يوم الجمعة: آداب وأعمال مستحبة في خير أيام الأسبوع    اللجنة العليا للتفتيش الأمني والبيئي تتفقد مطار الأقصر (صور)    وزير الأوقاف يكرم عامل مسجد بمكافأة مالية لحصوله على درجة الماجستير    محافظ الدقهلية يكرم أبناء المحافظة الفائزين في المسابقة العالمية للقرآن الكريم    المستشفيات التعليمية تناقش مستجدات طب وجراحة العيون في مؤتمر المعهد التذكاري للرمد    قبل صافرة البداية بساعات.. بث مباشر مباراة السعودية والإمارات في كأس العرب 2025 وكل ما تريد معرفته عن القنوات والتوقيت وطرق المشاهدة    الأردن يواجه المغرب في نهائي كأس العرب 2025.. كل ما تحتاج لمعرفته عن البث المباشر والقنوات وطرق المشاهدة أونلاين    وزير الصحة: الذكاء الاصطناعى داعم لأطباء الأشعة وليس بديلًا عنهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجنابي يواصل استكمال رؤاه لرسم خارطة قصيدة النثر العالمية
نشر في شموس يوم 21 - 06 - 2015

يواصل الشاعر والمترجم القدير عبد القادر الجنابي في كتابه "ديوانٌ إلى الأبد: قصيدة النثر/ انطولوجيا عالميّة" (392 صفحة) رسالته في استكمال رؤاه لخارطة قصيدة النثر عالميا وعربيا، حيث سبق أن وضّح التمييز، بشكل نظري، بين ما يسمى في العربية قصيدة النثر وبين ما تمثله حقا قصيدة النثر في معظم بلدان العالم بالأخص أوروبا وامريكا. وذلك بتخصيص عدد من مجلة "فراديس" (1992) التي كان يشرف عليها، لقصيدة النثر. كما خصص عدة كتب وانطولوجيات لها، لكي تساعد القارئ العربي على معرفتها وعلى ما تتميز بها عن الشّعر الحر والشّعر المشطّر غير الموزون.
من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الصادر عن دار التنوير اللبنانية بمقدمته الأكاديمية وشرحيته لقصيدة النثر الحقة وخلفيتها وتطوراتها العالمية، يبدأ متسائلا: ما هي قصيدة النثر ويرد في احدى عشر نقطة تحيط بالقصيدة ولادتها وخصائصها بنيتها طولا وقصرا ولغتها واختلافها مع سابقاتها، يقول الجنابي :
1- صحيح أنّ مصطلح قصيدة النثر كان شائعاً منذ القرن الثامن عشر. وأوّل من استخدمه، فوفق سوزان برنار، هو اليميرت عام 1777، أمّا مونيك فتلاحظ، في دراستها التي تتمحور حول الايقاع في شعر سان جون بيرس، أنّ المصطلح هذا يعود إلى شخص اسمه غارا، وقد استعمله في مقال حول "خرائب" فونلي، وذلك عام 1791. وفي دراسة قيمة، صدرت في باريس عام 1936، حول "قصيدة النثر في آداب القرن الثامن عشر الفرنسية"، يتضح أنّ المصطلح كان متداولا في النقاشات الأدبية. على أنّ بودلير أحدث تغييراً في مصطلح قصيدة النثر، وأطلقها كجنس أدبي قائم بذاته، بل هو أوّل من أخرج المصطلح من دائرة النثر الشعري إلى دائرة النص: الكتلة المؤطرة. ولم يكن اعتراف بودلير بمرجعية اليزيوس برتران في هذا المجال اعتباطياً أو مجرد اعتراف بالجميل، وإنما كان تلميحاً إلى "معجزة نثر شعري" كان يحلم بإنجازها. ذلك أنّ اليزيوس برتران، هذا الشاعر الرومانتيكي، ترك تعليمات إلى العاملين على طبع كتابه "غاسبار الليل"، أنْ يتركوا فراغاً بين فقرة وأخرى مشابهاً للفراغ المستعمل عادة في تصميمات كتب الشعر، وبهذا يكون أوّل من التفت إلى تقديم نص نثري ملموم ومؤطّر في شكل لم يُعرف من قبل. كما أنّ بودلير كان واضحاً أنه يعني شيئاً جديداً غير موجود، وذلك عندما كتب في رسالته الشهيرة إلى هوسييه، "من منا لم يحلمْ، في أيام الطموح، بمعجزة نثرٍ شعري" (انظر ملحق 1). إذن من الخطأ الكبير أنْ نحاول العثور على أشكال لقصيدة النثر البودليرية في ماضي النثر الفرنسي. ذلك أنّ بودلير في مشروعه نحو لغة شعرية تستطيع انْ تتقاطب وما يتجدد مدينياً في شوارع الحياة الحديثة، جعل كلّ القِطَع النثرية التي كتبت قبله، تنام كأشباح في ليل النثر الفرنسي؛ آثاراً توحي ولا تُري أية إمكانية نظرية تأسيسية.
2- من الخطأ الشائع اعتبار قصيدة النثر تطوّراً للنثر الشِّعري الكلاسيكي الفرنسي وتكملةً له. ذلك أنْ ما كان يُطلق عليه قصيدة نثر هو أعمال روائية تتوسل محاسن البديع وتستعير إيقاعات النظم، لكي ترتقي إلى مصاف الأعمال الشعرية. بينما قصيدة النثر هي قصيدة مادتها النثر (وهذه هي الترجمة الحرفية للكلمة الفرنسية: Poème en prose ). وتجدر الإشارة هنا إلى مسألتين، الأولى: إنّ السبب وراء الفكرة التي تقول أنّ ظهور قصيدة النثر كان تصدّياً لطغيان العروض، هو أنّ النثر- أداة قصيدة النثر- خال من كل قواعد عروضية وبالتالي يمنح حرية أكبر للشاعر لكي يعبر عن انفعالاته الباطنة. والثانية: إنّ تصاعد الرومانتيكية أعطى معنى جديداً لمفردة "الغنائية" Lyrique. فبعد أنْ كانت تُطلق على الشعر الذي يُنظم بقصدِ التغنّي به في موضوعات أو الرواية أو السرد القصصي على أوتار القيثارة القديمة المسماة القيثارة، (وهذا يعني أنَ عنصرَ الموسيقى جزء حاسم في صياغتها)… صار لها معنى جديد اعتباراً من الربع الأول من القرن التاسع عشر، هو: الوظيفة المشاعرية كالحسية المُعبَّر عنها في الصور، في العاطفة الفردية وأحاسيس الفرد الداخلية، وباتت مصطلحاً يُطلق على كلّ عمل أدبي، حتّى النثر (وفقَ قاموس ليتريه)، يعبّر عن الوجدان والعواطف ومتحرر كلياً من مُضمرات الموسيقى. واقترِحُ كلمة "الوجدانية" كمقابل ل Lyrique لكي يتّضح هذا التغيير الانقلابي والحداثي في الحسّية الشعرية التي مهدت الطريق لظهور قصيدة النثر.
3- قصيدة النثر ولدت على الورقة أي كتابياً، وليس كالشعر على الشفاه، أي شفوياً. لم ترتبط بالموسيقى كالشعر ولم يقترح كتُّابُها أنْ تُغنّى، ولا يمكن أنْ تُقرأ ملحمياً أو بصوت جهوري يحافظ على الوقفة الإيقاعية القائمة بين بيت وآخر/ سطر وآخر، كما في قصائد حركة "النظم الحر" (وأقصد Vers Libre، لأن ترجمة هذا المصطلح ب"شعر حر" يخلق سوء فهم مفاده أنّ الصراع هو بين الشعر Poésie والنثر، بينما هو، في الحقيقة، بين النثر والنظم).
إنّ غياب التقطيع أو التشطير في قصيدة النثر يشكّل علامتها الأساسية. ففي النظم الحر، في نهاية كل سطر / بيتٍ، ثمّة فراغ يسميه كلوديل البياض… هذا البياض هو لحظة تنفّس إيقاعي ضروري لجمالية القصيدة المشطّرة، كما يتغير فيها الإيقاع من شاعر إلى شاعر بسبب هذه الوقفة/القطع في سير الإيقاع. هذا البياض يمنح القصيدة الحرّة هيئتها الشعرية، بينما قصيدة النثر تكتسب هيئتها وحضورها الشعري من بنية الجملة وبناء الفقرة… والبياض غير موجود (رغم وجود الفواصل والعلامات فيها لأسباب يقتضيها بناء الجملة) إلّا في نهاية الفقرة التي تجعل القارئ مستمراً في القراءة حتّى النهاية. ولا ننسى أنّ أغلب قصائد النثر تتكوّن من فقرة واحدة، وبعضها من فقرتين. علينا ألا ننسى أيضاً أنّ "الشعر" كلمة عامة وشاملة يمكن أنْ تُطلق على أي شيء، بينما كلمة قصيدة تدل على وجود مستقل، على بناء لغوي قائم بذاته…
4- قصيدة النثر لا يختلف بناؤها عن قصر المتاهة المذكور في الأساطير اليونانية. يمكن لشاعر قصيدة النثر أنْ يبدأ من أيّ مدخل يشاء:
"كان يا ما كان… "
"عندما كنا… "
"ذات ليلة، عندما…. "
أو على طريقة الشاعر الصديق عباس بيضون، الذي يختار الدخول على نحو مفاجئ: "الأربعة النائمون على الطاولة وسط الجبال لم يشعروا بخيال الطائر وهو يتضخم في الغرفة.."
المدخل إذن سهل جداً، ما هو صعب المنال في كتابة قصيدة النثر هو الختم/ نهاية القصيدة. لا يكفي أنْ تعرف كيف تبدأ فحسب، وإنما عليك أنْ تعرف كيف تخرج من، أي كيف تختم القصيدة، كما يقول روبرت بلاي.
5- شاعر قصيدة النثر يَعرفُ مسبقاً وذهنياً، وإلى حدّ، حجم الكتلة/ مساحة القَصر. ذلك أن قَصر المتاهة بناء مكون من حيطان تتعاقب وتتقاطع؛ قصيدة النثر فقرة مكونة من جمل تتلاحق بكثافة حادةٍ دافعةً القارئ إلى أنْ "يستقرئ العواطف البعيدة أو يجسّ الرِعدات الدقيقة… مستضيئاً بالجملة اللاحقة ليُبصر السابقة"، على حد عبارة بشر فارس في تلخيصه عن القصّة القصيرة دون أنْ يدري أنّه كان يعرّف قصيدة النثر، بشكل ما.
6- هناك عنصرا مكوّن أساسي يمكننا من خلاله فقط أنْ نُميز قصيدة النثر عن باقي الكتل، النصوص والأشعار النثرية. إنّه اللاغرضية المجانية (gratuité). وهو أشبه بالخيط الذي أعطته أريان إلى ثيسيوس الذي بقي يتتبّعه حتّى الطريق الذي يخرجه من المتاهة.
الإيجاز brièveté إذن، هو نتيجة تقاطب عنصرين اساسيين يعملان داخل قصيدة النثر، كلٌّ وفق حركته؛ قاعدته: الكثافة حدّ الاحتداد intensité حيث السرد المتحرك المنقطع السلك بين حائط وآخر، جملة وأخرى، يشدنا بسلسة واحدة من البداية حتى النهاية دون أي تباطؤ.. واللاغرضية المجانية هي سلك الخيط الذي يقود من المدخل / البداية إلى المخرج / الخاتمة وعلينا أن نتتبّعها، وإلا سنضيع في متاهة نثر شعري له ألف رأس وألف ذيل، بينما غايتنا كتلة "لا رأس لها ولا ذيل"، كما وضّح بودلير في رسالته إلى هوسييه.
تكمن شعرية قصيدة النثر في هذه اللاغرضية… المجانية. فالنثر بحد ذاته غير قادر على التخلّص من وظيفة الوصف بغرضية منطقية. فبفضل عنصر اللاغرضية، يتخلص السرد الذي هو سمة أساسية في قصيدة النثر، من جفوته، ومنطقيته النثرية، فهو هنا ليس وصف مخطط روائي يريد أنْ يصل إلى نتيجة ما، وإنما لغرض مجاني فني جمالي محض. عندما يبدأ أنسي الحاج قصيدة له ب"ذلك العهد يدُ ماموت لم تكن ظهرتْ…" "ذلك العهد" ليس هنا لغاية سياقية تاريخية معلومة، وإنما لخلق إيحاء جمالي لحدث غير موجود.
7- يجب ألا نخلط بين قصيدة النثر والشظية الفلسفية كما عند نيتشه، ففي هذه الشظايا/ الشّقائق النثرية، ثمة قصد فلسفي وغرضية واضحة، أو متسترة وراء موعظة ما. قصيدة النثر هي النثر قصيدةً: كتلة "يتأتى قِصَرُها من نظامها الداخلي، ومن كثافتها النوعية ومن حدتها المتزنة". ليس لها أية غرضية، بل خالية من أيّ تلميح إلى مرجع شخصي: كتلة قائمة بذاتها… أو كما كتب الشاعر الفرنسي ادموند جالو، عام 1942، "قطعة نثر موجزة على نحو كاف، منتظمة ومرصوصة مثل قطعة الكريستال يتلاعب فيها مائة انعكاس مختلف… إبداع حر لا ضرورة أخرى له سوى متعة المؤلف، خارج أي تصميم مُلفّق مسبقاً، في بناء شيء متقلّص، إيحاءاتُه بلا نهاية، على غرار الهايكو الياباني".
8- تنطوي "قصيدة النثر"، كما تقول سوزان برنار، "على قوّة فوضوية، هدامة تطمح إلى نفي الأشكال الموجودة، وفي الوقت ذاته، على قوّة منظِمة تهدف إلى بناء (كلٍّ) شعريٍّ؛ ومصطلح قصيدة النثر نفسه يُظهرُ هذه الثنائية". في قصيدة النثر، إذن، توتر كامن يطيح بأية إمكانية توازن بين نقيضين بقدر ما يحتضنهما. وهذا يعني أنّ قصيدة النثر، كما تقول بربارة جونسن في دراستها الرائدة عن ثورة بودلير الثانية، تتسم بقوتين: "إذا الشعرُ هو عَرْضٌ ذو سمة بمواجهة النثر كعرض بلا سمة واضحة، فإن قصيدة النثر تتميز بقوتين متعارضتين: حضور ضد غياب السمة و"إحالة الى قانون الشعر" ضد "إحالة إلى قانون النثر"… فقصيدة النثر لا هي نقيض ولا هي توليف، إنما هي المجال الذي اعتباراً منه تبطل وظيفة الاستقطابية، وبالتالي التناظر بين الحضور والغياب، بين الشعر والنثر".
من هنا يتّفق جُلّ النقاد على أنّهم أمام جنس أدبي شاذ غرضه تهديم الأنواع genres. ناهيك عن أنّ شكلها الوحيد الأوحد، ينطوي أيضاً على بعد تهديمي بصري وبالتالي مفهومي، يقوم بنسف الأفكار المسبقة والعادات المفهومية لدى القارئ الذي ما يرى أبياتاً أو عبارات مقطّعة حتّى يصرخ أنها قصيدة، إذ أنّها في نظره ليست نثراً.
9- نعود ثانية إلى سؤالنا: ما هي قصيدة النثر؟ إنّها كلُّ هذا وليس. لكن الشيءَ المؤكد هو أنّها نقيض قصيدة النثر العربية السائدة التي لا تلبّي مطلباً واحداً مما أتفق جلُّ النقاد عليه، رغم كل الاختلافات بينهم، بشأن قصيدة النثر. هناك أنماط من قصيدة النثر: البارناسية، الرمزية، التكعيبية، السوريالية، الظاهراتية، والأمريكية الغارقة بقضية اللغة والسرد الغرائبي. لكن في كلّ هذه الأنماط، الشكل واحد أوحد: كتلة قوامها نثر متواصل في جمل تجانس أي نثر آخر.
10- بطبيعة الحال، يحقُّ لكلّ شاعرٍ أنْ يكتبَ وفق نبض أحاسيسه وصوته الخاص، وليسمّ مخلوقاتَهُ كما يشاء، فقط عليه أنْ يَعرفَ أنّ مصداقية الشكل والمضمون هي عين ثقة الشاعر بما يقول. وقد يعترض شاعر على أنّ التسمية ليست ضرورية، ربّما، لكن لماذا يسمي "قصيدةَ نثر"، عملاً مشطّراً اعتنى بتقطيعه موسيقياً متوسلاً كل المحاسن البديعية التي ترفضها قصيدة النثر… بل حتّى شدد على وقفات تُعتبر عاملَ بطءٍ إذا استخدمت في كتلة قصيدة النثر؟ أليس اعتباطاً أن يسمّيَ شاعرٌ يكتب عادةً أشعاراً موزونة، كلَّ قصيدة لا يتمكن من ضبطها عروضياً، قصيدة نثر وليس شعراً فحسب! وكأن الشعرَ في نظره ليس سوى تفعيلات قُررت سلفا.
11- رفض الحدود المرسومة لا يتم إلّا عندما يعرف الشاعر ما هي هذه الحدود، وبماذا تتميز… حتى يكون لرفضه فضاؤه هو، مُنقّى من كلّ شوائب التسميات التي كانت من طبيعة تلك الحدود المرفوضة. لقد وقف بروتون ضد فكرة الأجناس الأدبية، معتبراً أنّ الشعر تعبيرٌ عن استرداد المخيلة البشرية لحقوقها، وليس جنسا أدبياً خاضعا لقوانين مدرسية… من هنا لم يُسمّ كُتَلهُ النثرية قصائدَ نثرية رغم أنّ النقادَ يعتبرون بعضَها قصائدَ نثرٍ بامتياز! إنَّ الإصرار على تسمية عمل جوهرُه يتعارض، شكلاً ومضموناً، مع ما يتميّز به هذا الاسم، لهو في نظري، تعبيرٌ عن اعتباطية العمل نفسه.
ولنجمل القول في إعطاء تعريف مبسّط لقصيدة النثر، نقول، معتمدين على مقال للشاعر الفرنسي لوك ديكون: إنّ قصيدة النثر لهي عمل فني، وكأي عمل فنّي آخر، فهي ذات قابلية لتوليد انفعال خاص يختلف تماماً عن الانفعال الحسّي أو الانفعال العاطفي. ولتحقيق هذه الغاية ينبغي على قصيدة النثر أنْ تختار الوسائل المناسبة: أنْ تختار الأسلوب. بعبارة أوضح: أنْ تختار المواد المركبة للعمل المتكامل. على قصيدة النثر أنْ تكون قصيرةً ومكثّفةً، خاليةً من الاستطرادات والتطويل والقصّ المفصّل وتقديم البراهين والمواعظ. عليها أنْ تكون قائمةً بذاتها، مستقلةً بشكلها ومبناها، لا تستمد وجودها إلا من ذاتها، مُبعَدة ومنفصلة تماماً عن المؤلّف الذي كتبها؛ ينبغي أنْ تمتنع قدر الإمكان عن اقحام أمور لا تمت لها بصلة، وذلك لكي تتحلّى بالفنتازيا وبخفة الروح والخيال. المهم أنْ تتواجد تواجداً حرّاً داخل هامش ما. إن اختيار الأسلوب وتحديد المقام يفرضان ما يمكن تسميته "التأثير" و"الانغلاق"، فقصيدة النثر ذات شكل متكامل، محصور بخطوط صارمة، وبنسج محكم. إنّها عمل مغلق على ذاته، مثله مثل الفاكهة أو البيضة. قصيدة النثر ذات المبنى المحكم والإطار المحدود، لا تتحمل الاستفاضة في استعمال الأدوات الجمالية، أو المبالغة بالصور والتزويق. يجب أنْ تتحاشى كلّ تظاهر متعمد. وحسب قول ماكس جاكوب "إن القصيدة مادة جاهزة وليست عارضة مجوهراتي". ويضيف "على قصيدة النثر أنْ تبتعد عن أيّة مقابلة مع الواقع، فلا مجال للمقارنة بينها وبين شيء آخر لإقامة التشابه. قصيدة النثر لا تسعى لخلق شيء سوى ذاتها هي".
هذا وقد ضم الكتاب الترجمة لكاملة للبيانين الرئيسين لقصيدة النثر الذين كتبهما شارل بودلير وماكس جاكوب، وبالطبع ترجمة (معظمها عن الأصل)و 420 قصيدة نثر نموذجية عالمية ل 117 شاعراً عالمياً، وقد اشترك معه عدة مترجمين من بينهم هاتف جنابي، عادل صالح الزبيدي، صالح كاظم، سحبان أحمد مروة، الخ… أما الشّعراء العرب الذين اختار لهم الجنابي في كتابه، فهم: فؤاد كامل، أنسي الحاج، أحمد راسم، يوسف الخال، فادي سعد، عقل العويط، حسين مردان، شوقي ابي شقرا، مؤيد الراوي، عباس بيضون، بول شاوول، عيسى مخلوف، حلمي سالم، عبد المنعم رمضان، عبد القادر الجنابي، رعد عبد القادر، منتصر عبد الموجود، فاضل العزاوي، أمجد ناصر، عاشور الطويبي، نصيف الناصري، سركون بولص، هاتف جنابي، سوزان عليوان، وديع سعادة، عبده وازن وحسن ملهبي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.