اختارت الفنانة نازلي مدكور عنوان »حدائق خاصة» ليخرج به معرضها الفردي الأخير الذي استضافه جاليري بيكاسو بالزمالك، لتستكمل من خلاله حلقة جديدة في سلسلة الأعمال التي تستعير بعض عناصرها من الورود والنباتات والتي بدأتها – كما تذكر- منذ حوالي عشر سنوات، ويمكن تتبع أثرها في عناوين بعض معارضها السابقة مثل »زهور ونساء» و»أتي الربيع» .. إلا أن تلك الحديقة علي خلاف ما تبدو في الظاهر لا علاقة لها بفكرة الزهور المجردة وإنما هي محاورات داخلية وانفعالات ومشاعر تتباين بين السعادة والخوف والارتباك والقلق وغيرها وجدت متنفسا لها في وريقات الورد وبتلاتها التي تشبه الانفعالات الإنسانية في تداخلها وغموضها، إذ تبدو وريقات الزهور متداخلة ومركبة وبها الكثير من التفاصيل. وتبدو كل لوحة كمغامرة جديدة تستكشف فيها مدكور جوانب جديدة من مشاعرها الداخلية، إذ أن سعادتها تنبع من مغامرتها الفنية علي المسطح لتجد فيها مساحة للبوح واستكشاف الذات .. حيث تقول : حين أرسم لا أفكر في حدائق وإنما أفكر في وسيط مادي يحمل بعض المواصفات الملائمة لتوصيل صورة حسية لمشاعر داخلية، فمثلا وريقات الورد بإمكانها أن تعبر عن الإحساس بالزحام والارتباك وتراكيب الحياة وحتي قسوة تداخلاتها، علي عكس الصحراء التي تفسح مساحة للتأمل وتميل للتصوف في تناولها. تقضي الفنانة ما يقرب من خمس ساعات يوميا في عالمها تحاور اللوحات وتشتبك معها لتنتصر أو ينتصر المسطح مؤقتا قبل أن يعقدا هدنة يومية، إذ لا تنتهي التجربة إلا بمصالحة وتراض يمكن بعدها عرض العمل .. وتعكس تجربة الفنانة تطورا كبيرا يمكن أن يلمسه المتلقي من خلال تحرر المسطح إذ نجده مزيجا بين التعبيرية والتأثيرية التجريدية التي وصلت إليها الفنانة محملة بالخبرات المتراكمة التي اكتسبها، لتترك متنفسا للاوعي ليقودها علي المسطح، حيث تقول الفنانة: ربما في البدايات يكبت الفنان تلك المنطقة في مقابل تطبيق كل القواعد الفنية التي يحفظها لينفذها بحذافيرها وهو أمر يتفق وفكرة الالتزام بمعايير ضبط العمل الفني، لكن مع الوقت يكتسب الفنان الثقة في قدرته علي التغلب علي اللوحة دون قهر.. وتضيف أنا حاليا أقدم علي اللوحة بدون أي تجهيز أو تخطيطات مسبقة، فأترك الأشياء لتفرض وجودها، وأنا لست ديكتاتورية مع لوحاتي، وأحب أن تقدم اللوحة اقتراحات ويكون هناك حوار دائم بيننا، إذ أنها عملية اكتشاف للذات واكتشاف للذات في علاقتها بالآخر، ومن ثم أسعد أثناء عملي بعنصري المفاجأة والاكتشاف وبالإثارة الناتجة عن الكشف عن غير المعلوم. ونادرا ما أبدأ العمل بنفس الطريقة كما لا ألتزم بنفس التتابع التقني في كل مرة، إضافة إلي أنني لا أبدأ بعمل تكوين وإن كنت أنتهي به، ودون عجلة من أمري أتابع عملي من خلال الإضافة والإزالة وإيجاد الحلول والتغلب علي المشاكل الفنية التي تواجهني حتي أجد رؤيتي وقد تشكلت وتجسدت علي سطح اللوحة.. لذا فإنه حتي مع الانصياع لسطوة اللاوعي لا يمكن أن تكون اللوحة تلقائية تماما.. فبعد كل شحنة فنية يتدخل الفنان بوعي كامل لإضافة أو حذف ما يلزم، يتخذ قراراته ربما بهدم العمل الفني كله والبدء من جديد.. والحقيقة أن هناك لوحات تسد الطريق علي الفنان ..لذا أجد أن العلاقة بين الفنان والعمل معقدة جدا فهي صراع ومحبة شديدة. وقد خرج المعرض الأخير بشحنة فنية مكثفة اتضح في الطرح اللوني علي المسطح وملامس الألوان وسمكها .. إذ أن مدكور دائمة البحث عما تكتنزه الخامات الفنية من إمكانيات لتوليد المعاني واستجلاء الأشكال المتوارية، وربما كانت السمة الغالبة أيضا في معرضها الأخير هو احتياج المتلقي لمسافة كافية بينه وبين العمل كي يستوعبه تشكيليا بصورة أفضل.. .. إذ ربما كان اقترابها جدا من الداخل في معالجتها للسطح يدفع المتلقي بعيدا حفاظا علي تلك الحالة من الخصوصية التي احتفظت به لنفسها بينها وبين مسطحها .. ومما لا شك فيه أن ولع الفنانة نازلي مدكور بالطبيعة صاحبها منذ البدايات حيث بدأت مشوارها الفني في الثمانينيات حيث قررت آنذاك تغيير مسارها المهني كلية، لا سيما وقد درست الاقتصاد والعلوم السياسية وحصلت علي ماجستير اقتصاد سياسي وعملت خبيرة اقتصادية.. إلا أن شغفها بالفن كان أقوي، فما كان منها إلا أن تفرغت تماما لموهبتها، وتعتبر تلك الفترة هي المطبخ الذي شكل ذائقتها الفنية، وكان التجريب هو سمة تلك المرحلة، حيث استخدمت الفنانة آنذاك خامات لها ملمس كالعجائن وكانت أعمالها تتسم بالأسطح البارزة والغائرة، كما استخدمت ورق البردي وكثيراً من الخامات الأخري التي تختلف تماما عما قد نراه اليوم في لوحاتها. علي الصعيد الظاهري لأعمالها يمكن القول أنها بدأت بتوصيف الخارج متمثلا في الطبيعة والصحراء والنخيل والأرض بطينتها، ومنها انتقلت إلي الداخل رويدا رويدا حتي غاصت تماما به، وقد ظلت المرأة والطبيعة تتبادلان الأدوار علي مسطحها التشكيلي ليترجما كثيرا من المعاني والمشاعر التي تحملها الفنانة، وربما يجمع بين هذين العنصرين فكرة الإحياء التي تحدث من خلال المرأة والنبات، كما أنها يتشاركان في الجماليات والتنوع. جدير بالذكر أن نازلي مدكور قدمت أكثر من 35 معرضا فرديا في مصر وفي الخارج وتوجد أعمالها في عدد من المتاحف الدولية بالإضافة للمجموعات الخاصة العربية والأجنبية، واختيرت الفنانة عام 2005 لتنفيذ رسوم الطبعة الفاخرة من كتاب »ليالي ألف ليلة» الذي صدر في نيويورك لأديب نوبل الكبير نجيب محفوظ، وعرضت لوحات الكتاب الأصلية في الكوركوران جاليري بواشنطن في ذلك العام. وقد صدر لنازلي كتاب »المرأة المصرية والإبداع الفني» عام 1989 و ترجم إلي الإنجليزية عام 1993.