قصف صاروخي وانفجارات وحرائق.. تفاصيل الهجوم الإسرائيلي على سوريا    انعقاد اجتماع وزراء خارجية كوريا الجنوبية والدول الأفريقية في سول    ماذا تفعل في حالة فقدان بطاقة نسك خلال موسم الحج؟.. وزارة الحج توضح    الغموض يسيطر على مستقبل ثنائي الأهلي (تفاصيل)    نتيجة الإعدادية على بوابة الأزهر الشريف برقم الجلوس.. اعرف الخطوات    أحداث شهدها الوسط الفني خلال ال24 ساعة الماضية.. شائعة مرض وحريق وحادث    سماع دوي انفجارات عنيفة في أوكرانيا    هل زاد سعر السكر في التموين ل 18 جنيه .. الحكومة توضح    «مبيدافعش بنص جنيه».. تعليق صادم من خالد الغندور بشأن مستوى زيزو    أفشة يكشف ما دار مع كولر بعد مباراة مازيمبي.. ولوم بسبب فرصتين مهدرتين    خوسيلو: لا أعرف أين سألعب.. وبعض اللاعبين لم يحتفلوا ب أبطال أوروبا    أفشة ابن الناس الطيبين، 7 تصريحات لا تفوتك لنجم الأهلي (فيديو)    أفشة يكشف سر فيديو الطرمبة بجانب والدته، وسبب فشل شقيقه في كرة القدم    ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على منزلين شرق خان يونس إلى 10 شهداء    دولة عربية تحظر ارتداء الكوفية الفلسطينية في امتحان البكالوريا    زلزال بقوة 5.9 درجات يضرب "إيشيكاوا" اليابانية    إعادة فتح طريق " قفط القصير" بعد نقل مصابي حادث تصادم سيارتين إلي مستشفى قنا    محافظ بورسعيد يودع حجاج الجمعيات الأهلية.. ويوجه مشرفي الحج بتوفير سبل الراحة    تعرف على آخر تحديث لأسعار الذهب.. «شوف عيار 21 بكام»    محمد الباز ل«بين السطور»: «المتحدة» لديها مهمة في عمق الأمن القومي المصري    «زي النهارده».. وفاة النجم العالمي أنتوني كوين 3 يونيو 2001    أسامة القوصي ل«الشاهد»: الإخوان فشلوا وصدروا لنا مشروعا إسلاميا غير واقعي    فضل صيام العشر الأوائل من ذي الحجة وفقا لما جاء في الكتاب والسنة النبوية    «رئاسة الحرمين» توضح أهم الأعمال المستحبة للحجاج عند دخول المسجد الحرام    وزير الصحة: تكليف مباشر من الرئيس السيسي لعلاج الأشقاء الفلسطينيين    تكات المحشي لطعم وريحة تجيب آخر الشارع.. مقدار الشوربة والأرز لكل كيلو    إعلام فلسطينى: اندلاع حريق فى معسكر لجيش الاحتلال قرب بلدة عناتا شمالى القدس    إنفوجراف.. مشاركة وزير العمل في اجتماعِ المجموعةِ العربية لمؤتمر جنيف    منتدى الأعمال المصري المجري للاتصالات يستعرض فرص الشراكات بين البلدين    إصابة 8 مدنيين إثر قصف أوكراني استهدف جمهورية دونيتسك    أفشة: أنا أفضل لاعب في مصر.. واختيار رجل المباراة في الدوري «كارثة»    العثور على جثة طالبة بالمرحلة الإعدادية في المنيا    أفشة: 95% من الناس في مصر لا تفهم ما يدور في الملعب.. والقاضية ظلمتني    تنخفض لأقل سعر.. أسعار الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الإثنين 3 يونيو بالصاغة    السجيني: نزول الأسعار تراوح من 15 ل 20 % في الأسواق    المأزوم.. عماد الدين أديب: اقتراحات بايدن لإنهاء الحرب حلحلة في صورة هدنة    الذكاء الاصطناعي يحدث ثورة في الكشف المبكر عن قصور القلب    أصعب 24 ساعة.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم الإثنين: «درجات الحرارة تصل ل44»    الإفتاء تكشف عن تحذير النبي من استباحة أعراض الناس: من أشنع الذنوب إثمًا    دعاء في جوف الليل: اللهم افتح علينا من خزائن فضلك ورحمتك ما تثبت به الإيمان في قلوبنا    دفن جثة شخص طعن بسكين خلال مشاجرة في بولاق الدكرور    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم دراجتين ناريتين بالوادي الجديد    "التعليم": شرائح زيادة مصروفات المدارس الخاصة تتم سنويا قبل العام الدراسي    دراسة صادمة: الاضطرابات العقلية قد تنتقل بالعدوى بين المراهقين    استقرار سعر طن حديد عز والاستثمارى والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 3 يونيو 2024    رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني يعلق على تطوير «الثانوية العامة»    النيابة الإدارية تكرم القضاة المحاضرين بدورات مركز الدراسات القضائية بالهيئة    سعر المانجو والبطيخ والفاكهة في الأسواق اليوم الإثنين 3 يونيو 2024    «فرصة لا تعوض».. تنسيق مدرسة الذهب والمجوهرات بعد الاعدادية (مكافأة مالية أثناء الدراسة)    محمد أحمد ماهر: لن أقبل بصفع والدى فى أى مشهد تمثيلى    إصابة أمير المصري أثناء تصوير فيلم «Giant» العالمي (تفاصيل)    الفنان أحمد ماهر ينهار من البكاء بسبب نجله محمد (فيديو)    حالة عصبية نادرة.. سيدة تتذكر تفاصيل حياتها حتى وهي جنين في بطن أمها    وزير العمل يشارك في اجتماع المجموعة العربية استعدادا لمؤتمر العمل الدولي بجنيف    التنظيم والإدارة: إتاحة الاستعلام عن نتيجة التظلم للمتقدمين لمسابقة معلم مساعد    اللجنة العامة ل«النواب» توافق على موزانة المجلس للسنة المالية 2024 /2025    مفتي الجمهورية: يجوز للمقيمين في الخارج ذبح الأضحية داخل مصر    أمناء الحوار الوطني يعلنون دعمهم ومساندتهم الموقف المصري بشأن القضية الفلسطينية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هكذا كتبت أول قصة قصيرة
نشر في أخبار السيارات يوم 25 - 05 - 2019

يحب الاعتراف أنني لم أقرأ للأدباء الذين كانت أعمالهم شائعة وقتئذ، مثل السباعي ومحمد عبدالحليم عبدالله وغيرهما، حتي يوسف إدريس لم أقرأ من أعماله إلا مجموعات محدودة، مثل أرخص ليالي، والنداهة، ورواية البيضاء، قرأته في سن متأخرة، وهكذا نجوت من تأثيره الطاغي الذي أدرك معظم أدباء الوسط.
كنت في دار الكتب أقرأ الأعمال العظمي وأحلم أن أكتب مثلها.

من دار الكتب استعرت تفسير الأحلام لسيجموند فرويد، قرأته وشعرت أنني لابد أن أقتني هذا الكتاب الذي ترجمه إلي العربية الدكتور مصطفي صفوان وصدر عن دار المعارف.
كان ثمنه مائة وخمسين قرشا، وهذا مبلغ جسيم لطالب في المرحلة الإعدادية لا يتجاوز مصروفه اليومي وقتئذ قرشين صاغ فقط، لقد فتح لي الكتاب آفاقا جديدة في القراءة، وازداد تصميمي علي اقتنائه، عندئذ استعرته من دار الكتب، وكانت المدة القصوي للاستعارة خمسة عشر يوما لابد من إعادة الكتاب بعدها وإلا اتخذت إجراءات في منتهي الجدية، أبسطها حرماني من الاستعارة، وخصم قيمة الكتاب من مرتب الضامن كما تقرره لجنة خاصة من دار الكتب، وهذا ما لا يمكن لمرتب والدي البسيط احتماله. هكذا قررت أن أنقل الكتاب كاملا، حوالي ثمنمائة صفحة، عكفت علي نسخه كاملا، حتي الهوامش المكتوبة بالألمانية والإنجليزية والتي لم أكن أعرف معناها.
لقد مرت السنوات، وفي بداية الثمانينات تعرفت إلي الدكتور مصطفي صفوان في باريس، وعندما أخبرته بذلك دهش، وعندما زار بيتي في حلوان وأطلعته علي ما تبقي من كشاكيل فقدت بعضها أثناء اعتقالي وضاعت بين الأوراق التي تم الاستيلاء عليها قلب صفحاتها، وقال:
- أنت بذلت جهدا لا يقل عن جهدي في نقله إلي العربية.. كان من أثر معاناتي في نسخ الكتاب أنه انطبع في ذهني، حتي أنني أذكر صفحات كاملة منه حتي الآن، وفيما بعد كنت إذا أعجبت بكتاب أو جزء معين أنقله، خاصة عندما بدأت معايشة ابن إياس في كتابه (بدائع الزهور في وقائع الدهور). وعندما وضعت لنفسي برنامجا لقراءة الشعر العربي بمراحله المختلفة، القصيدة التي أتعلق بها أبادر بنسخها بعناية وخط جميل، وهذا ما أقوم به حتي الآن، تلك متعة أخري في القراءة، فكأنني أشارك بشكل ما في خلقها.

مع ترددي المنتظم علي دار الكتب، وإطلاعي علي مصادر التاريخ المصري، والأعمال الأدبية التي لم يكن متاحا لي الحصول عليها، أصبحت قراءاتي أكثر انتظاما، بل يمكن القول انها بدأت تخضع لبرنامج كان في البداية يخضع للتداعي، بمعني أنني أقرأ بدائع الزهور لابن إياس، فأجده يشير إلي كتب أخري، مثل (بذل الماعون في أخبار الطاعون) لابن حجر، ومختصر العجائب لإبراهيم بن وصيف شاه، فأبدأ البحث عن تلك الكتب، وعلي تقدم الزمن اصبحت قراءاتي أكثر منهجية، وأحمد الله أنني لم أفقد نهمي إلي القراءة قط، ومع تقدم العمر يزداد يقيني ويمتد وعي بضيق الوقت المتاح، وكثرة ما يجب أن استوعبه، لقد كان مدخلي إلي التراث قراءة التاريخ، خاصة كتب الحوليات. ويمكن القول انني حتي منتصف الستينات اطلعت علي أهم مصادر التاريخ المصري بدءا من أخبار مصر والمغرب لابن عبد الحكم وحتي عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي، مرورا بالمقريزي ولابن تغري بردي، وابن حجر العسقلاني، والسخاوي، وابن واصل، وغيرهم.
كنت في البداية أقرأ هذه المصادر كما أقرأ الروايات والملاحم الشعبية، وفي خلفية وعيي محاولة للبحث عن إجابة ما لذلك السؤال المحير .
أين ذهب الأمس؟
قرأت التاريخ الفرعوني، وبعض مصادر التاريخ القبطي، ومن الكتب التي أثرت فيّ للغاية خلال الستينات كتاب سندباد مصري للدكتور حسين فوزي، وأنني لأعتبره دليلا جيدا لتاريخ مصر، وعلي الرغم من أنني من جيل تربي علي الإيمان بالعروبة والقومية العربية، لكنني كنت أشعر منذ وقت مبكر أن الدعوة السياسية للقومية العربية كانت تتم علي حساب الإحساس بالمصرية والتي وصلت ذروتها بعد إعلان الجمهورية العربية المتحدة، وتحولت مصر بتاريخها العريق إلي مجرد (إقليم جنوبي).
قرأت بنهم مصادر التاريخ المصري، ولكن الحقبة التي توقفت عندها هي المملوكية بمرحلتيها، دولة المماليك البحرية، ودولة المماليك الجراجية التي انتهت عام سبعة عشر وخمسمائة وألف، وعندما هزم الجيش المصري المملوكي، أمام جيش سليم الأول في مرج دابق شمال حلب، أما المصدر الذي تعلقت به، وعشته، فهو بدائع الزهور في وقائع الدهور للمؤرخ المصري محمد أحمد بن إياس الحنفي المصري الذي عاصر الأعوام الثلاثين الأخيرة في سلطنة مصر المملوكية المستقلة والسنين الأولي من الغزو العثماني. منذ البداية أحببت طريقته التلقائية في السرد، تعبيراته وصفه للحوادث، تعليقه عليها، وحتي الآن لا أدري عدد المرات التي قرأته فيها، بل أنني قمت بإعداد فهارس خاصة بي، تضم الحوادث التي لفتت نظري، وتلخيص لسير الشخصيات التي توقفت عندها، والحوادث الطبيعية مثل ظهور المذنبات، والزلازل، وتفجر النيران من باطن الأرض، كما أعددت عن فترة مبكرة فهرسا لغويا دونت فيه جملا عديدة من أسلوب ابن إياس، جمل لها خصوصية لم أكن أجد مثيلا لها في الأدب الذي أقرأه سواء كان مترجما، أو مبدعا بالعربية.
وجدت في ابن إياس فرادة وخصوصية، استشعرتهما في البداية بتلقائية وكنت استمتع كثيرا بما يورده من حوادث، وأعيد حكايتها للأصدقاء، ولكي أضرب دليلا علي تفرد ابن إياس أضرب مثلا بطريقة سرده للفترة التي تولي فيها السلطنة المؤيد شيخ الحموي وحتي قتله ابنه إبراهيم ثم موته، ابن إياس لم يعاصر هذا الوقت، لكنه نقل عن آخرين، غير أن حيوية السرد تفوق بكثير الطريقة التي اتبعها ابن حجر العسقلاني الأقرب إلي عصر المؤيد، في كتابه (أنباء الغمر بأنباء العمر) وكذلك ابن تغري بردي في (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) .
كان ابن إياس راويا عظيما، ولقد كتبت كثيرا عن بدائع الزهور، وأشرت إليه مرارا بعد عملي بالصحافة، ولم أهدأ إلا بعد أن قام الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور بإعادة طبعه في الهيئة العامة للكتاب، ثم أعدت نشره في سلسلة الذخائر التي اقترحتها علي الأستاذ حسين مهران الرئيس الأسبق لهيئج قصور الثقافة. وأشرفت علي إصدار 68 عددا منها كان من بينها »تاريخ ابن إياس»‬ و»‬الفهارس»التي لم يسبق نشرها في مصر، ولتقريب الكتاب الي جمهور أوسع اخترت مقتطفات يمثل كل منها قصة موت كاملة وسوف أدفع بها إلي النشر لأساهم في تقريب الكتاب إلي من لا يقدر علي قراءة ستة مجلدات، عدد صفحاتها حوالي أربعة آلاف.
لكن .. هل كانت قراءاتي هي الدافع والمحرك تجاه بذل مجهود مضن، ومعاملة النفس بصرامة، حتي أنني كنت ومازلت أحاسب نفسي قبل النوم، كم قرأت؟ .. واستوعبت؟ .. وماذا أنجزت.
بالتأكيد كان هناك دافع أقوي، بل إنه الدافع المحرك لرغبتي في الحياة، انه الأدب، الإبداع، أو .. الكتابة.
موسيقي
بدأت علاقتي بالموسيقي عبر الفراغ... من الموالد، الموشحات الدينية ومن قبل ومن بعد تلاوة القرآن الكريم، تعرفت علي الموسيقي عبر الأثير، المصدر »‬مذياع الجيران». كان العدد قليلا في الدرب، من خلال الإذاعة انتظم إيقاع أحاسيسي حتي الآن. في الصباح الأغاني الداعية إلي التفاؤل والإقبال علي الحياة، »‬يا صباح الخير ياللي معانا» لأم كلثوم، »‬مين يشتري الورد مني وأنا بنادي وأغني» لليلي مراد. في الظهيرة لحن نشرة الأخبار، وأغاني محمد عبدالوهاب التي تسبقه. أما الليل فلأم كلثوم، عرفت الموسيقي أكثر من خلال السينما التي كان الوالد يصحبنا إليها منذ الطفولة المبكرة، مع امتلاك الأسرة مذياعا »‬صناعة مصرية ماركة صوت العرب» في بداية الستينات بدأت علاقتي بالموسيقي والغناء تتوثق أكثر، من خلال القراءة والبرنامج الثاني عرفت طريقي إلي الموسيقي الكلاسيك أمضيت سنوات أصغي إلي شروح الدكتور حسين فوزي، وفي مكتبة صوت الفن المطلة علي ميدان التحرير »‬مكانها الآن موقف للعربات»، كنت أختار مقطوعات معينة وأبذل الجهد للإصغاء والاستمتاع. في منتصف الستينات اكتشفت الموسيقي التركية الكلاسيكية عبر المذياع بعد حوار مع المرحوم محمود البدوي، استمعنا في قصر ثقافة الغوري إلي فرقة موسيقي عربية صغيرة، بعد خروجنا قال إنه لاحظ اندماجي، وأنني سميع، دلني علي الموجة الخاصة بإذاعة استانبول، هكذا بدأت علاقتي الوثيقة بالموسيقي التركية، ثم الإيرانية، ثم خلال السنوات الأخيرة الصينية، موسيقي جنوب شرق آسيا، وتراتيل رهبان البوذية من التبت إلي اليابان، الموسيقي العربية والإيرانية والتركية ثم الموسيقي الغربية من أهم العوامل التي تشكل تكويني الروحي.. ومن خلال الأسفار اقتنيت مكتبة موسيقية نادرة لما أحب وأفضل.. تظل وتبقي موسيقي الجنوب التي كنت أسمعها في الأسواق بمثابة المرجع، ولعل صوت الربابة ذات الوتر الواحد التي يجيد أهل الصعيد العزف عليها هو الذي قادني إلي عشق الموسيقي الكلاسيكية العربية والتركية والإيرانية... وكلها باعثة للشجن.
عمارة ونقش
أرجع الفضل في اهتمامي بالعمارة إلي المكان أيضا، الجمالية خاصة والقاهرة القديمة عامة متحف مفتوح للعمارة العربية الإسلامية، أينما ولي الإنسان بصره سيجد مدخلا أو مقرنصا أو عقدا أو زخرفة، بدأت علاقتي بالعمارة من خلال دراستي للسجاد، ورغم أنني لم أختر السجاد وتصميمه، فقد تم توزيعي عند التحاقي بالمدرسة الثانوية الفنية للمجموع الذي حصلت عليه في الشهادة الإعدادية.إلا أنني كنت محظوظا حقا، إذ أنني بدأت أدرس فنا جميلا، تعلمت الزخارف وأصولها، وفن صباغة الألوان، ودرست طرز السجاد وتخصصت في الإيراني منها، وأحببت أكثر طرازا معينا صرت من الخبراء فيه، طراز بخاري الذي همت بياقوتية ألوانه وتدرجها منه، وقد مرت السنوات وزرت في الثمانينات بخاري، وعاينت نسج السجاد في مكانه الأصلي الصدفة قادتني إلي هذا الفن الذي علمني الصبر والدقة والنمنمة، وصقل ذوقي، وفتح لي أبوابا غير مرئية لفهم الفن، لو عادت السنون وامتلكت زمام الخيار، لاخترت نفس الدراسة ونفس الطريق.
من زخارف السجاد إلي زخارف العمارة، ساعات طويلة أمضيتها راقدا علي ظهري أتطلع إلي سقف مدرسة برقوق، أو قايتباي، أو نجماس الإسحاقي، أبحث عن المراجع، أقرأ تاريخ البنيان وأسرار عمارته مما يتاح لي من مصادر، وأتأمل،في طفولتي كنت ألعب أمام المسافرخانة وبيت السحيمي، وكانت هذه البيوت العتيقة تشكل لي عوائق ثرية وغنية وموحية، لم يكن اهتمامي بالعمارة ومحاولة فهمي لها ثم محاولة ايجاد تفسيري الخاص من أجل دراسة تنتهي بحصولي علي شهادة، إنما كان جزءا من اجتهادي لإيجاد طريقي الخاص في الرواية، فالعمارة بنيان مثل الرواية، وهي متضمنة لإيقاعات فهي موسيقي وقد أتاحت لي أسفاري داخل مصر أن أقترب من عمارة مصر بمراحلها المختلفة، وأن أكتشف الرؤية الواصلة بين فتراتها، ومنذ ثلاثة أعوام بدأت تقديم حلقات تلفزيونية لإحدي القنوات المصرية الخاصة حاولت فيها تقديم رؤيتي الخاصة، وأرجو أن تستكمل الحلقات إذا سمحت الظروف الصحية.
أما الفن التشكيلي فمتمم عندي لفن السجاد والعمارة، وقد نمت اهتماماتي به خلال الثلاثين عاما الأخيرة، خاصة مع تعدد أسفاري والوقوف مباشرة من خلال المتاحف أمام أشهر لوحات الفنانين الكبار والجدد.
العمارة، الموسيقي، الفن التشكيلي، الفلك،ليس اهتمامي بكل هذه العناصر إلا من أجل الرواية، من أجل ما أكتبه.
يمكنني تحديد اللحظة، ولكن اسم اليوم غاب عني، كذلك الشهر، أما السنة فماثلة أبدا في ذهني، ثمة مسافة كبيرة تفصلني عنها الآن، انها أشبه بمحطة قطار، غادرها المسافر ولن يعود إليها أبدا، وما تلك المحطة الآن إلا علامة كتلك الإشارات الموجزة جدا علي الخرائط، ولكنها علامة لا تعني إنسانا غيري، كان ذلك أحد أيام عام تسعة وخمسين وتسعمائة ألف، عندما سمعت من والدي حادثة تدور حول رجل ضبط سكير في الجمالية، شعرت برغبة في كتابتها. وهكذا كتبت أول قصة قصيرة (نهاية السكير) وبالطبع لم تنشر.
في هذه الفترة قرأت كتابين، الأول للدكتور رشاد رشدي (فن القصة القصيرة) وقد اشتريته بعد أن قرأت إعلانا عنه في الصحف، كان صادرا للتو، وأذكر أن والدتي رحمها الله أعطتني نصف جنيه من مصروف البيت الشحيح لأشتريه، كنت بحاجة إلي من يساعدني في البداية، وحتي الخامسة عشر لم أكن قد تعرفت علي أي أديب أو أي شخص له علاقة بالأدب، ولكن ما أعجبني في هذا الكتاب هو النماذج التي أوردها مترجمة، منها قصة لتشيخوف، وقصة لموباسان، أما الحديث عن لحظة التنوير والبداية فلم أستوعبه تماما، وربما لم أقتنع به، الكتاب الثاني هو (القصة السيكولوجية) لليون إيدل، قرأته من دار الكتب، وفيه قرأت لأول مرة عن تيار الوعي، والمنولوج الداخلي، وجيمس جويس، وهنري جيمس، ومارتان دوغار الذي قرأت له فيما بعد رواية ضخمة من خمسة مجلدات عنوانها (أسرة تيبو) ، وكان أول مقال نشرته في حياتي عرضا لهذا الكتاب في مجلة الأدب التي كان يصدرها المرحوم الشيخ أمين الخولي، نشرت أول قصة في نفس الشهر يوليو ،1963 في مجلة الأدب اللبنانية.
في عام واحد وستين وتسعمائة وألف، أعددت أول مجموعة قصصية وقدمتها إلي إدارة التأليف بالمؤسسة المصرية للتأليف والنشر، كان مقرها في 27 شارع عبدالخالق ثروت، وملأت استمارة صغيرة، ذكرت فيها اسمي كاملا، وعنواني وتاريخ ميلادي.
بعد عدة أسابيع تلقيت خطابا رسميا، يحوي سطورا قليلة موقعا عليها من قبل المرحوم زكي خورشيد، يطلب مني الحضور لمقابلة السيدة الفاحصة شفيقة جبر، بخصوص مجموعتي القصصية (المساكين) وبالطبع كنت قد اخترت هذا العنوان تيمنا وتشبها بأول رواية لمن بهرني بعالمه وقدرته فيودور دستوي فسكي، وكنت قد قرأت ترجمة للمساكين في سلسلة بدأت تصدر في القاهرة مخصصة للأدب الروسي (مطبوعات الشرق) .
غمرني سرور، فهذا خطاب يطلب مني الحضور، ولا يحتوي علي رفض أو اعتذار عن نشر الكتاب، قطعت الطريق مشيا قبل الموعد المحدد من الجمالية إلي وسط المدينة، وفي أحد مكاتب المؤسسة التقيت بسيدة وقورة، ترتدي نظارة طبية، مازلت أذكر تطلعها إليَّ وإشارتها لي كي أتفضل بالجلوس.
قالت لي السيدة شفيقة جبر إنها معجبة بالقصص، وأنها تنم عن موهبة حقيقية، ولكن ثمة أخطاء لغوية بسيطة جدا، بعدها يتم دفع الكتاب إلي المطبعة.
طبعا سمعت كلمة المطبعة فرقص داخلي فرحا، قالت انها تقترح علي الحضور إلي بيتها، أكبر أبنائها يكتب القصة أيضا، ويمكنني أن أتعرف عليه أثناء تصحيح هذه الأخطاء، ثم كتبت لي العنوان: منزل الأستاذ عبد الرحمن الخميسي».
سألتها:
»‬هل هو مؤلف ألف ليلة وليلة الجديدة؟
أومأت.
»‬نعم .. وأنا زوجته»‬.
كم استغرق إصلاح الأخطاء اللغوية؟ يمكن القول عدة سنوات حتي صدور مجموعتي الأولي (أوراق شاب عاش منذ ألف عام) عام تسعة وستين وتسعمائة وألف.
وبالطبع لم يكن لها أي علاقة بالمجموعة الأولي (المساكين). فيما بعد قالت لي السيدة شفيقة جبر إنها عندما قرأت تاريخ ميلادي، اشفقت علي من رفض المجموعة وإرسالها بالبريد، خاصة أنها استشعرت في قصصها الموهبة، وعندما رأتني ازداد إشفاقها فقررت أن تدعوني إلي البيت لأتعرف إلي ابنها أحمد.
الحق أن هذه السيدة الرائعة لعبت دورا هاما في حياتي، بل يمكن القول إن تعرفي إليها كان نقطة تحول حقيقية، في البيت تعرفت إلي أحمد وربطتني به علاقة أخوية حميمة حتي فرقت بيننا ظروف الحياة، أما والده عبد الرحمن الخميسي فلم أعرفه جيدا عن قرب وإن سمعت عنه من خلال صحبة أكثر، لكنه ساعدني في الماضي بأول وظيفة عملت بها بعد تخرجي عام اثنين وستين وتسعمائة وألف.

أن أكتب ما لم يكتب مثله.
أن أجد صيغة تحقق لي أكبر قدر من حرية التعبير.
أن أحقق خصوصيتي.
تلك هي المحاور الرئيسية التي شغلتني منذ البداية وحتي الآن، بالطبع تتعدد مستويات الهموم والتفكير مع مرور الزمن، والآن يمكنني تفسير ما لم أكن أعيه تماما قبل ثلاثين عاما علي سبيل المثال.
كانت قراءاتي الأولي في معظمها للأديب المترجم، وكانت هناك مقاييس للقصة أو الرواية في الواقع الأدبي سائدة سواء كانت مستوحاة من النمط التشيخوفي أو الموباساني أو الواقعية الاشتراكية التي كانت تحدد مواصفات الكتابة بكافة مستوياتها وفي البداية كتبت عددا لا أذكره من القصص، البعض نشر، والكثير لم ينشر وكانت هذه السنوات أشبه بعملية بحث وتعلم وإتقان أساليب الكتابة في نفس الوقت،لكن قلقي المبكر كان كبيرا كنت أشعر كأنني واحد من أولئك الذين كانوا يرقدون فوق السرير الشهير في الأسطورة اليوانية فإذا زاد طوله قطعوا جزءا من جسده، واذا كان قصيرا مطوه.
كانت النماذج السائدة تشبه ذلك السرير الذي يطوعون له الجسد، وشيئا فشيئا بدأت أكتشف أساليب سردية أخري.
لم تكن معروفة طبعا في الغرب،أما الإنتاج الإبداعي المعاصر فلم يكن يتعامل مع تلك الأساليب التي وقفت عليها في الحوليات التاريخية، خاصة »‬بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس، والملاحم الشعبية، والحديث عن هذه الأساليب السردية يطول. ولكنني في البداية كنت أطالعها بإعجاب كبير. وكثيرا ما قرأت صفحات كاملة بصوت مرتفع، أو استخدم عبارات أو فقرات كاملة أو أعيد رواية واقعة معينة قرأتها في كتاب ابن إياس أو المقريزي، ولكن في السنوات الأولي لم يخطر لي أن تكون هذه الأساليب مرتكزاً ومنطلقا في القراءة أو كتابة قصصي القصيرة في نفس الوقت كانت معايشتي المستمرة لحوليات المؤرخين المصريين تعمق إحساسي بالزمن وبتاريخ المدينة التي أعيشها. كنت أقرأ تاريخ المساجد والشوارع والأسبلة ومن العادات القديمة والباقية وحتي يونيو 1967. كنت قد نشرت العديد من القصص القصيرة، وكتبت ثلاث روايات لم تنشر جميعها، فقدت اثنتين منها أثناء اعتقالي عام 1966، ونشرت قصتين طويلتين في جريدة المحرر التي كان يرأس تحريرها الشهيد غسان كنفاني وفي مجلة لبنانية أخري »‬الجمهور الجديد» ولكن جميع ما كتبته من قصص قبل يونيو 1967 لم يضمه كتاب حتي الآن باستثناء، قصة واحدة هي »‬المغول» ضمنتها مجموعة قصصي الثانية »‬أرض- أرض» التي نشرت عام 1972.
لماذا أحدد يونيو 1967؟
لأنه في الحقيقة تاريخ فاصل بين مرحلتين،ليس علي المستوي الشخصي فقط، ولكن بالنسبة لوطني أيضاً، كانت هزيمة 1967 المحور الذي تمفصلت حوله الأحزان، وتركزت الصدمة، كانت الحد الذي قطع انطلاقة الاحلام، الطموحات الكبري، ومنذ ذلك التاريخ بدأ التدهور الأعظم» دخلنا في المحاق، في البداية قاوم الشعب ببسالة، وقد عشت ذلك عن قرب، رأيت وعانيت وكابدت خلال عملي كمراسل حربي في جبهة القتال منذ عام 1969 وحتي 1973 بدأت الأثار بعيدة المدي لما جري في عام 1967 علها وماتزال حتي الآن . والحديث في ذلك يطول.
بعد وقوع الهزيمة عدت الي التاريخ الذي عايشته. توقفت عند حقبة شبيهة، بل أن عناصر التماثل لتبدو مذهلة وليس فقط في حجم الهزيمة التي لحقت الجيش المملوكي شمال حلب عام 1517 بل بالظروف المؤدية ايضا الي تلك الهزيمة، عناصر التحلل والفساد التي لحقت بالدولة المملوكية في مرحلتها الأخيرة، وهنا وجدت نقاطا جديدة تجمع بيني وبين ابن إياس الذي عاش الهزيمة الأولي عام 1517، بل إن أحاسيسه التي عبر عنها تشبه إلي حد كبير ما عانيته. وقفت هنا علي ما يمكن تسميته بوحدة التجربة الإنسانية، جوهر الألم الإنساني واحد مهما أختلفت الأزمنة، وتبدلت العصور. بدأت اعتبر »‬بدائع الزهور في وقائع الدهور» مرتكز انطلاقي. اضافة الي عدة مصادر اخري. لقد كانت الأساليب السردية الجديدة القديمة تحل بالنسبة لي مشكلة فنية لتوفير قدر أكبر من حرية التعبير. وفي نفس الوقت توفر لي حلولا مثالية لتجاوز العديد من القيود في الواقع، قيود تتعلق بحرية الإبداع.

كانت القصة الأولي التي شعرت أني حققت فيها قدرا كبيرا من حريتي في التعبير. وقدرة علي التوفيق بين الشكل والمضمون، وإمكانية التحايل علي الواقع الضاغط هي قصة »‬هداية أهل الوري لبعض مما جري في المقشرة».
تخيلت إنني عثرت علي مخطوط قديم في أحد مساجد الجمالية، عبارة عن شذرات من مذكرات أمر سجن المقشرة في العصر المملوكي. وكتبت القصة بأسلوب يحاكي أساليب السرد القديمة في العصر المملوكي. وعندما قدمت القصة للنشر الي جريدة المساء، قرأها الأديب عبدالفتاح الجمل الذي تحمس لها جداً، واعتبرها مرحلة جديدة في فن كتابة القصة. وقدمها إلي الرقيب فأجازها علي أنها مخطوطة قديمة فعلا.
إذن. لم يكن لجوئي الي الأساليب القديمة نتيجة إحساس قوي بالزمن، ومعايشة طويلة لمصادر التاريخ العظمي وقلق فني، إنما كانت أيضاً وسيلة للمراوغة.
لقد كانت قصة »‬المغول» وقصة »‬هداية أهل الوري لبعض مما جري في المقشرة»، ومن بعدهما قصص »‬اعاف الزمان بحكاية جلبي السلطان» و»‬غريب الحديث في السلام عن علي بن الكسيح» و»‬دمعة الباكي علي طيبغا منصف الشاكي»‬.
لقد اكتشفت مع الزمن أن القصص القصيرة غالبا ما تكون تمهيداً لعمل روائي كبير. لقد كانت هذه القصص بمثابة خطوات مؤدية إلي »‬الزيني بركات» وفيما بعد كانت »‬وقائع حارة الطبلاوي» تمهيد لوقائع حارة الزعفراني، أما مجموعة »‬ذكر ما جري» فيمكن اعتبارها كلها مؤدية إلي روايتي »‬خطط الغيطاني».
فماذا عن الزيني بركات؟

الحق إنني لم أقصد أن تكون الرواية بالشكل الذي انتهت إليه، لا علي مستوي الشكل، ولا المضمون بدأ الأمر وتوقفي عند شخصية غريبة، محيرة، ترد أخبارها في بدائع الزهور في وقائع الدهور، لقد بدأ الزيني بركات بداية متواضعة، ثم يصبح زمن السلطان الغوري من أهم شخصيات الدولة المملوكية، وبعد زوال تلك الدولة وتحول مصر من سلطنة مستقلة إلي ولاية تابعة للدولة العثمانية، يستمر الزيني بركات في الصعود أيضاً، وتنتهي سطور ابن إياس بذكر طلوع أمره.
هذه الشخصية الانتهازية، تلاقت عندي بملاحظتي لشخصية أخري في الواقع تمارس قدرا كبيرا من الانتهازية، ولكنها انتهازية من نوع مختلف، من نوع عصري يتوافق مع مجتمع الستينات، بعكس انتهازية محجوب عبدالدائم في الثلاثينات، أو الانتهازية اللاحقة في الثمانينات، حقا .. لكل عصر منطقه.
هكذا.. بدأت تدوين الملاحظات والخواطر في كشكول ضخم أخصصه للعمل الروائي بمجرد ميلاد فكرته أو الإحساس به، ولأن الرواية ستدور أحداثها في العصر المملوكي، بدأت أعيد القراءة في مصادر العصر لاستيعاب التفاصيل، أسماء الشوارع القاهرية، الوظائف، أنواع الطعام، المشروبات مثلا لايمكن لشخصية في الرواية أن تشرب كوبا من الشاي، لأن الشاي لم يدخل مصر إلا في القرن التاسع عشر، أما القهوة فكان هناك خلاف كبير حولها بين الفقهاء كذلك العادات، وحتي الثياب وأجزائها والأثاث المستخدم، وكافة التفاصيل المتعلقة بالعصر.
بدأت كتابة الرواية بذلك التخيل، وكان الشكل تقليديا، رواية تدور حول شخصية انتهازية من العصر المملوكي، تنقسم إلي عدة فصول، ولكن المشروع تعثر، لم أستطع الاستمرار، كان هناك فارق كبير بين ما يعتمل داخلي، وبين مايظهر علي الورق، ومن خلال فترة معاناة شديدة
بزغ الحل، وانطلقت سبعة سرادقات داخل كل منها عدد من الشخصيات وخارجها أيضا، ولكن ما فاجأني أنا شخصيا هو تغيير الموضوع نفسه لقد أصبح الزيني بركات غائبا حاضرا وعلي أمتداد الرواية لايظهر إلا في مشهد واحد مباشرة فيما عدا ذلك نحن نقرأ عنه، ونراه من خلال الآخرين؟ هل أقول أن خوفا ما أدركني فأثرت أن أدور حوله؟
ربما..
المهم أن الرواية لم تعد رواية شخصية إنتهازية، إنما أصبحت رواية عن عالم البصاصين عن وسائل قهر الإنسان كيف يوظف جهاز قمعي هائل لتغيير إنسان لتحويله من إنسان نقي، شفاف، ثوري، إلي عميل يأتمر بأمر هذا الجهاز، هذا ماجري لسعيد الجهيني الذي يفقد حريته، وإرادته تماما لكن في نفس الوقت الذي يتم فيه ذلك، يفقد الوطن أيضا حريته، إن مصادرة حرية الإنسان هو المدخل المؤدي إلي مصادرة حرية الوطن، وتدمير البشر يؤدي بشكل طبيعي إلي تدمير أوطانهم أيضا.
لكن.. هل كان يوجد في الواقع مثل هذا الجهاز الذي صورته في الرواية؟
الإجابة يعرفها كل من قرأ التاريخ المملوكي، فلا وجود لمنصب كبير البصاصين الذي تخيلته، ولا لهذا التنظيم الحديدي القمعي، هذا جهاز من عصرنا وفيه عناصر متخيلة لم توجد بعد، ولكن حتي يتم تجسيده تماما كان لابد من استيعاب تفاصيل العصر المملوكي تماما ثم تفكيكها وإعادة صياغتها مرة أخري بما يتناسب مع الهدف الذي فرض نفسه أثناء كتابتي الرواية، لقد أتاح لي اختيار العصر المملوكي حرية تامة في مواجهة طبيعة تلك الأجهزة القمعية في الماضي والحاضر والمستقبل يمكن القول أن اختياري لعصر معين وإعادة صياغته قد ألغي إمكانية التحديد، وتعيين الوقت، ولذلك فإن الرواية لاتعبر عن حقبة بعينها، بقدر ماتعبر عن جوهر القمع، حتي وإن كانت نتاج حقبة الستينيات والحقيقة أن جوهر القمع واحد في شتي العصور، بل في العالم الآخر أيضا.

يدفعني الحديث عن الزيني بركات إلي الحديث عن اللغة إن عشقي للغتنا العربية يتجاوز الإحساس باللفظ والمفردات، إلي تذوقها بالحواس الخمس مجتمعة، لغتنا غنية جدا، وثرية إلي حد لايصدق، ويبلغ التنوع داخلها حدا مدهشا، إلي درجة أن الأساليب المختلفة تتميز إلي درجة أن كل منها يكاد يكون لغة بذاته وخلال القرنين الأخيرين وقع انقطاع مع الأساليب السردية القديمة، خاصة في القص، ومن قبل، خلال الاحتلال العثماني وقع جمود استمر أكثر من قرنين ولكن مع بداية الاستعمار الأجنبي صار الوضع أخطر، سواء كان هذا الاستعمار إنجليزيا في مصر، أو فرنسيا في شمال إفريقيا، لقد أصبحت اللغة العربية هدفا لمناهج التعليم التي صاغها دنلوب ومستشارو التعليم الإنجليز، أو محاولات الطمس التامة التي تمت في شمال أفريقيا، واستهداف اللغة العربية ليس عبثا إنها العنصر الأساسي والفاعل، وأكاد أقول الوحيد في تماسك وجدان هذه الأمة، وهذا موضوع كبير يتصل بجوانب سياسية وإجتماعية وحضارية، ويدخل مباشرة في قضية الصراع مع الغرب العنصري الذي أتصور أنه سوف يتزايد خلال المراحل القادمة، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ونمو القوي العنصرية الكارهة للحرب والمسلمين في الغرب مايعنيني هنا أنني شعرت منذ البداية، إن الأساليب السردية السائدة في الأدب العربي الحديث تهمل جوانب هامة في التراث العربي، وكان دافعي إلي ذلك إدراكي أن اللغة جزء هام من بنية العمل الأدبي.
في »‬الزيني بركات» حاولت استلهام روح كتابات المؤرخين المصريين في العصرالمملوكي، وحتي أمسك بالإيقاع الداخلي لهذا الأسلوب وجوهرة أقتضي هذا مني جهدا كبيرا، سواء في الاطلاع علي تلك المصادر، أو التوقف أمام التراكيب اللغوية الخاصة بالحوليات والتي تتميز بتلقائيتها وبعدها عن التكلف والتنميق، لغة بسيطة، وسط بين لغة الكلام ولغة الكتابة، بين اللغة القاهرية العامية واللغة الفصحي، لغة تستفيد من طرق الحكي والتعابير الشافهية الموروثة والتي يمكن اعتبار عناصرها بلاغة مصرية خاصة ذات مستويات متعددة كان إحساسي بهذه اللغة جديدا ومختلفا،لقد أعددت مايشبه قاموسا خاصا بمفردات ابن إياس والمقريزي، وابن تغري بردي وابن زنيل الرمال، وغيرهم من المؤرخين الذين عاصروا هذه الحقبة، بل إنني كنت أنسخ صفحات كاملة من تلك المؤلفات لكي أقف علي الايقاع الداخلي للسرد، ولأنني كنت معجبا جدا بتلك الكتابات فكأنني عند نسخها أتقمص حال كاتبها، وهذا شأني حتي الآن مع الشعر العربي القديم، فعندما أتوقف أمام نص شعري أكتبه علي مهل وبعناية، فكأني أعيد إبداعه أو أشارك فيه من جديد لقد أستغرق ذلك مني سنوات.
وعندما بدأت كتابة هداية أهل الوري لبعض ماجري في المقشرة، وحتي »‬الزيني بركات» كان يجب أن أطرح جانبا كل ما قرأت وكل ما كتبت أو نسخت لقد تشربت الحالة اللغوية وأصبح ممكنا أن أكتب بهذا الأسلوب ولكن بطريقتي الخاصة التي أحاول خلالها أن أخضع الأساليب القديمة للتعبير عن مضامين خاصة، ومن هنا أعتبر أن لغة »‬الزيني بركات» ليست محاكاة، أو تقليدا لأسلوب قديم، إنما القول إنها توحي به وتختلف عنه في نفس الوقت.
بعد »‬الزيني بركات» وبرغم الجهد الذي بذلته في استيعاب أساليب كتابة الحوليات ومحاولة النفاذ إلي خصوصياته لم يكن ممكنا أن أستمر به في نفس الاتجاه، أو تكراره، لقد خلق العمل الروائي التالي حالته اللغوية، كتبت »‬وقائع حارة الزعفراني» بلغة محايدة، باردة في الظاهر، تشبه لغة التقارير، وبرغم إنني ودعت الحالة اللغوية التي كتبت بها »‬الزيني بركات»، إلا إنها تركت أثاراً خفية مستمرة حتي الآن، ما أعيه منها، ذلك الهدوء الصوفي الذي كان يدون به ابن إياس مثلا أفظع الحوادث شأنا بنفس الإيقاع الذين يدون به أصغرها أو أتفهها، إنه المؤرخ الشاهد، الذي يحاول الإمساك بما يفلت دائما مع الزمن، من الزمن القاهر، المبيد لكل شيء ولهذا يحافظ علي مسافة بين الذات والموضوع.
في »‬كتاب التجليات» اقتضت الحالة اللغوية موقفا مشابها، إنه موقف الصوفية العظام من اللغة، وإنني لاعتبر التراث اللغوي الصوفي ذروة التعبير باللغة العربية وليس الشعر، يمر الصوفي بحالات وجدانية صعبة،لاتستوعبها الأطر اللغوية التقليدية، لهذا يحاول أن يتجاوز هذه الأطر، خاصة انه عند مراحل معينة في التجربة يتحول إلي ألفاظ، وإذ تضيق هذه الألفاظ عن التعبير، تتفجر اللغة، تتحول إلي اشارات إلي رموز، إلي أفلاك سابحة، ألم يقل النفري، إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة؟..
لقد حتمت التجربة الكامنة خلف »‬كتاب التجليات» تلك الحالة اللغوية، بل إنني عندما بدأت الكتابة ولدت تلك الحالة استناداً إلي طاقات استيعابي السابقة.
بدءا من »‬شطح المدينة» أشعر أنني انتقل إلي حالة لغوية خاصة، حالة تستوعب كافة أساليب السرد التي جاهدت علي مدي يتجاوز الثلاثين سنة للإقتراب منها والنقاذ إلي أسرارها، ولكن هذه الحالة اللغوية الجديدة تتجاوز كافة ما عرفت ليظهر من خلالها أسلوب جديد، يتغير أيضاً كحالة من عمل إلي آخر، وهذا ما تحقق مرة أخري في روايتي »‬هاتف المغيب».
إن اللغة حالة تتغير من عمل إلي آخر، وليست أسلوبا ثابتا يركن إليه الكاتب وتصبح ملامحه متشابهة من عمل إلي آخر، وما الإبداع الأدبي كله في رأيي إلا مغامرة. تشبه الإبحار في قارب إلي ضفاف مجهولة لم يبلغها أحد بعد، ولكن هذه المغامرة لاتتم بدون زاد ومؤن، هذا الزاد كل ما انتجه التراث الإنساني عامة، وتراثي الخاص بالتحديد، وكافة ما عشته في وقتي، وما قدر لي أن أشهده وأن أعرفه.

أقدم الأنغام عندي تمت إلي الربابة، تلك الآلة ذات الوتر الواحد، التي تكظم حزناً معتقاً، فريداً، في السوق الذي أمضي إليه بصحبة جدتي أو خالي أو أبي نظام محكم، لكل سلعة مكان، بدءاً من الدقيق والقمح اللازم للخبز الذي كان يعد في البيوت وقتئذ، ثم الخضار واللحوم والقماش والأعشاب ولعب الأطفال، وصولا الي المنشدين للأشعار والأغاني، لعل صلتي بالموسيقي ترجع إلي هؤلاء المجهولين الذين كانوا يعزفون بمهارة علي تلك الألة القديمة جداً.
في درب الطبلاوي لم يكن لدينا في البداية راديو، من خلال مذياع جارتنا أصغي إلي الموسيقي التي كانت تحدد علامات النهار ومحطاته، موسيقي نشرة أخبار الظهيرة،موسيقي ما قبل الآذان والتي كانت عزفاً منفرداً علي آلة القانون أو الناي، كذلك الأغاني، أغاني الصباح المبهجة، أم كلثوم، ليلي مراد، عبدالعزيز محمود، كارم محمود، أغاني الظهيرة لمحمد عبدالوهاب، جبل التوباد، افتكرني،علشان الشوك اللي في الورد، حفلات أم كثلوم في الأمسيات، أما مسجلة أو مذاعة علي الهواء أول كل خميس.
في نهاية الخمسينات أقتنينا مذياعا محلي الصوت، كان اسمه »‬صوت العرب» اكتشفت البرنامج الثاني، دروس الدكتور حسين فوزي، كل يوم جمعة، شروحه لمقطوعات الموسيقي العالمية، عرفت الطريق إلي مكتبة الفن التي كان ممكنا فيها الاستماع الي الموسيقي الكلاسيكية العالمية، وإلي مقهي التوفيقية الذي كان متخصصا في إذاعة أم كلثوم، في أوائل الستينات استمعت إلي فرقة موسيقي عربية في قبة الغوري، خرجت بصحبة الأديب محمود البدوي، قال إنه ينصحني بإدارة مؤشر المذياع بعد العاشرة ليلا والاستماع إلي إذاعة استامبول، إنها تبث بشارف وموشحات جميلة جدا، يمكن القول أنني منذ أن أصغيت إليه لزمت هذه الإذاعة، ليست استامبول فقط، ولكن ديار بكر وازمير وأضننة، لا أعرف اللغة التركية، لكنني همت بالموسيقي والغناء التركي. في عام تسعة وستين استمعت إلي فرقة للموسيقي التركية الكلاسيكية في قاعة سيد درويش، عرفت فيما بعد الموسيقي الإيرانية، وصولا إلي موسيقي الصين واليابان وآسيا الوسطي، وموسيقي رهبان البوذية التي تعتمد علي الأصوات البشرية، أما الموسيقي الأندلسية فعرفتها في كل تحولاتها من موسيقي الآلة في المغرب، إلي الغرناطي في الجزائر، إلي المألوف في تونس وليبيا، عرفت شخصيا المرحوم عبدالكريم الريسي مؤسس جدق البديهي في فاس، ومن بعده تلميذه محمد بريول، وفي ليبيا حسن الحريبي صاحب الصوت الرخيم والذي اكتشفته عبر الفضائيات، اما صبري مدلل وصباح فخري وأديب الرايخ ومحمد خيري ونصري شمس الدين، وديع الصافي، رشيد القندرجي، محمد القبنجي، فمن الأصوات التي أعشقها، لا وطن عندي للموسيقي، كل موسيقي تمسني هي وطني، لقد بذلت جهدا كبيرا في محاولة تذوق الموسيقي الكلاسيكية الأوروبية، غير أنني توثقت بمقطوعات محددة أما ركيزتي الاساسية فهي العربية والشرقية بالمعني الواسع وصولا الي الصين، من خلال أسفاري اقتنيت مكتبة ضخمة لما أفضله من موسيقي، في معظم الساعات التي اكتب فيها أختيار مقطوعات معينة لتشكل ما يشبه الخلفية للمناخ الذي أعمل فيه. لعل الموسيقي من حيث هي إيقاع، والعمارة من حيث هي تركيب، والفن التشكيلي للرؤية من أهم العناصر التي توثقت علاقتي بها طبقا لذائقتي الخاصة من خلال علاقة جدلية لا تخضع للمسلمات المسبقة، بل لما أتجاوب معه، لما يلقي عندي أثراً وصدي.
نشرت بمجلة الهلال - يوليو 2005


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.