آخر تحديث.. سعر الريال السعودي في نهاية تعاملات اليوم الأحد    «الخارجية»: مصر تتابع بقلق أنباء تعرض مروحية الرئيس الإيراني لحادث مروع    الرئيس السيسي يهنئ نادي الزمالك بفوزه بالكونفدرالية الأفريقية    خبير تكنولوجى عن نسخة GPT4o: برامج الذكاء الاصطناعي ستؤدي إلى إغلاق هوليود    بالفيديو.. مؤتمر إعلان تفاصيل الدورة الأولى لمهرجان «دراما رمضان»    «الفن المصري الحديث».. «درة» متاحف الشرق الأوسط ويضم قطعا نادرة    بينها «الجوزاء» و«الميزان».. 5 أبراج محظوظة يوم الإثنين 19 مايو 2024    عالم بالأوقاف: الحج ليس رحلة ترفيهية وإنما عبادة وجهاد    طقس سيئ وارتفاع في درجات الحرارة.. بماذا دعا الرسول في الجو الحار؟    مع ارتفاع درجات الحرارة.. نصائح للنوم في الطقس الحار بدون استعمال التكييف    «الصحة»: طبيب الأسرة هو الركيزة الأساسية في نظام الرعاية الأولية    الكشف على 1528 حالة في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    جدل واسع حول التقارير الإعلامية لتقييم اللياقة العقلية ل«بايدن وترامب»    التنمية المحلية: التصالح على مخالفات البناء بمثابة شهادة ميلاد للمبنى المخالف    قصواء الخلالي: نفي إسرائيل علاقتها بحادث الرئيس الإيراني يثير علامات استفهام    الاتحاد الفلسطيني للكرة: إسرائيل تمارس رياضة بأراضينا ونطالب بمعاقبة أنديتها    محافظ الوادي الجديد يبحث إنشاء أكاديميات رياضية للموهوبين بحضور لاعبي المنتخب السابقين    الجمعة القادم.. انطلاق الحدث الرياضي Fly over Madinaty للقفز بالمظلات    تحركات جديدة في ملف الإيجار القديم.. هل ينتهي القانون المثير للجدل؟    بيان عاجل بشأن الموجة الحارة وحالة الطقس غدا الإثنين 20 مايو 2024    وزير الأوقاف: الخطاب الديني ليس بعيدًا عن قضايا المجتمع .. وخطب الجمعة تناولت التنمر وحقوق العمال    متحور كورونا الجديد.. مستشار الرئيس يؤكد: لا مبرر للقلق    داعية: القرآن أوضح الكثير من المعاملات ومنها في العلاقات الإنسانية وعمار المنازل    دعوة خبراء أجانب للمشاركة في أعمال المؤتمر العام السادس ل«الصحفيين»    كيف هنأت مي عمر شقيقة زوجها ريم بعد زفافها ب48 ساعة؟ (صور)    «النواب» يوافق على مشاركة القطاع الخاص فى تشغيل المنشآت الصحية العامة    اقرأ غدًا في «البوابة».. المأساة مستمرة.. نزوح 800 ألف فلسطينى من رفح    مدير بطولة أفريقيا للساق الواحدة: مصر تقدم بطولة قوية ونستهدف تنظيم كأس العالم    ليفاندوفسكى يقود هجوم برشلونة أمام رايو فاليكانو فى الدوري الإسباني    ختام ملتقى الأقصر الدولي في دورته السابعة بمشاركة 20 فنانًا    هل يستطيع أبو تريكة العودة لمصر بعد قرار النقض؟ عدلي حسين يجيب    السائق أوقع بهما.. حبس خادمتين بتهمة سرقة ذهب غادة عبد الرازق    رسائل المسرح للجمهور في عرض "حواديتنا" لفرقة قصر ثقافة العريش    «نيويورك تايمز»: هجوم روسيا في منطقة خاركوف وضع أوكرانيا في موقف صعب    نهائي الكونفدرالية.. توافد جماهيري على استاد القاهرة لمساندة الزمالك    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    بايرن ميونيخ يعلن رحيل الثنائي الإفريقي    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    بنك مصر يطرح ودائع جديدة بسعر فائدة يصل إلى 22% | تفاصيل    افتتاح أولى دورات الحاسب الآلي للأطفال بمكتبة مصر العامة بدمنهور.. صور    "أهلًا بالعيد".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 فلكيًا في مصر وموعد وقفة عرفات    مصرع شخص غرقًا في ترعة بالأقصر    رئيس الإسماعيلي ل في الجول: أنهينا أزمة النبريص.. ومشاركته أمام بيراميدز بيد إيهاب جلال    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    منها مزاملة صلاح.. 3 وجهات محتملة ل عمر مرموش بعد الرحيل عن فرانكفورت    «الجوازات» تقدم تسهيلات وخدمات مميزة لكبار السن وذوي الاحتياجات    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    نائب رئيس "هيئة المجتمعات العمرانية" في زيارة إلى مدينة العلمين الجديدة    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    أول صور التقطها القمر الصناعي المصري للعاصمة الإدارية وقناة السويس والأهرامات    «الرعاية الصحية»: طفرة غير مسبوقة في منظومة التأمين الطبي الشامل    ضبط 100 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق فى المنيا    ياسين مرياح: خبرة الترجى تمنحه فرصة خطف لقب أبطال أفريقيا أمام الأهلى    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    سعر السكر اليوم.. الكيلو ب12.60 جنيه في «التموين»    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    عرض تجربة مصر في التطوير.. وزير التعليم يتوجه إلى لندن للمشاركة في المنتدى العالمي للتعليم 2024 -تفاصيل    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



« الست » .. الجسد الممزق للحداثة
نشر في أخبار السيارات يوم 27 - 04 - 2019

قالت لي صديقة، وكان الراديو يذيع أغنية لنجاة الصغيرة »أنا لا أتصور أن واحدة مثل أم كلثوم يمكنها أن تغني لشخص واحد تحبه»‬، وكانت تعني أن أداء أم كلثوم لا يمكن فعليا أن يكون مناجاة بين شخصين. فصوت أم كلثوم حتي حين يصدر عن حنجرة جريحة محطمة، إنما يشبه جدارا يتداعي. الحزن يكبر في موضع رمزي، والحبيب المناجَي يتضاءل ويختفي.
حضور أم كلثوم الجسدي، كما استقر في صورته النهائية، كان جزءا مضيئا وإشكاليا من الحضور للعام ل"الست". قَدَمٌ تتقدم أخري بمسافة قصيرة أمام فرقتها علي خشبة المسرح، وساعدان تتحفزان دون مغادرة كاملة، واليدان، المقبوضة إحداهما علي المنديل، كأنما تحتجزان قامتها، كشاهد علي الحد الأقصي لما يجب، ولما لا يليق أيضا. سُمح للصوت أن يعربد، ولكن بين قوسين حزينين وركوز لازم.
كان هذا الحصْر موجها إلي أبعد حد. يخطئ عادة من يتصور أن مجتمع أم كلثوم كان (وهو علي حاله إلي الآن) مجتمعا ذكوريا، بل أموميا، لعبت فيه المرأة دور الأنا الأعلي، وتلك بحد ذاتها مفارقة تاريخية؛ أعني أن يستعاد الوضع الأمومي في إطار النزوع القومي كما سيتضح فيما بعد.
كان علي المرأة إذن أن تكون الأنثي التي لا تطال، ليس فقط بكل ما يعنيه هذا من حرمان فعلي، بل بنرجسية أيضا. وفي الوقت ذاته كان هذا الوضع يبرر للرجل كل خطاياه، بل يبرر أيضا، علي الأقل في ذلك الزمان، استحلابه العجيب للعذاب باعتباره لا يمثل أية إهانة.
كانت الموسيقي تقول شيئا قريبا من هذا. لقد صنع أشهر ملحني أم كلثوم (السنباطي) لأغانيها معمارا كلاسيكيا مهيبا، تم تطويعه للمقامات الشرقية. اعتمد علي طريقة تعبيرية تبلغ حد الإفراط في جمل طويلة تتصاعد فيها الآهات والليل وكأنها أمواج تلتطم وتنكسر بين المناجاة والفرح والحسرة. استخدم الملحن الصوت المحايد بقدراته الهائلة من أجل رفع الحب إلي مستوي مثالي متعال لصراع الأهواء هو المقابل لبيئة تتسم أساسا بالتحفظ والكتمان.
ثمة ظاهرة في موسيقي السنباطي لم تستطع الموسيقي المصرية الإفلات منها إلا بصعوبة، وهي تقديس الكلمة المكتوبة، كان دور السنباطي أن يعطي للكلمات بعدا متجاوزا ودراميا لصراعها المثالي، لكن أبدا دون أن يتجاوز حدودها. يفكر الواحد من موقع السنباطي نفسه وكأنه نظر إلي الموسيقي المجردة كنوع من التجديف. وهنا تظهر حدود فقر المثالية المتناقضة، وتُفهم أكثر فكرة »‬الواقعية» عند المصريين، باعتبارها تواطؤا علي كنمان، ورعبا من المخاطرة. لا تقل موسيقي السنباطي »‬أمومية» عن المثال العام. فهي بدورها أنثي تحتجز المثال وتضبطه، وغرضها الأساسي: حسن التربية.
يمكننا أن نتحدث عن الصوت المحايد »‬اللاجنسي» في أداء أم كلثوم باعتباره واحدا من أسباب الإجماع عليها، فهو لا يخاطبنا، لكنه يأمرنا بالمثول في حضرة الجلال المطلق والرمزي للحزن، لهفة اللقاء، اضطراب فكرتنا عن الزمن، معني الصمت المشبع بالامتثال والكبرياء معا. الحب هنا يكاد ينفي موضوعه، ويستغني عنه ليتحول إلي صرح رمزي، الآخر معبره فقط، فرصته للظهور. نحن أمام تعويض نرجسي، له طابع تراجيدي مهيب، حيث حب الذات، أو التقدير لها، لا يتوسطه الآخر بالضرورة، بل الرمز.
عن الحب
من الغريب أن هذه الصيغة من الحب كانت تخلق توازنا رصينا للعلاقات الفعلية بين الرجال والنساء في ذلك العصر، حيث الاعتراف المسبق بعجز الشريك عن تلبية المثال، وقصوره الفعلي عن أن يكون رمزا، كان يولد شعورا جديدا تماما ميز زيجات عائلات الطبقة الوسطي (المشكلة من الموظفين بالأساس) هو الحنان (وليس الحب بالضرورة) وتقدير الواجب. لقد ساهم نوع من المثالية في الحب، الذي احتفظ به كفكرة، في واقعية محتشمة وغير متطلبة.
نُبذ الحب نفسه كعلاقة وممارسة بين الجنسين بقدر متفاوت من الشدة. والحقيقة أننا قد نغفل عن كون فرص اللقاء بين الجنسين المؤطرة بالزواج كعلاقة وحيدة مشروعة لم يتح أساسا للحب إلا أن يكون هواما ذاتيا تماما علي الواحد أن يتخلص منه باعتباره مراهقة وعبث صغار. إن مجتمع الموظفين، هذا الذي ولدت من رحمه مصر الحديثة، كان كعادته يخلق المثال الذي يحتقره،عمليا، بالذات.
إننا في حاجة إلي دراسة مساكن الطبقة الوسطي تلك، والتي أصبحت مقرا لما يمكن تسميته الأسرة الصغيرة (وليس بيت العائلة كما كان الوضع السابق علي الحداثة حيث الدار الكبيرة التي تجمع الجد والأبناء والأحفاد). نحن في المسكن الصغير المتحفظ القائم علي الحساب الدقيق والمظهر العام كما تكشف عنه أكسية الصالونات (البياضات) التي لا تنزع إلا بزيارة ضيف عزيز. ففي ظلال هذا المسكن ولدت الأحلام المجهضة.إن الحب في هذه المنازل المدنية، لم يكن حراما، بل عيبا.
إن فكرة الحرام، في مجتمع ما قبل التحديث (وهو ما يشهد عليه التراث العربي القروسطي)، كان يمكنها أن تغذي التمرد والشيطنة، والسخاء العاطفي. وبعض روايات وقصص الأديب المصري نجيب محفوظ المستلهمة من واقع القاهرة التاريخي القديم، والذي يعد من بعض الوجوه امتدادا لروح قروسطية (مثل رواية الحرافيش) تشير إلي ذلك ضمنا قبل أن تتخذ المدينة ومساكنها سمتها الذي عرفناه. فالهروب من الحارة إثر نزوة عارمة كان مشهدا متكررا. الفرد في هذه الروايات قادر علي تحدي الجماعة حيث يمكن إعادة تشكيل المكانة الاجتماعية بالقوة.
فكرة الحرام تعترف بالأب وبالانفصال عنه في الآن نفسه. أما فكرة الواجب فهي تضع الأنا محل الأب بينما ينهشها الأخير من الداخل، كشعور دائم بالتقصير والوجل والتحفظ. الحرام غير منطقي، إنه خطاب متعال، صوت، إصبع موجهة من أعلي. إن جلاله مشتق من هذه النار التي تتكلم للأنبياء دون فم مرئي. أما فكرة الواجب فستجدها في غرفة الطالب الصغير، مصباح علي طاولة المذاكرة وقميص لابد أن يبدو نظيفا. تسربت فكرة الواجب بفعل الحداثة بالتأكيد، ويمكنني تذكر أن كلمة »‬عيب»‬ حتي ظهور الجماعات الدينية في السبعينات، كانت هي المعتمدة، وليس كلمة »‬حرام»‬ إلا فيما يتصل بالشعائر الدينية مباشرة.
عن الرجل أيضا
إذا كان الإجماع علي أداءأم كلثوم مقبولا، أو مبررا فإن لقب »‬الست»‬ يفتح آفاقا علي تصور الاختلاف الجنسي ووضع المرأة في هذه الفترة. لقد ناصر دعاة التحديث الوطنيون تحرير المرأة، وضرورة تعليمها وتثقيفها، وتخلصها من الحجاب. ولكن هل نشأ ذلك عن مراجعة لوضع المرأة في إطار تحقيق عدالة ما، أو تسوية تاريخية؟
برأيي لا يمكن فهم نداء التحرر ذاك إلا في إطار ما يمكن تسميته بالشعور القومي، الشعور نفسه المتولد من إعادة تنصيب الحداثة الغربية محليا في إطار جدل العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر.
كان هذا الوضع معقدا للغاية. فالشعور القومي نفسه، بينما بدا نوعا من المقاومة وإعادة تمركز الذات كند، كان بسبب هذا تحديدا يستعيد التبعية لمنظومة الآخر القيمية والأخلاقية. لقد نشأ كاستطراد ملتو لثقافة المستعمِر، بإعادة صياغة تؤكد الفارق والخصوصية. إن هذا كما تقول الباحثة ميدا ييغونوغلو في كتابها »‬استيهامات استعمارية»‬ يساعدنا في فهم استخدام المرأة ك"دالّ»‬ في الخطاب القومي.
لقد كان علي »‬تحرر» المرأة أو شعورها بذاتها إذن يمر عبر طريق »‬كرامة الأمة»، فتحريرها إنما كان مطلبا انتقائيا وموجها. المرأة يجب أن تتعلم لتربي أبناء الأمة، يجب أن تخرج إلي الحياة والشارع والعمل للمشاركة في العمل ونهوض الوطن.
علي خلاف مطربات الأزمنة الأسبق، بدت أم كلثوم محتشمة، ورغم أنها مثلت عددا من الأفلام، إلا إنه أشيع رفضها التقبيل في أي فيلم. رمزية المرأة كانت تنكّرا لجسدها إذن، ونفيا لرغباته الخاصة. هكذا كانت أغانيها أيضا تعبيرا عن أشواق ومعاني سنتمنتالية، تلتطم فيها أمواج الهجر والعتاب ونداء الغائب دائما.
ربما يجب أن نستوعب أن إحدي أسس الفكرة القومية في المجتمعات التي خضعت لللاستعمار هي التضحية بالذات، واكتساب الكرامة الفردية من خلال هذه التضحية، وهو شيء يمكن أن نلحظه حتي في مسار الثورات التي هبت منذ العام 2011، ومن الطريف أن الرجل كان هو نفسه قد خضع لهذه الفكرة فيما يتعلق برغباته وتمثيله الجنسي.
مثلا قدمت السينما منذ الأربعينات من القرن الماضي النموذج الجيد للرجل المتعفف، والزوج المكتفي بعائلته وزوجته الوحيدة (بخلاف ما يبيح له الشرع). إن بعض المطربين مثل فريد الأطرش وعبدالحليم حافظ لم يتزوجوا علي الأقل زواجا علنيا. وكان هذا التطرف (أيا ما كانت أسبابه العملية) يؤكد علي وضع التضحية. فمقابل تضحية السياسي، وتضحية رب الأسرة، هناك أيضا تضحية الفنان، الذي يعطي صورة شبه مقدسة ومنزهة عن الفن.
من اللافت أن المرأة بدورها بدا وكأنها تتعرف إلي ذاتها، وهو ما لم يكن صحيحا علي إطلاقه، فقد تبنت فكرة الرسالة المجتمعية، تمسكت بالتحفظ والاعتدال في التعبير عن المشاعر، وبإنكار الجسد حتي وهي تعلن عنه. وبالطبع خُصصت لها باكرا مجلات مثل »‬بنت النيل»‬ و"حواء»‬ وبرامج إعلامية للإرشاد والتوجيه. ورغم أن هذا لا يختلف كثيرا عما كان يحدث في أوروبا نفسها، إلا أنه مثير للتساؤل؛ فكأنما المرأة هي الكائن المفتقر دوما إلي التعريف.
وكما قلنا بقي الجسد مخفيا، بل أكثر خفاء مما كان عليه. ومن الطريف أن أفلام العقدين الخمسيني والستيني علي وجه الخصوص من القرن الماضي كانت تصور اللقطات الجنسية بطريقة إيحائية مثيرة للرهبة والشعور بالإثم، كانت تصحبها موسيقي إيقاعية قوية ومربكة، تطبع فينا نحن الأطفال قبل أن يكتمل نضجنا الجنسي، إغواء مقيتا مظلما. ويُستكمل المشهد عادة بما يشبه غضب الطبيعة، حيث يرتطم مصراعي نافذة إثر ريح عنيفة لا نعرف من أين هبت، وتسقط أمطار غزيرة لا تلائم طبيعة البيئة، ينطفئ مصباح فجأة أو يكسر زجاج، كناية عن شرف مهدر وقلب حطمه الذنب.
صراع الرموز
حينما هلت سبعينيات القرن الماضي كانت عودة الحجاب أو بالأصح ابتكاره كما لو كان وصلا لماض قد انقطع. لم تكن تلك العودة استجابة دينية خالصة، بل ربما لم تكن كذلك أصلا، بل، كما أوضحنا، تعبيرا عن تنازع سياسي بين أبناء المجتمع الذين رأوا في العلمنة ضياعا للهوية (الهوية المصنوعة والمتخيلة ذاتها بفعل المد القومي) خاصة مع الفشل الواضح للنخب المعلمنة في العبور بالمجتمع إلي أفق السيادة أو الاستقلال الفعلي أو التنمية الذاتية. لقد كان الصراع ومازال بين الأصوليين والعلمانيين علي أرض »‬حداثية»‬ بالتحديد، هذه الأرض في الوقت الذي فرضت فيه علي المستعمَر »‬هوية»‬ خاصة مفارقة، كان هو من الجهة الأخري يتبناها ثم يجادل مواطنيه عن محتواها.
حجاب المرأة لم يكن قضية أساسية إلا في إطار الصراع الرمزي بين القوي السياسية المتنافسة. هكذا برز مثلا بقوة في أعقاب هزيمة 67 وما تلاها. أي بعد انتكاس المشروع القومي شبه العلماني. لقد اعتبر العري، وصوت المرأة المعبر عن الحب مسؤلا مباشرا عن الهزيمة العسكرية.
ثمة ملاحظة جانبية فيما يتعلق بلباس المرأة قبل ما سمي بالصحوة الإسلامية. فصحيح أن المرأة المصرية ارتدت الملابس العصرية، كشفت عن وجهها وذراعيها وساقيها، ارتدت التنانير القصيرة والبنطلونات، ولدي صورة من الصف الرابع الابتدائي تجمع زملاء الفصل مع معلمتينا وهما ترتديان »‬الميني جيب»، لكن، سلوكياً، كان علي المرأة (والرجل علي السواء) أن ينكرا ما هو مكشوف فعلا. ظلت الأخلاق محتشمة ومتحفظة. وظل الحب مقيدا بدرجات متفاوتة، وفكرتا الشرف والعذرية ظلتا علي حالهما.
لاشك أن الوضع ما بعد الحداثي الذي ترافق وإعادة النظر بالمركزية الأوربية، واعتبار الثقافات كيانات عقلانية مغلقة تمتلك رموزها المستقلة بعيدا عن وحدة العقل العالمي أو الإنساني قد شكل خطابا مساندا، وللمرة الثانية، من قبل المركز الأوروبي ذاته، للدعاوي الأصولية باعتبار الأخيرة تمثل جوهرا ثقافيا إسلاميا، أو ثقافة محلية يجب احترامها. لقد تم التغاضي عن القضية الأصلية، أي كون الحجاب رمزا نشأ من قلب الحداثة نفسها، ووجهها الاستعماري. وإنه لمن المفارقات التي تستدعي التأمل حقا، أنه بينما كانت حكومات علمانية استبدادية تنحو إلي منح المرأة حقوقا أكبر ومجالا أوسع للمشاركة المجتمعية في سوق العمل ولا تلتفت إلي حجابها من عدمه، كانت أصوات غربية تساند جماعات محلية تدعو إلي عودة المرأة إلي البيت، وإلي حجابها، باعتبار أنها تدافع عن الخصوصية الثقافية، متغافلة عن أن هذه الخصوصية نفسها صناعة حديثة، رمزية، وموجهة سياسية، وهي إلي ذلك تساهم في طمس وضع المرأة التي ولدت فيما يسمي بالعالم الإسلامي علي أن تكون رهن ثقافة لم تخترها، ومقيدة بتعريف ثقافي جامع ليس من حقها اكتشاف نفسها دونه.
صحوة الجسد
كانت النخبة المثقفة، أو بعض جيتوهاتها علي الأقل، المبادر إلي التعاطي مع الجسد خارج الرمزيات المتداولة، ولعل ذلك بدأ بوضوح منذ السبعينات. ولكن في وضع مسيّس ومعقد يطرح »‬الجسد»‬ كفضيحة؛ مم تخجلون؟ وفي منافسة ثقافية علي تمثيل الأصالة المصرية أستعيد ما اعتبر من قبل طربا خليعا، وافصاحا صريحا عن الرغبة. اقتطع ذلك، كالعادة، من سياقه التاريخي الماجن هو نفسه.
في التوقيت ذاته كان الحجاب يتسرب إلي المجتمع. حجاب بسيط متشقف كما ينبغي للأيدويجا سياسية أن تكون، فيه ذلك الملمح المثالي من الجتجرد.
لكن تسعينيات القرن الماضي شهدت حجابا من نوع آخر. انتشر الحجاب علي مستوي واسع، ولكن رافقته الزينة وملابس تكشف معالم الجسد. أعادت الثقافة المحلية إنتاج الحجاب علي خلفية جديدة تماما تشبعت بأنانية المرحلة الخالية من أي حلم. انسحبت الدلالة السياسية هنا من الحجاب، ومحلها أنتجت أيديولوجيا دينية لإباحة التمتع، مترافقا مع ضرورة الاعتراف بالتراتبية المبنية علي ثروة منهوبة أساسا، بدعوي أنها تمثل شرع الله وسنته في الأرض. لاءم التدين الشهواني الظاهرتين في جسد واحد الابتذال والحشمة، التعبير الجنسي الواضح والنهِم مع الحفاظ علي الصلوات والهوس بالفتاوي الشرعيةالخاصة بالفراش.لقد جُرّد الجنس إلي حدود الشهوة الطبيعة والغريزة، وكان هذا موائما تماما لأصولية تري المرء حيوانا تسوّره حدود الشرع. وفي الدين أمرا لا يخالف الطبيعة بل يتركها علي حالها بقيود خارجية.
علي مستوي دائرة أوسع بكثير كان يمكن أن نري منذ نهايات القرن الماضي فكرة أو أيديولوجيا يمكن ان نطلق عليها »‬أيديولوجيا التمتّع بالجسد". حملت الليبرالية الجديدة هواء مغايرا بعد ما سمي بسقوط الافكار الكبري ومعها دولة الرفاه. بخصوص المجتمعات المستعمَرة سابقا، والتي أخفقت مشاريعها التنموية، فقد وجدت الأخيرة نفسها في العراء بلا أيديولوجيا جمعية تحميها. »‬السوق»‬ صار هو الحاكم علي ضفتي البحر والمحيط. افتقرت السياسة إلي قدرتها التمثيلية الرمزية علي وجه الخصوص، وتعري الأفراد الذين كانوا من قبل يجدون أنفسهم في مبدأ التضحية.
لنلاحظ: لقد بان كبر السن سريعا علي الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، الذي كان في مطلع خمسيناته، حينما ظهر الشيب في فوديه. بينما كان الرئيس الأسبق حسني مبارك حريصا علي صبغ فروة رأسه بالأسود الفاحم. لقد استعيض عن التضحية بالشباب الدائم للجسد. ولم تعد صورة الزعيم هي ذلك المدخن مريض السكر المتقشف، بل الذي ينضح بالصحة، وتشاع عنه زيجات سرية غامضة؟
"أحب جسدك»‬ عبارة يمكن أن تلخص لنا موقفا وجوديا كاملا. لكنه مثّل النخبة الجديدة وصفوة الطبقات الفاسدة، التي كانت تملك إجراء عمليات التجميل واستعمال المساحيق باهظة الثمن، والظهور المستفز للجسد المنتصر الأبدي. لنقارن ولو سريعا بين الهيئة التي عليها المغني الشهير عمرو دياب والذي يقترب من عامه الستين بينما يبدو أكثر شبابا من أبناء الأحياء الفقيرة في عشرينياتهم، مع سلفه عبدالحليم حافظ الذي كان المرض والضعف الجسدي جزءا من صورته الأيقونية كفنان وعاشق معذب. المزاج العام النسائي نفسه رشح الأول كما رشح من قبل الثاني.
في إحدي المجلات العربية النسائية الشهيرة كتب علي الغلاف عنوان كبير: »‬أنوثتك من أجلك". تستهلك النخبة المتعلمة، والطبقات العليا منها خصوصا، قضية الجندر، في مسخرة نرجسية، لا علاقة لها بواقعة الجندر متجاهلة أبسط البداهات وهي كون الجندر لا يمكن أن تفلت من التعيين الثقافي عبر الآخرية. وهنا تتلاقي رؤية النخبة مع القطاعات الشعبية العريضة المتروكة للتوحش.
عن التحرش
تتصل ظاهرة التحرش بالجسد مباشرة. وعلينا أن نكون حذرين في تناول هذه المشكلة بحسب ما تظهرها ثقافة محلية ما ذات تاريخ مغاير وإن كان يتقاطع في دوائر مع التاريخ العام. فكما سلف، كان جسد المرأة مصونا وفق أبعاد رمزية عالية: وطنية أو دينية في إطار نهضوي. هكذا نادرا ما كنا نلحظ التحرش الفج حتي في الفترة التي انتشرت فيها الموضات الغربية في نهاية الستينات وائل السبعينات. وأذكر في ذلك الوقت أن وسائل المواصلات العاملة كالترام علي وجه الخصوص لم تكن فيها عربة للنساء. ومع هذا فقد كانت جرائم التحرش العنيف والاغتصاب نادرة إلي حد بعيد.
لكن هذه الصيانة المشروطة كانت في وضع حرج بعدما تعرت دنيويا. فذلك الجسد الذي كان محجوبا، ليس بالرداء، وإنما برفعه إلي المستوي الرمزي، اي بتعاليه علي ذاته. بدامكشوفا غير محصن: جسد أرضي تماما، لكن أيضا في وضع لا إنساني.
يعني »‬التمتع»‬ القفز علي جدل العلاقة الإنسانية، واعتبار الجسد جوهرا ليس في حاجة إلي تأويل. إنه هو ما هو. كما يعني أيضا تجديد وعيه بذاته من خلال تجديد الاشتهاء. نحن اليوم، وأمام مواقع التواصل، نشهد حالا من النرجسية »‬الجسدية»، استعرض جسدي من أجل ذاتي.
إن التحرش الذي تشهده شوارع المدن كالقاهرة خاصة في مواسم الازدحام يشهد لا علي التنفيس عن رغبات جنسية مكبوتة، ولا عن رغبة في الآخر لا تحترم إرادته أو رغبته فحسب، بل عن عدوانية خالصة، عن إيذاء بغرض الإيذاء نفسه والإهانة. قرصة من الأرداف أو الصدر، جذبا عنيفا لتنورة أو ذيل فستان، وأحيانا ما أكثر وقاحة وأشد عنفا. يتساءل الواحد: ما المتعة التي يشعر بها شخص يقرص امرأة من ثديها أثناء سيره في الشارع ثم يولي هاربا أو دون أن يلتفت إلي تعبيرها؟ ما الإشباع المريض الذي يحققه إن لم يكن نوعا من التعبير المغيظ عن صدمة مهينة، صدمة انكشاف الجسد الذي كان يمثل للمتحرش رمزا، سمح للرجل نفسه بالتسامي برغباته، وهو ما يعوضه عن الحرمان الفعلي بسبب تحفظ المجتمع الشديد تجاه الممارسة الجنسية حتي الآن.
هناك ما هو أسوأ؛ إن برامج التوعية التي توحي بأنها تجعل من الجنس موضوعا عاديا يجب مواجهته، إنما تتناوله من باب »‬الصحة»‬ الجسدية أو النفسية، باب أناني يتجاهل كون الجنس علاقة لا يمكن جرها إلي الحد الأدني الغريزي والفيزيقي فحسب. وبالطبع سيكون ذلك متاحا لنخب المدن التي تعيش وفق حرية واستقلالية أوسع، بينما ترزح الغالبية العظمي تحت فقر مضاعف روحي وجسدي.
بالطبع ليس هذا تبريرا علي الإطلاق، فلا يمكن بأي حال التغاضي عن العدوان والمهانة والإيذاء، لكن محاولة فهمة في إطار قانوني فحسب تفقره إلي أبعد حد، وتبقي علي جمرة عنفه لنجدها علي بعد أمتار منه في صور أكثر تشوها وشذوذا.
في الغناء الشعبي المصري اليوم انكشاف جنسي واضح وتعبير عن الرغبات. قد يبدو هذا صحيا. لكن ما ينبغي التوقف عنده أيضا هو هذا العنف الذي يتسم به غزل لا يضع الطرف الآخر في حسابه. إن عبارات الأغاني التي تكني عن مناطق الإغواء والشهوة تعبر دائما عن الاختراق والانتهاك والتقطيع وتشييء الجسد. إن جسد الآخر ليس شريكا، لكنه موضوع. والغريب، وهي مفارقة تضاف إلي مفارقات سابقة، أن النخب الاجتماعية خاصة المثقفة منها، تساند هذا اللون من الغناء باعتباره مضادا لحذلقة وإدعاء وتحفظ الطبقة المتوسطة، أي أنها تستخدمه في منازعة اجتماعية وسياسية أيضا دون النظر إلي ما يتضمنه هذا الغناء تحديدا من يأس. إيقاعه الرتيب المتواتر، ونغمه الزاعق المتقشف، والصراخ الحاد الذي يمد كلماته لا يرسم أي ملمح للإشباع أو السعادة، بل للدوران الجريح في قفص.
ثمة ظاهرة أخيرة تتصل بالأفراح الشعبية. نظرة سريعة إلي ما صور منها علي موقع اليوتيوب تظهر راقصات الأفراح الجدد في المناطق الشعبية. لافت ما يتصفن به من البدانة المفرطة أحيانا. ويبدو وكأنه يطلب منهن أن يؤدين رقصاتهن بحركات تحاكي الممارسة الجنسية، نوع رخيص وشعبي من الاستربتيز العلني، يحصل عليه المحرومون في ليلة عرس. تعبر الرغبة في رؤية اللحم البدين المكشوف عن مقابل عيني محسوس لها، شيء ما يزن بقدر ثقل الحرمان.
لا يشكل أفق »‬التمتع»‬ إلا فرصة للقادرين علي أن يقيموا علاقات حرة وعابرة، أو يقضون أوقاتهم في التنقل والسفر، أو ممارسة الرياضات التأملية، أو يتنعموا بالوحدة مع كتابة القصائد. وبغض النظر عما يحققه ذلك من سعادة، فإنه يشكل بالنسبة لفئات كبيرة إقصاء مزدوجا وتحديا لا يمكنهم عبوره.
من جهة أخري، يبدو وكأننا نعيش الآن في عصر قانوني ضحل، اعتبر فيه القانون بمثابة مطلق غرضه الصيانة والعزل. يسرق القانون بأوليته خيط العلاقة بين البشر، بين أخوية الرجال والنساء، يضع بينهما علامات المرور والإشارات الحمراء. وبالتالي فهو ينمي أكثر فأكثر الجهل بالشريك، والانتقائية المتحفظة، متجاهلا التأويلات اللانهائية للعلاقة الجسدية بين اثنين بحسب ظني، متجاهلا المبادرة وسوء الفهم باعتبارهما جزءا لا يتجزأ من الحياة الإنسانية نفسها.
كان من المفترض بالنسبة إلي الانتفاضات والثورات التي شهدتها مناطق كثيرة من العالم أن تجعل المتأمل يتوقف عند فشلها جميعا، ما إذا كان شيئا ما قد نسي في غمرة النضال السياسي، وهو كونه أساسا حلما جميعا لا يمكنه التحقق وفق فلسفة التمتع وحدها، أي لا يمكن النضال من أجل حماية الحق الفردي وحده، أناضل معك من أجل أن أكون حرا في إغلاق الباب في وجهك. لهذا أفكر أحيانا: هل من الممكن إدخال فكرة الحب إلي العالم السياسي، أي أن يكون النضال من أجل إزالة سوء الفهم بين الأجساد، من أجل دعم قدرتها علي طلاقة الحوار والتعبير بعيدا عن الترميز المجاني؟ هذا ما يحتاج إلي تأملات أخري.
غير مرئي
من أعذب صفحات رواية »‬غير مرئي»‬ للروائي الأميركي بول أوستر تلك الصفحات التي يحكي فيها الروائي الفرعي عن علاقته المحرمة بأخته. الجزء الرئيس من الرواية يأتي عن لسان رجل يوشك علي الموت بعد حياة حافلة بالتقلبات والبحث. لقد قرر أن يكتب مذكراته. يتصل بصديق قديم له صار روائيا مشهورا. يقوم الأخير بتنفيذ وصية صاحبه بصياغة هذه المذكرات روائيا ليحتفظ بجوهر الخبرة فيها، المشتقة من حياة حقيقية، مع إخفاء أسماء الأشخاص الحقيقيين. ضمن هذه المذكرات يحكي الراوي الفرعي عن حبه لأخته، عن ليلة استثنائية قضياها معا، مع كونها كانت النموذج الذي بحث عنه دائما. لكن ما إن يلتقي الروائي الشهير بأخت صاحب المذكرات حتي تنكر هذه الحادثة من أساسها. نعم، تؤكد علي الحب والعلاقة الخاصة وما كانت تلمحه في وجه أخيها من رغبة، لكن دون أن تتحقق. لماذا يصنع أوستر هذه الدائرة؟. توحي فكرة المذكرات أنه القصة حقيقية، وللتأكيد علي كونها حقيقية يتم إخفاؤها داخل العالم الروائي. أي أن صياغتها روائيا تؤكد بطريقة معكوسة حقيقيتها. الرواية هي رواية عن الحب، ولكن يبدو وكأن أوستر أراد أن يقول أن تجربة حب ناضجة، لا يمكن إلا أن تتجاوز فكرة التحريم، ولو خيالا، أن تعود إلي الأصل الواحد لرجل وامرأة. لنلاحظ أن أوستر يركز في الرواية علي مشكلة عويصة في الأبوين. لقد وُجد الأخ والأخت وكأنما يتيمين. ليس المهم إذن أن تكون القصة حقيقية لكن التجربة المتمثلة نفسها، حتي لو كانت خيالا، أملا، خبرة روحية لفهم معني الشريك، تجربة في القرابة وكأنها عتبة لفهم الغربيب. التمسك بالجندر كما لو كان أصلا وجوهرا فاصلا يؤكد التحريم ولا ينفيه، بل أكثر من ذلك يؤكد الاستحالة، وكأن أجسادنا ولدت من رحم ذاتها. هذا شكل حديث من أشكال العنف الصامت، العنف الذي يحميه القانون ويقره. إذ ما هو العنف إلا الاصطدام بحائط الاستحالة؟ تشجعنا المؤسسات علي استمرارية التحريم في صيغ عصرية، إذا كان قسم من العالم قادر علي التعايش معها، فإنه يطرد في الحقيقة عنفها إلي أطراف أخري. حيث يبرز لنا عنف غير مبرر وغير مسبوق. دهس واغتصاب، تشهير ومحو، عنف لفظي وبدني. فشل في العلاقات البينية يظهر بشكل مزيف علي هيئة نجاح في التخلص من الشريك.
لا يمكن مناقشة وضع المرأة الآن في أطر محلية، فهذا يناقض الوضع القائم فعليا، ولا باعتبار انتمائها لثقافة خاصة نشأت للرد والدفاع أساسا، وإعادة الانتماء إلي العالم من باب خلفي. ولا يتيح العالم الحديث وعودا بسعادة بل باستقلالية وهمية. فرديات تعبر عن نفسها من خلال استهلاك صور للفردية: تمتعْ بسحر الجبال في.. تعلمْ أن تطبخ بنفسك مع الشيف.. عبرْ عن نفسك من خلال الكتابة علي موقع..
تدخل الفرديات مجردة عالم السوق. فماذا لو لم تمتلك ما يفي بثمن الفردية؟. هكذا يضاعف العالم الحديث أسوارا، بينما يتصاعد في جهات أخري أدخنة الكراهية. اطلالة سريعة علي مواقع التواصل الاجتماعي في بلادي سوف تجعلك تشم رائحة حريق ما.
خلاصة غير لازمة
من اللافت في عصرنا »‬القانوني»‬ هذا تجريد المفاهيم إلي حدودها الحقوقية: حق التعبير، حق الممارسة السياسية، حق المرأة، حق الطفل. وتفعل هذه الإضافة بشكل خبيث في إضفاء صفة الإطلاق علي طرفها الثاني، منتزعة إياه من أي سياق أو تجربة تاريخية. ولهذا فهي تهبط بالمضاف إليه إلي الحد العيني المفرد الذي يمكن أن يعترف به القانون والشاهد. وأنكر من ثم التاريخ الملتبس والمتمايز في الوقت نفسه لمجتمعات ما بعد الاستعمار، وكيف ابتكرت مفاهيمها بما فيها المتعلقة بالجندر بحسب التعبير الشائع.
لقد عبأت هذه المجتمعات نفسها بقيادة نخبها من الطبقة المتوسطة علي وجه الخصوص. وهي بدورها طبقة مصطنعة هشة ساهمت بقدر مرعب في اختزال المفاهيم من أجل صياغة »‬هوية»‬ وطنية. ولأن هذا الفعل غير مفصول عن الآخرية، أي عن وضعها إزاء المستعمر، وإدراكها لكينوتها بشكل قسري في حضوره، فقد كانت »‬هوية»‬ استعراضية بالأساس؛ هوية: هل نحن مرئيين؟ حتي رؤية الذات إنما تمر من خلال الرؤية المعتبر للآخر المستعمر: أتري نكون مرئيين هكذا بشكل أفضل؟ أو: سنجعلهم يروننا رغم أنوفهم.
لقد كانت النخب الوطنية علي استعداد دائم لدفن تاريخها المتعدد وتصفيته للحصول علي قناع مناسب، استعارة من نوع ما. وبقدر ما كانت هذه الهوية الاستعارية عرضية لتحقيق مكسب، حتي في المنازعة السياسية والاجتماعية المحلية، بقدر ما كانت عاجزة عن ملامسة واقعها بالذات. لقد أنشأت أصلا فاصلا حادا بين الواقع والمثال المصطنع من أجل حرية المناورة. وكان هذا يأكل تاريخها اليومي الحي.
هناك دائما نوع من العقيدة العبثية، وهي لذلك مبالغ فيها. كان مفهوم التضحية بالجسد مبالغ فيه، ولا أصالة له، كما هو الحال في تكذيبه أيضا. وكان مفهوم »‬المرأة»‬ مجرد اختزال فظ لواقع كيان تاريخي. وما إن سقط دور هذا الاختزال حتي ملأ مكانه الفكرة الحقوفية.
لكن مرة أخري هل الفكرة الحقوقية المعاد إنتاجها محليا هي ذاتها في الغرب مثلا؟ نعم ولا بطبيعة الحال. ثمة زيادة بسيطة تحتاج أن نعود إلي الوراء قليلا.
إذا كان قد تم التخلي عن السياسة في النظام العالمي الجديد لتصفي في حدود مقولات حقوقية وإدارية فهل كانت لدينا، محليا، سياسة أصلا في أي وقت.. أعني مفهوما للسياسة؟ ما كان هناك فعلا هو مناورة وتلاعب بالصور. سؤال آخر: ما معني مجتمع حديث بلا سياسة؟ إنه يعني أن السياسة تتسرب إلي كل مفاصله لكن في حدودها الأدني: سياسة الحضور المحض، أن أكون موجودا. لكن أن أكون موجودا تعني أيضا معترفا بي، مرئيا، دون قاعدة للتوافق علي الاعتراف. يتعارض الحضور الخالص مع ضرورة أن أكون مرئيا: لهذا يشعر أفراد هذا المجتمع بضرورة وجودهم معا ونفورهم من هذا الوجود نفسه والمساومة عليه. تأتي الفكرة الجندرية إذن لتداري العري الفاضح والقاتل لذوات غير قابلة للتعيين، أو فقدت مهارت التواصل نهائيا إلا علي القاعدة المتناقضة للواقع والمثال. نشأت قضية الجندر إذن كحالة عنف مقابل عنف.
أحد أصدقائي كان يبدي اندهاشه من دعوات العزلة والاكتفاء بالذات..الخ ثم الاعلان فجأة من الشخص نفسها اقترانه وأنه يعيش/ أو تعيش حالة حب مثالي.. إلي آخر هذه القصص التي تمتلئ بها مواقع التواصل. لكن ليس هناك جديد فعلا. فالحضور المحض يمثل مساومة عدمية مقلوبة: علي شخص آخر أن يقدم لي معني لحياتي. »‬إنني مكتف بذاتي» تعني إغواء لا فكرة حقيقية. »‬استيقظت اليوم فوجدت نفسي جميلة» أي ضعوا علامات القلوب الحمراء هنا. وهي قلوب لا تقل تجريدا واستعارية عن حياة لم تُعش أبدا.
للفنانة فيروز كراوية بحث نشر علي موقع معازف بعنوان »‬أم كلثوم.. من الآنسة إلي الست» . تتقاطع بعض أفكار مقالي، الذي سبق أن نشرت فقرات قصيرة منه علي موقع »‬تويتر» مع هذا البحث الهام والممتع، حيث نبهتني الصديقة فيروز كراوية إليه، وخاصة في الجزء المتعلق بمأزق الجندر داخل الفضاء الاجتماعي في الفترة الموصوفة. لذا وجبت الإشارة والتنويه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.