وكيلة الشيوخ تطالب بإزالة عقبات تطبيق النسب الدستورية في موازنة التعليم العالي    أكاديمية الشرطة تنظم ورشة عمل مشتركة مع الشرطة الإيطالية لتدريب الكوادر الأفريقية على مكافحة الهجرة غير الشرعية    الوادي الجديد تبدأ تنفيذ برنامج "الجيوماتكس" بمشاركة طلاب آداب جامعة حلوان    هيئة تمويل العلوم تُعلن عن فتح باب التقدم لمنحة سفر شباب الباحثين    وزير التموين: توريد 900 ألف طن قمح محلي حتى الآن    إسكان النواب توافق على موازنة الهيئة القومية لمياه الشرب والصرف الصحي    «إكسترا نيوز» تبرز ملف «الوطن» بشأن افتتاح مركز البيانات والحوسبة السحابية    «معلومات الوزراء»: ألمانيا والصين الأكثر إصدارا للسندات الخضراء    توافق سعودي أمريكي حول ضرورة وقف إطلاق النار في غزة    الرئيس السيسي يستقبل رئيس البوسنة والهرسك في قصر الاتحادية    بسبب حرب غزة| طلاب الجامعات في واشنطن ينادون بتغييرات في العلاقات مع إسرائيل    فانتازي يلا كورة.. دي بروين على رأس 5 لاعبين ارتفعت أسعارهم    الزمالك: الفوز على الأهلي ببطولتين.. ومكافأة إضافية للاعبين بعد التأهل لنهائي الكونفدرالية    مباراتان في الدوري وتأجيل مثلهما.. ماذا ينتظر الزمالك قبل نهائي الكونفدرالية؟    عامر حسين: لماذا الناس تعايرنا بسبب الدوري؟.. وانظروا إلى البريميرليج    ضبط خريج شريعة وقانون يمارس مهنة طبيب أسنان في المنوفية    إصابة 6 أشخاص في حادث تصادم على طريق جمصة بالدقهلية    جامعة كفر الشيخ تنظم حملة للتوعية الأسرية والمجتمعية    الضحية أقوى من الجلاد.. أبو الغيط يهنئ الفلسطيني باسم الخندقي على فوزه بالبوكر    جهود مبادرة رئيس الجمهورية للكشف المبكر عن الأمراض الوراثية لحديثي الولادة    دراسة تكشف العلاقة بين زيادة الكوليسترول وارتفاع ضغط الدم    التعاون الاقتصادي وحرب غزة يتصدران مباحثات السيسي ورئيس البوسنة والهرسك بالاتحادية    المشاط: تعزيز الاستثمار في رأس المال البشري يدعم النمو الشامل والتنمية المستدامة    9 مايو أخر موعد لتلقي طلبات استثناء المطاعم السياحية من تطبيق الحد الأدنى للأجور    عبد الواحد السيد يكشف سبب احتفال مصطفى شلبي ضد دريمز    برشلونة أبرزها.. مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة    تطور عاجل في مفاوضات تجديد عقد علي معلول مع الأهلي    البحوث الإسلامية يعقد ندوة مجلة الأزهر حول تفعيل صيغ الاستثمار الإنتاجي في الواقع المعاصر    الأنبا بشارة يشارك في صلاة ليلة الاثنين بكنيسة أم الرحمة الإلهية بمنهري    إصابة عامل بطلقات نارية في ظروف غامضة بقنا    موعد إعلان أرقام جلوس الصف الثالث الثانوي 2023 -2024 والجدول    احالة 373 محضرًا حررتها الرقابة على المخابز والأسواق للنيابة العامة بالدقهلية    أمن القاهرة يضبط عاطلان لقيامهما بسرقة متعلقات المواطنين بأسلوب "الخطف"    ولع في الشقة .. رجل ينتقم من زوجته لسبب مثير بالمقطم    محافظ المنوفية يستقبل رئيس المجلس المصري للشئون الخارجية    أسوشيتد برس: وفد إسرائيلي يصل إلى مصر قريبا لإجراء مفاوضات مع حماس    منهم فنانة عربية .. ننشر أسماء لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائى فى دورته ال77    «ماستر كلاس» محمد حفظي بمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير.. اليوم    مؤسسة أبو العينين الخيرية و«خريجي الأزهر» يكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين.. صور    ضحايا بأعاصير وسط أمريكا وانقطاع الكهرباء عن آلاف المنازل    بحضور وزير الخارجية الأسبق.. إعلام شبين الكوم يحتفل ب عيد تحرير سيناء    «الرعاية الصحية» تشارك بمؤتمر هيمس 2024 في دبي    خلي بالك.. جمال شعبان يحذر أصحاب الأمراض المزمنة من تناول الفسيخ    اتحاد الكرة: قررنا دفع الشرط الجزائي لفيتوريا.. والشيبي طلبه مرفوض    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    رئيس الوزراء: 2.5 مليون فلسطيني في قطاع غزة تدهورت حياتهم نتيجة الحرب    خسائر جديدة في عيار 21 الآن.. تراجع سعر الذهب اليوم الإثنين 29-4-2024 محليًا وعالميًا    تعرف على الجناح المصري في معرض أبو ظبي للكتاب    أول تعليق من ياسمين عبدالعزيز على طلاقها من أحمد العوضي    من هي هدى الناظر زوجة مصطفى شعبان؟.. جندي مجهول في حياة عمرو دياب لمدة 11 سنة    مطار أثينا الدولي يتوقع استقبال 30 مليون مسافر في عام 2024    مصرع عامل وإصابة آخرين في انهيار جدار بسوهاج    أمين لجنة الشئون الدينية بمجلس النواب: هذا أقوى سلاح لتغيير القدر المكتوب    "استمتع بالطعم الرائع: طريقة تحضير أيس كريم الفانيليا في المنزل"    سامي مغاوري: جيلنا اتظلم ومكنش عندنا الميديا الحالية    بايدن: إسرائيل غير قادرة على إخلاء مليون فلسطيني من رفح بأمان    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أندريا ليفي.. وجهان لكل حكاية

أحياناً، يخذلنا التّاريخ وتصير الرّواية هي كل ما يتبقي لنا. هكذا جاء ردّ الكاتبة الإنجليزيَّة "أندريا ليفي" علي تساؤل بشأن اختيارها القالب الرّوائي لتحكي من خلاله الحقائق التي تتكشّف لها عن ثلاثمائة عام من التاريخ المفقود للاستعباد في الكاريبي. فلدي أمريكا تاريخها الموثّق والأليم عن العبوديَّة من خلال الكُتب والأفلام والكتب التاريخيَّة، تاريخ أمريكا الّذي يعلمه البريطانيون أكثر من تاريخ استعبادهم للشعوب الكاريبيَّة.
تأخذ أندريا ليفي علي عاتقها مهمة مابعد كولونياليَّة عبر منح الذين قمع التّاريخ أصواتهم، صوتاً. وكانت المصادر إحدي العقبات التي واجهتها في مسيرتها الإبداعيَّة عموماً؛ فأغلب المصادر الكاشفة كانت كُتباً وصحفاً ضافية كتبها سكّان وزوار بيض إلي جامايكا خلال القرن التّاسع عشر. مزارعون وإداريون وتجّار ومبشرون مسيحيون كتبوا يتحدثون عن محنة الحياة بالقرب من الزنوج. لكن دخول حيّز هذه الحيوات المنسيَّة، التاريخ الوحشي لمصنع السكّر الكبير القائم علي السّخرة المسمّي جامايكا، مثّل لها التحدّي الأكبر.
كانت آمي والدة أندريا- مُعلِّمة مُدرّبة من بنات الطبقة الوسطي في جامايكا، أمّا الأب ونستون فكان مُحاسباً في شركة تيت آند لايل للصناعات الغذائيَّة. أبحر الوالدان مِنْ جامايكا إلي انجلترا أواخر الأربعينات تقريباً، ليكتشفا أنّ الميزات التي كانا يحظيان بها في جامايكا لا يُعتدّ بها كثيراً داخل بريطانيا، فاضطرت الأمّ للعمل خيّاطة في حين عمل الأبّ في مكتب بريد. وولدت أندريا عام 1956 طفلة سوداء في انجلترا البيضاء آنذاك، التجربة التي أكسبتها منظوراً مُركباً سينعكس لاحقاً علي مُجمل أعمالها الأدبيَّة.
لم تبدأ أندريا ليفي الكتابة إلا في منتصف الثلاثينات من عمرها، آنذاك لم يكن قد كُتب الكثير عن تجربة السّود في بريطانيا، فكتبت روايات تعكس هذه التجربة بل وتتأمّل بريطانيا بأكملها وتركيبتها السّكانية المتغيّرة والملابسات التي جمعت بين التاريخين البريطاني والكاريبي، وتفحّصت في رواياتها الثلاث الأولي المشكلات التي تواجه أطفال المهاجرين الجامايكيين من ذوي البشرة السوداء. ففي روايتها الأولي شبه السيرية "كل نور في البيت يحترق" 1994 حكاية عائلة جامايكيَّة تعيش في لندن أثناء الستينات، وفي روايتها التّالية "ليس بعيداً عن العمران" 1996 حكاية تدور في السبعينات عن شقيقتين شديدتي الاختلاف تعيشان في إسكان شعبي داخل لندن، أمّا في روايتها الثّالثة "ثمرة الليمون" 1999 تزور الشّابة السوداء "فيث جاكسون" جامايكا بعد أنْ عانت انهياراً عصبيَّاً لتكتشف تاريخاً شخصيَّاً مجهولاً.
في روايتها الرّابعة "جزيرة صغيرة" 2004 والتي صدرت ترجمتها العربيَّة عن سلسلة الجوائز بالقاهرة، تتصدي ليفي لتجارب جيل أبيها، هؤلاء الّذين عادوا إلي بريطانيا عقب انضمامهم للسلاح الجوي الملكي أثناء الحرب العالميَّة الثّانية. أمّا في روايتها الأخيرة "الأغنية الطويلة" 2010 تعود ليفي إلي أصول تلك العلاقة بين بريطانيا والكاريبي، إذْ يدور الكتاب في جامايكا باكورة القرن التّاسع عشر خلال الأيام الأخيرة للعبوديَّة والفترة اللاحقة المباشرة بعد العتق. أخر إصدارات ليفي كتاب "سِت قصص ومقال" 2014 مجموعة قصص كتبتها عن مهنة الأدب ومقال تتحدّث فيه عن إرثها الكاريبي والحافز الّذي دفعها للكتابة.
حازت أندريا ليفي علي جائزة مجلس الفنون ووصلت روايتها الثّانية "ليس بعيداً عن العمران" إلي القائمة الطويلة لجائزة "الأورانج"، لكن روايتها "جزيرة صغيرة" هي التي فازت بالجائزة فضلاً عن جائزة "الوايتبريد" للرواية وجائزة "الوايتبريد" لكتاب العام وجائزة أفضل روايات "الأورانج" فضلاً عن جائزة "الكومنولث". وصلت روايتها الأخيرة "الأغنية الطويلة" للقائمة القصيرة لجائزة "المان بوكر" وفازت بجائزة "والتر سكوت" للرواية التاريخيَّة.
شويَّة فكّة
لم أتعوّد علي تكوين صداقات مع غرباء؛ فأنا لندنيَّة، ولن ينتزع الحياءُ ردّاً مِني علي تعليقات النساء الشمطاوات عن حالة الطقس. أنا لندنيَّة، بمنأي عمّا يجعلني أغير جلدي. علي أنّني كنتُ في ورطة، إذْ جاءت عادتي الشّهريَّة قبل موعدها بيومين دون أنْ أتهيأ.
دخلت "الناشيونال بورتريه جاليري" كي أتخلّص مِن برودة الجو. كنت قَد بدأت أحسّ، وأنا أمشي في الشّوارع الموحشة، كأنّ حامضاً يُرشق بجلدي المكشوف، وسري خدر بأصابعي التي تُفتِّش داخل محفظتي عن فكّة لماكينة الصمامات الصحيَّة، فلا أكاد أحسّ السّحَّاب المجرور. ولأنني لم أكن أملك عملات معدنيَّة، فقد اضطررت إلي أن أهتف بصوت عالي داخل دورة المياه الضّيقة هذه: "هل مع إحداكن ثلاثة وعشرين بنساً فكّة؟"
بدا أنّهن غادرن الحمّام دفعة واحدة- وكنتُ واثقة أنّهن جميعاً لندنيات. وحدها بقيت تعدل شعرها أمام المرآة.
"معك فكّة؟"
استدارت ببطء وأنا أمدّ يدي بورقة بعشرة جنيهات. كانت تحظي بالحاجبين الأكثر إثارة للدهشة. رأيت خطّين مِن الشعر الأسود يُشبهان بُرادة حديد ممغنطة تتداعي فوق عينيها ويكادان يتصلان فوق أنفها. لابُدّ أنّني حملقت طويلاً بهما كي أتذكّرهما بوضوح. كانت عيناها واسعتين سوداوين ووجهها مدوّر ذا فكّ صلب بدت معه أنّها قد تلقّت خبطة خفيفة مِن مقلاة كارتون "توم آند جيري". نقّبت داخل جيب سترتها وخرجت بملء قبضتها من الفلوس الفكّة. قروش في الغالب، رنّ بعضها فوق أرضيَّة الحمّام. لكنها كانت تملك الفكّة: الكثير منها، ولم أكن أرغب في ملء حقيبة منها.
سألتها: "معك ورقة بخمسة جنيهات كذلك؟"
أفْرَغت الفلوس داخل الحوض فتناثرت في برك الماء ورغاوي الصابون الواقفة. بعدها قالت: "ترين؟" كان في كلامها لكنة عجزت عن تبيّن أصلها آنذاك، واعتقدت أنّها ربما كانت اسبانيَّة.
سألتها: "هل هذا كل ما لديك؟". هزّت رأسها، فتابعت: "طيب، سآخذ هذا الآن..." والتقطت مِن الكومة ثلاثة قطع معدنيَّة مبللة، "وسأحصل علي بعض الفكّة من المتجر وأعيدها إليك." كانت نظرتها شديدة الاهتمام مثل هرّة تلهو بكرة من الخيط.
"هل تعين ما أقول؟ الأمر أنّني لا أريد كل هذه النقود المعدنيَّة"
قالت بعذوبة: " بلي."
كنت ممنونة. أخذت النقود لكن حين خرجت من مقصورة الحمّام كانت المرأة وحفنة الفكّة قد اختفيا.
صادفتها من جديد تُحدّق في بورتريه "دارسي بوسيل"، وكان رأسها يميل من جانب إلي آخر كما لو كانت اللوحة فستاناً ستجربه الآن كي تتأكّد من المقاس. دنوت منها كي أتكلّم معها بشأن النقود لكنها بادرتني قائلة: "هذه لوحة رائعة." هل بقي شرحي عالقاً أم أنّ حقيقة إعجابها المروِّع باللوحة هي التي دفعتني أنْ أفغر فمي؟
قلت: "حقّاً تروق لك؟"
قالت: "لا تبدو حقيقيَّة، بل تُشبه بالأحري..." واختلج جفناها ناعسين وهي تفتِّش عن الكلمة المناسبة، "حلماً."
كانت هذه الصورة تحديداً تُذكّرني بخربشات الفتيات العابثات في دفاترهن المدرسيَّة المجدبة.
سألتني: "لا تعجبك؟" هززت كتفي بلا مبالاة فتابعت: "أشيري لي علي اللوحة التي تعجبك."
كما أسلفت من قبل فإنني لم أتعوّد علي تكوين صداقات مع غرباء، لكن كان ثمّة شيء ما في هذه المرأة. كانت تحيط بعينيها ظلال سمراء تُضفي عليهما، حتّي لما تبتسم وهي تُقدِّم نفسها هاشّة باشّة بوصفها "ليلور"، سيماء الفجيعة مثل طفل مكروب في حفل. اعتبرت هذا الإخاء إخفاقاً مِنّي لكنني كنت مضطرة لطرح بورتريه أفضل.
لم يستهوها "ألان بينيت" بحقيبته البُنيَّة الصغيرة الغامضة علي الإطلاق وفضّلت صورة "بيكهام" الفوتوغرافيَّة وجعلتها "جيرمين جرير" تلوي شفتها العليا أمّا بالنسبة ل"أنتونيا سوزان بيات" فقد قهقهت بصوت عالي وقالت: "هذه الطفلة تفعل هذا؟"
كُنا تقريباً قد صرنا فُرجة، إذْ أخفقت "ليلور" في اخفاض صوتها وبدأ الحاضرون في مراقبتنا؛ وتمنيت لو تعفيني من التزامي.
قلت: "ما رأيك لو دعوتك علي كوب شاي، بعدها أعيد لك نقودك."
قعدنا إلي طاولة وأفرغت حفنة الفكّة من جديد ومررتها إليّ في توق واضح كي أدفع منها ثمن الشاي.
قلت: "كلا، سأدفع أنا."
أعادت النقود إلي جيبها فأصدرت صليلاً يُشبه صوت جائزة مِن ماكينة بيع آلية. عُدت أحمل كوبي الشّاي ودفعت إليها علي الفور بالبنسات العشرين التي أدين لها بها لكنها شرعت في اللعب بها فوق الطاولة. دفعت قطعة بالقرب من القطعتين الأخريين لتشكل القطع الثلاث رقم ثمانية، ومالت بغتة عليّ كأنّ ثمّة مؤامرة بيني وبينها وقال: "أحبّ الفنّ" وكشف نور سطع لحظة قصيرة في عينيها الباهتتين حين باحت بهذا الخبر أنّها لم تكن تتعد الثامنة عشرة، وأنّها ربما كانت طالبة.
سألتها: "من أين أنت؟"
سألتها: من أين أنت؟
قالت: "أوزباكستان."
هل عنيت البلقان؟ لم أكن واثقة. "أين هي؟"
بللت أصبعها ثُمّ رسمت خارطة سريعة فوق الطاولة بتركيز شديد وقالت: "هذه أوزباكستان." وبللت أصبعها مرّة أخري كي تطبع بأناة نقطة مبتلة فوق الخارطة وتُردف: "وقد جئت من هنا، طشقند."
قلت وأنا أشير إلي المنطقة المحيطة بالخارطة الصغيرة التي تتبخّر حدودها ومدينتها رويداً رويداً: "وأين كل هذا؟" فقطبت ملامحها كأن لتقول في بقعة غير هامّة.
سألتها: "هل أنت في أجازة؟"
هزّت رأسها.
"كم ستبقين هُنا؟"
اتكأت بمرفقها فوق الطاولة ورشفت من الشاي وصاحت: "إه. الشّاي مُرّ!"
قلت وأنا أدفع أكياس السكّر ناحيتها: "ضعي فيه بعض السكّر."
سألتني مترددة: "هل هو مجّاني؟"
"بلي. أفرغي كيساً"
فتحت الكيس بطريقة خرقاء فاندلق السكّر وضحكت باستخفاف لكنها ثبتت كوبها بتركيز مصلّي عند حافة الطاولة وكنست السكّر بجانب كفّها. سقطت بقيَّة الفتات الموجود فوق الطاولة داخل الشّاي وكذا بعض كسرات الخبز وقصاصة ورق صغيرة وطفت شعرة سوداء مجعّدة فوق سطح مشروبها، فراودني الغثيان وهي ترفع الكوب إلي حنكها.
"ادلقي هذا الشّاي، وسأجلب لك كوباً آخر."
فرغت من الكلام حين وصل شاب إلي طاولتنا وتوقّف أمامها مفسحاً بين قدميه. أنزل القلنسوة من فوق معطفه المبطّن فبدت رأسه مسطّحة بشكل غريب مثل رسوم مقصوصة علي ورق كرتون، وقد التصق شعره بجبينه الّذي غمره العرق علي هيئة دوائر سوداء. ارتسم تعبير صارم علي وجهه حين ارتفعت قبضتيهما وانخرطا في حديث بلغة ما. نبرة "ليلور" ضارعة ونبرة الصبي تحمل غُبْناً. أخرجت "ليلور" النقود من جيبها ورفعتها أمامه لكنها صفعته فوق يده لما حاول انتزاع كل العملات المعدنيّة من راحة يدها. بعدئذ، غادر فجأة كما ظهر.
صاحت "ليلور" بشيء في أعقابه والتفت الحاضرون محملقين بها عدا الصبي الّذي واصل الابتعاد.
"من كان؟"
قالت وقدح الشّاي فوق شفتها: "أخي. يريد أن يعرف أين ننام الليلة."
كنتُ أفتِّش في محتويات حقيبتي عن منديل فسألتها بعفوية: "أوه، وأين ذلك؟"
"ميدان قضينا فيه ليلتنا من قبل."
"أي فندق؟" وكنت أفكِّر في فندق "رسل" الموجود في الميدان ويلبس فيه الخدم زيّاً موحداً. أسرّة مطوية الملاءات علي المودة القديمة.
كانت تلتقط الشعرة السوداء المجعّدة من فوق لسانها حين قالت: "لا فنادق. بل الميدان فقط."
حينئذ بدأت أنتبه لأمور لم ألحظها من قبل: القذارة تحت أظافرها المقروضة وياقة قميصها المكرمشة التي لم تكوي وجرح صغير في وجنتها وخَرْبَشة بدت أنّ قلامة أظافر متبلّدة قد صنعتها. وجدت منديلاً مسحت به راحتيّ اللتان غمرهما العرق.
"ماذا تقصدين بالميدان فقط؟"
قالت: "ننام في الميدان في العراء." وبسطت كفيها ببساطة شديدة كي توحي بوضعية فرشتها.
هزّت رأسها: "الليلة."
كانت ذكري البرد المرير لا تزال تصيب أناملي بالخدر حين قلت: "لِمَ؟" ولم تستغرق أكثر من الفترة التي التقطت خلالها نفسين قبل أنْ تروي الحكاية. كانت قد اضطرت هي وشقيقها إلي مغادرة بلادهما أوزباكستان حين اعتقل أبويها اللذان كانا صحفيين. جري ترتيب السفر علي عجل، ودبّر أصدقاء الأسرة جوازي سفر لهما ووضعوهما علي متن طائرة. هما في انجلترا منذ ثلاثة أيام لكنهما لا يعرفان أحداً هُنا، وهذه البلاد ليست إلا مكاناً آمناً لهما. الآن صار كل ما يملكانه تُقدّمه في راحة يدها لامرأة غريبة في مرحاض. وهكذا كانا ينامان في العراء داخل ساحة ميدان تغطيهما بطاطين فوق بعض ورق الكرتون.
علي الطاولة المجاورة كانت امرأة تشتكي بصوت عالي من وجود رغوة زائدة فوق قهوتها، في حين تقصّ رفيقتها الحكاية البائسة لتجربة ابنتها دخول عالم النشر. تُري أي شيء طرأ ببالهما عن المرأة الجالسة أمامي؟ لاشيء. وحدي أنا مَن عرف مآل عالم "ليلور" المتوعد. كانت قد فقدت سِنّاً. انتبهت إلي الفراغ القبيح حين ابتسمت لي وهي تقول: "أحبّ لندن."
لقد انتقتني وحَمَلتني بعيداً عن الزحام. هذه الشّابة كانت في أمسّ الحاجة للعون، بل وأجبرتني بمكر علي أن التزم ناحيتها.
"لديّ صورة صالتاور بريدجش مُعلّقة فوق حائط في البيت مع أنّي لم أره بعد."
لكن لِمَ أنا؟ كان لدي ابني أشغل بالي به. لِمَ تُزعج أمّاً عزباء مع صبي صغير؟ لا وقت لدينا. هاتان المرأتان علي الطاولة المجاورة بحقيبتي يديهما وحذاءيهما المؤتلفين ليس لديهما ما يفعلانه إلا تناول الغداء. لِم لم تتزلّف إليهما بدلاً مِنّي؟
تابعت الشّابة: "من فتاة صغيرة، أحبّ أن أراه دائماً..." كنتُ أجهل كل ما يتعلّق بالناس في موقفها. ألم يكن عليهما السّفر إلي بقعة ما؟ "كرويدون" مثلاً؟ ألم تكن تستطيع الذهاب لمخفر الشرطة؟ أو مؤسسة خيريَّة ما؟ لقد كان في حياتي ما يكفيها بدون أنْ تتسكّع في طرقاتها هذه المرأة الغريبة. كانت رائحتها عفنة. أتخيّلها تجرجر هذه الرائحة الفظيعة إلي داخل مطبخي وتضع كفيها المتسخين حول فناجيني الخزفيَّة وتلطِّخ ملاءات الكتان البيضاء. وجهها العريض وهي تغمز بحاجبيها الإيمائيين لولدي وسقوطها فوق أريكتي وهي ترفس حذاءها الموحل آخذة بتلابيبي إلي داخل جحيمها الخاص. آنئذٍ تري كيف أتخلّص منها؟
"تعرفين أين هو الصتاور بريدجش؟"
ربّما كان ثمّة تعبير عن الشفقة علي وجهي. لما جاءت جدتي لأمي أول مرّة إلي انجلترا من الكاريبي قاست أياماً باردة وحيدة تُشبه قبراً مفتوحاً، وكانت الحكاية التي روتها لكل أحفادها عن امرأة غريبة أيقظتها أثناء نومها عند عتبة باب وقدّمت لها فراشاً دافئاً تقضي فيه ليلتها. لقد كان هذا الصنيع الخيّر ما أبقي علي جدّتي حيّة. كانت مقتنعة بذلك. امرأتها السّامريَّة الطيبة.
سألتني البنت: "هل ثمّة خطأ؟"
الآن تتكلّم جدتي بتعاطف عن اللاجئين غير الشرعيين، هؤلاء الباحثين عن المأوي العاجزين حتّي عن تحدّث لغته الّذين ينقضون علي البلاد مُصعبين الأحوال عليها وعلي الجميع.
استهلّت حديثاً جديداً بصوت مرتعش: "الأسبوع الفائت... كنت في بيتي" اعتراني حرج وعجزت أن أدير وجهي للجهة الأخري؛ كانت البنت تنظر لي مباشرة وتابعت: "هذا اليوم، الجمعة، طبخت سمكاً لأمي وأخي." واكتسي بياض عينيها بلون وردي شجي، ستبكي. "هذا اليوم الجمعة أنا هُنا في لندن، وأخاف ألا أري أمّي مرّة أخري."
إنّ جلفاً وحده يستطيع الإعراض عنها في حين كل ما تطلبه مُجرّد بعض الرّأفة. عزمت علي مساعدتها. لديّ ثلاث غرف نوم دافئة واحدة منهم فارغة. سأعدّ لها عشاءً، دجاج محمّر أو ربّما سمك مسلوق في نبيذ. سأعدّ لها حمّاماً ملؤه فقاقيع صابون وألفّها داخل مناشف ثقيلة دافئة. بعدئذ أفتّش عن بعض الثياب وبعد أن ينام ولدي سأجهز لها شراب الكاكاو. سنجلس ونتكلّم، وستحكي لي عن كل ما مرّت به. أمسح دموعها وأطمئنها أنّها الآن في مأمن. سأتصل بزميل في المدرسة وأطلب منه النصح، بعدها في الصباح سأصطحب "ليلور" إلي أيما مكان ترغب في الذهاب إليه. وقبل أنْ نفترق سأكبس رقم هاتفي في يدها.
سيعلم كل أحفاد "ليلور" اسمي.
كان المخاط يسيل من أنفها فأنزلت كُمّ سترتها كي تمسح به وجهها وقالت: "لابد أن أعثر علي شقيقي."
قلت : "لم يعد معي مناديل. سأحضر لك شيئاً تمسحين به أنفك."
نهضت من أمام الطاولة وكانت تراقبني مقطبة فأطبقت شعيرات حاجبيها القليلة علي بعضها كما لو كانا لاصقين. مشيت إلي "الكونتر" حيث تراصت الفوط الورقيَّة في كومة نظيفة. التقت أربع فوط بعدها اعتدلت وأكملت المشي. لم أعد إلي "ليلور" بل صعدت الدّرج نحو المخرج. دفعت الأبواب الدّوارة وألقيت نفسي إلي الصقيع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.