غبار ودخان، أشعة شمس حارقة، أجساد ملتهبة تخلت عن ذواتها في غمرة الضجيج،ألسنة ترطن لغات شتي تغذو معها الساحة عالما مختلطا تحذوها رغبة الانصهار.. ثمة أشياء تسترعي انتباه زوارها، لا شيء منها شد نظري سوي هواجس الماضي،أتذكر بعضه وينسحق الكثير منه بين زحام بشري وركام حديدي.. لم يكن هناك سوي التعب، أستمتع قليلا وأتذمر كثيرا، أستغرب لحالي وحالهم العالقة في مستنقعات اللذة الغامضة، عاهرات، شواذ، بائعي الأحلام.. يؤثثون فضاءها المشحون، متربصين بك كل حين، ليتسللوا بمكر وسحر الكلام إلي جيبك. أمشي متوترا بين دفقات الماضي الحاني والحاضر المبهم، أحسست بوحدتي تغتصب بهدوء داخل هذا الخليط الموبوء.. أحببت أن أشارك الآخرين متعتهم الآنية، ففسحت المجال لجيبي تحت سيل الإغراءات الجارفة، والتقطت مثلهم صورة كذكري لهذه الساحة بهاتفي النقال الجديد، هاتفي لا يسمح إلا بواحدة - ربما لم أحسن استعماله- حرصت علي أن تكون معبرة، تجمع كل الجهات والوجوه. لف ودوران دون هوادة، استنزفت جيبي بأشياء في غني عنها.. شعرت بالعياء والغباء معا، اقتعدت مقعدا بمقهي خال من الزينة إلا بإطلالته علي الساحة، بعد قهوة مرة فتحت هاتفي النقال، أتفحص الصورة هالني ما رأيت، شيء كالظل يتحرك بداخلها يمينا ويسارا، ظننته التعب نال مني، فأصبح كل شيء يترنح أمامي، أقفلته وسرحت بنظري أتأمل الأجساد شبه العارية، تتلاطم في الساحة، مختلطة بضجيجها المتصاعد من كل جنباتها، أعدت الكرة مرة أخري، نفس الظل يزداد حجما،قفزت من ذاكرتي صورة الغول الذي انرسم بخيالي في طفولتي. أردت مسحها دون جدوي، لتظهر جليا علي شاشة الاستقبال. حرت في أمري وانفعالات شتي تناوشني.. في غمرة الصراع الداخلي بدأت أقاوم بشراسة الأفكار السوداوية التي تحطم دواخلي، حاولت قدر الإمكان التخلص منها وأجد مبررا لما وقع حتي تهدأ نوازعي. قمت من مكاني مضطربا، ما إن خطوت حتي أوقفتني امرأة لا يبدوعليها الفقر، تعصب رأسها بمنديل أخضر، أدركت أنها عرافة بلون منديلها الذي كان فيما مضي علي شكل علم يرفرف علي بيوتهن، قالت بشيء من الصرامة: - ثمة غولة بجيبك.. أجبتها باقتضاب ومكر، مشيرا إليها أن تبتعد عني: - إنه غول.. سارت بجنبي وهي تضغط علي كلماتها متجاهلة رغبتي: - غول أوغولة.. هذا جزاء نيتك السيئة لهذه الساحة المباركة..ستصيبك اليوم بلعناتها.. أحسست بالهلع والخوف يدب بأوصالي، كأنها مطلعة علي أحوالي، لأسرد عليها بسهولة كل ما وقع لي.. استمعت باهتمام لحكايتي وعيناها تتصيدان دواخلي.. بعد برهة مدت يدها وهمست في أذني: - إلي بهاتفك النقال ألف به الساحة، لتنزاح عنه وعنك اللعنة. ثم ابتسمت وأردفت: - لا تنسي (الفتوح) تعني النقود. أمام إلحاحها وإرادتي المسلوبة تحت مفعول سحري،رضخت لأمرها ناولتها إياه وبعض النقود، أشارت إلي أن أبقي بمكاني حتي تعود. راقبتها وهي تغوص في الزحام، فجأة كأن غشاوة انزاحت عني، قمت بسرعة أقتفي أثرها تاركا ما أحمل بيدي، لكنها ذابت في الزحام كفص ملح في الماء.. عدت بالخيبة إلي مكاني، لأفاجأ بضياع مقتنياتي.