رابط تنسيق الدبلومات الفنية 2025.. قائمة كاملة بالكليات والمعاهد المتاحة لطلاب دبلوم صنابع    انخفاض أسعار الذهب الفورية اليوم الجمعة 18-7-2025    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الجمعة 18 يوليو    سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه الجمعة 18-7-2025 بعد ارتفاعه الأخير في 5 بنوك    أسعار الفراخ اليوم الجمعة 18-7-2025 بعد الزيادة وبورصة الدواجن الرئيسية الآن    من بينها المستشفيات، اليوم فصل الكهرباء عن الجهات الحكومية والخدمية والسكنية في بنها    خلال ساعات، عاصفة استوائية جديدة تثير الذعر في أمريكا والملايين في خطر بعد فيضانات تكساس القاتلة    رسميا، مغني الراب الأمريكي سنوب دوج يشارك مودريتشفي ملكية نادٍ كروي    مفاجآت بالجملة.. معسكر تركيا يكتب نهاية 4 نجوم مع بيراميدز (بالأسماء)    كسر ماسورة غاز بسبب أعمال حفر الصرف الصحي في قنا    موعد إعلان نتيجة الثانوية العامة 2025 برقم الجلوس عبر الموقع الرسمي للوزارة    إخماد حريق نشب بمخلفات داخل عقار في العمرانية| صور    توقعات الأبراج وحظك اليوم الجمعة 18 يوليو 2025.. مكاسب مالية ل«الثور» وتقدم مهني لهذا البرج    تأجيل حفل روبي وليجي سي في الساحل الشمالي.. وهذا الموعد الجديد    مدين يتعاون مع رامي صبري في ألبومه الجديد بأغنيتين مميزتين    سقوط سقف فوق رأس رزان مغربي خلال حفل بالجيزة ونقلها للمستشفى    الأهلي بين جنة إيفونا ونار أزارو وتمرد وسام أبو علي.. ما القصة؟    إعلام سوري: اشتباكات عنيفة بين العشائر والدروز بالتزامن مع ضربات جوية إسرائيلية على السويداء    وزة شيطان والدم حن، صلح أبناء شعبان عبد الرحيم بعد خلافات عائلية    جمارك مطار برج العرب الدولي تضبط تهريب كمية من الأدوية    تجديد حبس مديرة مكتب توثيق الشهر العقاري بدمنهور و2 آخرين    الهاني سليمان: الأهلي لا تضمنه حتى تدخل غرف الملابس.. والزمالك أحيانا يرمي "الفوطة"    نائب الرئيس الأمريكي يؤيد خطة ترامب لتوريد السلاح لأوكرانيا على نفقة الأوروبيين    رئيس هيئة النيابة الإدارية يستقبل وزير الأوقاف    اتحاد الكرة يقيم عزاء لميمي عبد الرازق في القاهرة    خالي من السكان.. انهيار جزئي في عقار خلف مسجد أحمد بن طولون بالسيدة زينب    وزير الرياضة: استثمارات نجيب ساويرس دليل على نجاح تحويل الأندية لكيانات اقتصادية ربحية    الحزن ينهش جسد والد أطفال المنيا.. ونقله لمستشفى أسيوط    منظمة المرأة العربية تعقد دورة حول "تمكين النساء في مجال إدارة المشاريع الزراعية"    حدث منتصف الليل| مظهر شاهين يرد على تصريح "يمامة" المثير.. وتحذير من طقس الساعات المقبلة    أبرزها حبس رجال الأعمال.. وزير العمل يوضح كيف اعترض النواب على قانون العمل الجديد    الرئاسة السورية: المجموعات الخارجة عن القانون انتهكت التزامات الوساطة الأمريكية العربية    فلسطين.. استشهاد اثنين وإصابة آخرين جراء قصف إسرائيلي على الحي الياباني في خان يونس    هل تعد المرأة زانية إذا خلعت زوجها؟ د. سعد الهلالي يحسم الجدل    عم الأطفال الخمسة المتوفين بالمنيا: الطفل يكون طبيعيا 100%.. ويموت خلال ساعة من ظهور الأعراض    متحدث الصحة: لا أمرض معدية أو فيروسات وبائية في واقعة "أطفال المنيا"    انخفاض مفاجئ في أسعار اللحوم اليوم بالأسواق    ارتفاع طن اليوريا العادي 1026 جنيها، أسعار الأسمدة اليوم في الأسواق    رسميا.. عدد أيام إجازة ثورة 23 يوليو 2025 بعد ترحيلها من مجلس الوزراء (تفاصيل)    حزب الله: الظلم الكبير الذي تعرض له جورج عبد الله وإبقاؤه محتجزا رغم انتهاء محكوميته وصمة عار لفرنسا    بمشاركة 9 جامعات.. غدا انطلاق فاعليات ملتقى إبداع السادس لكليات التربية النوعية ببنها    «لا أحد معصوم من الخطأ».. نجم الإسماعيلي يعتذر بسبب قميص بيراميدز    «حزب الوفد مذكور في القرآن».. مظهر شاهين يهاجم يمامة: كتاب الله ليس وسيلة للدعاية    «الزمالك بيرمي الفوطة عكس الأهلي».. تعليق مثير من الهاني سليمان بشأن مواجهة القطبين    شاهد بالصور.. أعمال إصلاحات هبوط أرضى بمحور الأوتوستراد    رئيس جامعة المنيا في جولة مفاجئة بمستشفى القلب والصدر    100% نسبة تنفيذ.. قوافل دمياط العلاجية تقدم خدماتها ل 41 ألف مواطن في 2025    أحمد مالك وسلمى أبو ضيف يتعاقدان علي عمل جديد    إسرائيل ترفع الإنفاق الدفاعى 12.5 مليار دولار لتغطية الحرب على غزة    أخبار × 24 ساعة.. الخميس المقبل إجازة مدفوعة الأجر بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو    مشيرة إسماعيل: حياتى كانت انضباطًا عسكريًا.. وعاملونا كسفراء بالخارج    "أم كلثوم.. الست والوطن".. لقطات لانبهار الفرنسيين خلال حفل أم كلثوم بمسرح أولمبيا    الهلال يتفق على تمديد عقد بونو حتى 2028 بعد تألقه اللافت    طبيب مصري بأمريكا لتليفزيون اليوم السابع: ترامب يحتاج جراحة لعلاج القصور الوريدي    محافظ الإسماعيلية يبحث الاستعدادات لانتخابات مجلس الشيوخ.. 135 مركزًا انتخابيًا لاستقبال مليون ناخب    ما حكم التحايل الإلكترونى؟ أمين الفتوى يحسم الجدل    ما حكم استخدام إنترنت العمل في أمور شخصية؟.. أمين الفتوى يجيب    خالد الجندي: تقديم العقل على النص الشرعي يؤدي للهلاك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أندريا ليفي.. وجهان لكل حكاية

أحياناً، يخذلنا التّاريخ وتصير الرّواية هي كل ما يتبقي لنا. هكذا جاء ردّ الكاتبة الإنجليزيَّة "أندريا ليفي" علي تساؤل بشأن اختيارها القالب الرّوائي لتحكي من خلاله الحقائق التي تتكشّف لها عن ثلاثمائة عام من التاريخ المفقود للاستعباد في الكاريبي. فلدي أمريكا تاريخها الموثّق والأليم عن العبوديَّة من خلال الكُتب والأفلام والكتب التاريخيَّة، تاريخ أمريكا الّذي يعلمه البريطانيون أكثر من تاريخ استعبادهم للشعوب الكاريبيَّة.
تأخذ أندريا ليفي علي عاتقها مهمة مابعد كولونياليَّة عبر منح الذين قمع التّاريخ أصواتهم، صوتاً. وكانت المصادر إحدي العقبات التي واجهتها في مسيرتها الإبداعيَّة عموماً؛ فأغلب المصادر الكاشفة كانت كُتباً وصحفاً ضافية كتبها سكّان وزوار بيض إلي جامايكا خلال القرن التّاسع عشر. مزارعون وإداريون وتجّار ومبشرون مسيحيون كتبوا يتحدثون عن محنة الحياة بالقرب من الزنوج. لكن دخول حيّز هذه الحيوات المنسيَّة، التاريخ الوحشي لمصنع السكّر الكبير القائم علي السّخرة المسمّي جامايكا، مثّل لها التحدّي الأكبر.
كانت آمي والدة أندريا- مُعلِّمة مُدرّبة من بنات الطبقة الوسطي في جامايكا، أمّا الأب ونستون فكان مُحاسباً في شركة تيت آند لايل للصناعات الغذائيَّة. أبحر الوالدان مِنْ جامايكا إلي انجلترا أواخر الأربعينات تقريباً، ليكتشفا أنّ الميزات التي كانا يحظيان بها في جامايكا لا يُعتدّ بها كثيراً داخل بريطانيا، فاضطرت الأمّ للعمل خيّاطة في حين عمل الأبّ في مكتب بريد. وولدت أندريا عام 1956 طفلة سوداء في انجلترا البيضاء آنذاك، التجربة التي أكسبتها منظوراً مُركباً سينعكس لاحقاً علي مُجمل أعمالها الأدبيَّة.
لم تبدأ أندريا ليفي الكتابة إلا في منتصف الثلاثينات من عمرها، آنذاك لم يكن قد كُتب الكثير عن تجربة السّود في بريطانيا، فكتبت روايات تعكس هذه التجربة بل وتتأمّل بريطانيا بأكملها وتركيبتها السّكانية المتغيّرة والملابسات التي جمعت بين التاريخين البريطاني والكاريبي، وتفحّصت في رواياتها الثلاث الأولي المشكلات التي تواجه أطفال المهاجرين الجامايكيين من ذوي البشرة السوداء. ففي روايتها الأولي شبه السيرية "كل نور في البيت يحترق" 1994 حكاية عائلة جامايكيَّة تعيش في لندن أثناء الستينات، وفي روايتها التّالية "ليس بعيداً عن العمران" 1996 حكاية تدور في السبعينات عن شقيقتين شديدتي الاختلاف تعيشان في إسكان شعبي داخل لندن، أمّا في روايتها الثّالثة "ثمرة الليمون" 1999 تزور الشّابة السوداء "فيث جاكسون" جامايكا بعد أنْ عانت انهياراً عصبيَّاً لتكتشف تاريخاً شخصيَّاً مجهولاً.
في روايتها الرّابعة "جزيرة صغيرة" 2004 والتي صدرت ترجمتها العربيَّة عن سلسلة الجوائز بالقاهرة، تتصدي ليفي لتجارب جيل أبيها، هؤلاء الّذين عادوا إلي بريطانيا عقب انضمامهم للسلاح الجوي الملكي أثناء الحرب العالميَّة الثّانية. أمّا في روايتها الأخيرة "الأغنية الطويلة" 2010 تعود ليفي إلي أصول تلك العلاقة بين بريطانيا والكاريبي، إذْ يدور الكتاب في جامايكا باكورة القرن التّاسع عشر خلال الأيام الأخيرة للعبوديَّة والفترة اللاحقة المباشرة بعد العتق. أخر إصدارات ليفي كتاب "سِت قصص ومقال" 2014 مجموعة قصص كتبتها عن مهنة الأدب ومقال تتحدّث فيه عن إرثها الكاريبي والحافز الّذي دفعها للكتابة.
حازت أندريا ليفي علي جائزة مجلس الفنون ووصلت روايتها الثّانية "ليس بعيداً عن العمران" إلي القائمة الطويلة لجائزة "الأورانج"، لكن روايتها "جزيرة صغيرة" هي التي فازت بالجائزة فضلاً عن جائزة "الوايتبريد" للرواية وجائزة "الوايتبريد" لكتاب العام وجائزة أفضل روايات "الأورانج" فضلاً عن جائزة "الكومنولث". وصلت روايتها الأخيرة "الأغنية الطويلة" للقائمة القصيرة لجائزة "المان بوكر" وفازت بجائزة "والتر سكوت" للرواية التاريخيَّة.
شويَّة فكّة
لم أتعوّد علي تكوين صداقات مع غرباء؛ فأنا لندنيَّة، ولن ينتزع الحياءُ ردّاً مِني علي تعليقات النساء الشمطاوات عن حالة الطقس. أنا لندنيَّة، بمنأي عمّا يجعلني أغير جلدي. علي أنّني كنتُ في ورطة، إذْ جاءت عادتي الشّهريَّة قبل موعدها بيومين دون أنْ أتهيأ.
دخلت "الناشيونال بورتريه جاليري" كي أتخلّص مِن برودة الجو. كنت قَد بدأت أحسّ، وأنا أمشي في الشّوارع الموحشة، كأنّ حامضاً يُرشق بجلدي المكشوف، وسري خدر بأصابعي التي تُفتِّش داخل محفظتي عن فكّة لماكينة الصمامات الصحيَّة، فلا أكاد أحسّ السّحَّاب المجرور. ولأنني لم أكن أملك عملات معدنيَّة، فقد اضطررت إلي أن أهتف بصوت عالي داخل دورة المياه الضّيقة هذه: "هل مع إحداكن ثلاثة وعشرين بنساً فكّة؟"
بدا أنّهن غادرن الحمّام دفعة واحدة- وكنتُ واثقة أنّهن جميعاً لندنيات. وحدها بقيت تعدل شعرها أمام المرآة.
"معك فكّة؟"
استدارت ببطء وأنا أمدّ يدي بورقة بعشرة جنيهات. كانت تحظي بالحاجبين الأكثر إثارة للدهشة. رأيت خطّين مِن الشعر الأسود يُشبهان بُرادة حديد ممغنطة تتداعي فوق عينيها ويكادان يتصلان فوق أنفها. لابُدّ أنّني حملقت طويلاً بهما كي أتذكّرهما بوضوح. كانت عيناها واسعتين سوداوين ووجهها مدوّر ذا فكّ صلب بدت معه أنّها قد تلقّت خبطة خفيفة مِن مقلاة كارتون "توم آند جيري". نقّبت داخل جيب سترتها وخرجت بملء قبضتها من الفلوس الفكّة. قروش في الغالب، رنّ بعضها فوق أرضيَّة الحمّام. لكنها كانت تملك الفكّة: الكثير منها، ولم أكن أرغب في ملء حقيبة منها.
سألتها: "معك ورقة بخمسة جنيهات كذلك؟"
أفْرَغت الفلوس داخل الحوض فتناثرت في برك الماء ورغاوي الصابون الواقفة. بعدها قالت: "ترين؟" كان في كلامها لكنة عجزت عن تبيّن أصلها آنذاك، واعتقدت أنّها ربما كانت اسبانيَّة.
سألتها: "هل هذا كل ما لديك؟". هزّت رأسها، فتابعت: "طيب، سآخذ هذا الآن..." والتقطت مِن الكومة ثلاثة قطع معدنيَّة مبللة، "وسأحصل علي بعض الفكّة من المتجر وأعيدها إليك." كانت نظرتها شديدة الاهتمام مثل هرّة تلهو بكرة من الخيط.
"هل تعين ما أقول؟ الأمر أنّني لا أريد كل هذه النقود المعدنيَّة"
قالت بعذوبة: " بلي."
كنت ممنونة. أخذت النقود لكن حين خرجت من مقصورة الحمّام كانت المرأة وحفنة الفكّة قد اختفيا.
صادفتها من جديد تُحدّق في بورتريه "دارسي بوسيل"، وكان رأسها يميل من جانب إلي آخر كما لو كانت اللوحة فستاناً ستجربه الآن كي تتأكّد من المقاس. دنوت منها كي أتكلّم معها بشأن النقود لكنها بادرتني قائلة: "هذه لوحة رائعة." هل بقي شرحي عالقاً أم أنّ حقيقة إعجابها المروِّع باللوحة هي التي دفعتني أنْ أفغر فمي؟
قلت: "حقّاً تروق لك؟"
قالت: "لا تبدو حقيقيَّة، بل تُشبه بالأحري..." واختلج جفناها ناعسين وهي تفتِّش عن الكلمة المناسبة، "حلماً."
كانت هذه الصورة تحديداً تُذكّرني بخربشات الفتيات العابثات في دفاترهن المدرسيَّة المجدبة.
سألتني: "لا تعجبك؟" هززت كتفي بلا مبالاة فتابعت: "أشيري لي علي اللوحة التي تعجبك."
كما أسلفت من قبل فإنني لم أتعوّد علي تكوين صداقات مع غرباء، لكن كان ثمّة شيء ما في هذه المرأة. كانت تحيط بعينيها ظلال سمراء تُضفي عليهما، حتّي لما تبتسم وهي تُقدِّم نفسها هاشّة باشّة بوصفها "ليلور"، سيماء الفجيعة مثل طفل مكروب في حفل. اعتبرت هذا الإخاء إخفاقاً مِنّي لكنني كنت مضطرة لطرح بورتريه أفضل.
لم يستهوها "ألان بينيت" بحقيبته البُنيَّة الصغيرة الغامضة علي الإطلاق وفضّلت صورة "بيكهام" الفوتوغرافيَّة وجعلتها "جيرمين جرير" تلوي شفتها العليا أمّا بالنسبة ل"أنتونيا سوزان بيات" فقد قهقهت بصوت عالي وقالت: "هذه الطفلة تفعل هذا؟"
كُنا تقريباً قد صرنا فُرجة، إذْ أخفقت "ليلور" في اخفاض صوتها وبدأ الحاضرون في مراقبتنا؛ وتمنيت لو تعفيني من التزامي.
قلت: "ما رأيك لو دعوتك علي كوب شاي، بعدها أعيد لك نقودك."
قعدنا إلي طاولة وأفرغت حفنة الفكّة من جديد ومررتها إليّ في توق واضح كي أدفع منها ثمن الشاي.
قلت: "كلا، سأدفع أنا."
أعادت النقود إلي جيبها فأصدرت صليلاً يُشبه صوت جائزة مِن ماكينة بيع آلية. عُدت أحمل كوبي الشّاي ودفعت إليها علي الفور بالبنسات العشرين التي أدين لها بها لكنها شرعت في اللعب بها فوق الطاولة. دفعت قطعة بالقرب من القطعتين الأخريين لتشكل القطع الثلاث رقم ثمانية، ومالت بغتة عليّ كأنّ ثمّة مؤامرة بيني وبينها وقال: "أحبّ الفنّ" وكشف نور سطع لحظة قصيرة في عينيها الباهتتين حين باحت بهذا الخبر أنّها لم تكن تتعد الثامنة عشرة، وأنّها ربما كانت طالبة.
سألتها: "من أين أنت؟"
سألتها: من أين أنت؟
قالت: "أوزباكستان."
هل عنيت البلقان؟ لم أكن واثقة. "أين هي؟"
بللت أصبعها ثُمّ رسمت خارطة سريعة فوق الطاولة بتركيز شديد وقالت: "هذه أوزباكستان." وبللت أصبعها مرّة أخري كي تطبع بأناة نقطة مبتلة فوق الخارطة وتُردف: "وقد جئت من هنا، طشقند."
قلت وأنا أشير إلي المنطقة المحيطة بالخارطة الصغيرة التي تتبخّر حدودها ومدينتها رويداً رويداً: "وأين كل هذا؟" فقطبت ملامحها كأن لتقول في بقعة غير هامّة.
سألتها: "هل أنت في أجازة؟"
هزّت رأسها.
"كم ستبقين هُنا؟"
اتكأت بمرفقها فوق الطاولة ورشفت من الشاي وصاحت: "إه. الشّاي مُرّ!"
قلت وأنا أدفع أكياس السكّر ناحيتها: "ضعي فيه بعض السكّر."
سألتني مترددة: "هل هو مجّاني؟"
"بلي. أفرغي كيساً"
فتحت الكيس بطريقة خرقاء فاندلق السكّر وضحكت باستخفاف لكنها ثبتت كوبها بتركيز مصلّي عند حافة الطاولة وكنست السكّر بجانب كفّها. سقطت بقيَّة الفتات الموجود فوق الطاولة داخل الشّاي وكذا بعض كسرات الخبز وقصاصة ورق صغيرة وطفت شعرة سوداء مجعّدة فوق سطح مشروبها، فراودني الغثيان وهي ترفع الكوب إلي حنكها.
"ادلقي هذا الشّاي، وسأجلب لك كوباً آخر."
فرغت من الكلام حين وصل شاب إلي طاولتنا وتوقّف أمامها مفسحاً بين قدميه. أنزل القلنسوة من فوق معطفه المبطّن فبدت رأسه مسطّحة بشكل غريب مثل رسوم مقصوصة علي ورق كرتون، وقد التصق شعره بجبينه الّذي غمره العرق علي هيئة دوائر سوداء. ارتسم تعبير صارم علي وجهه حين ارتفعت قبضتيهما وانخرطا في حديث بلغة ما. نبرة "ليلور" ضارعة ونبرة الصبي تحمل غُبْناً. أخرجت "ليلور" النقود من جيبها ورفعتها أمامه لكنها صفعته فوق يده لما حاول انتزاع كل العملات المعدنيّة من راحة يدها. بعدئذ، غادر فجأة كما ظهر.
صاحت "ليلور" بشيء في أعقابه والتفت الحاضرون محملقين بها عدا الصبي الّذي واصل الابتعاد.
"من كان؟"
قالت وقدح الشّاي فوق شفتها: "أخي. يريد أن يعرف أين ننام الليلة."
كنتُ أفتِّش في محتويات حقيبتي عن منديل فسألتها بعفوية: "أوه، وأين ذلك؟"
"ميدان قضينا فيه ليلتنا من قبل."
"أي فندق؟" وكنت أفكِّر في فندق "رسل" الموجود في الميدان ويلبس فيه الخدم زيّاً موحداً. أسرّة مطوية الملاءات علي المودة القديمة.
كانت تلتقط الشعرة السوداء المجعّدة من فوق لسانها حين قالت: "لا فنادق. بل الميدان فقط."
حينئذ بدأت أنتبه لأمور لم ألحظها من قبل: القذارة تحت أظافرها المقروضة وياقة قميصها المكرمشة التي لم تكوي وجرح صغير في وجنتها وخَرْبَشة بدت أنّ قلامة أظافر متبلّدة قد صنعتها. وجدت منديلاً مسحت به راحتيّ اللتان غمرهما العرق.
"ماذا تقصدين بالميدان فقط؟"
قالت: "ننام في الميدان في العراء." وبسطت كفيها ببساطة شديدة كي توحي بوضعية فرشتها.
هزّت رأسها: "الليلة."
كانت ذكري البرد المرير لا تزال تصيب أناملي بالخدر حين قلت: "لِمَ؟" ولم تستغرق أكثر من الفترة التي التقطت خلالها نفسين قبل أنْ تروي الحكاية. كانت قد اضطرت هي وشقيقها إلي مغادرة بلادهما أوزباكستان حين اعتقل أبويها اللذان كانا صحفيين. جري ترتيب السفر علي عجل، ودبّر أصدقاء الأسرة جوازي سفر لهما ووضعوهما علي متن طائرة. هما في انجلترا منذ ثلاثة أيام لكنهما لا يعرفان أحداً هُنا، وهذه البلاد ليست إلا مكاناً آمناً لهما. الآن صار كل ما يملكانه تُقدّمه في راحة يدها لامرأة غريبة في مرحاض. وهكذا كانا ينامان في العراء داخل ساحة ميدان تغطيهما بطاطين فوق بعض ورق الكرتون.
علي الطاولة المجاورة كانت امرأة تشتكي بصوت عالي من وجود رغوة زائدة فوق قهوتها، في حين تقصّ رفيقتها الحكاية البائسة لتجربة ابنتها دخول عالم النشر. تُري أي شيء طرأ ببالهما عن المرأة الجالسة أمامي؟ لاشيء. وحدي أنا مَن عرف مآل عالم "ليلور" المتوعد. كانت قد فقدت سِنّاً. انتبهت إلي الفراغ القبيح حين ابتسمت لي وهي تقول: "أحبّ لندن."
لقد انتقتني وحَمَلتني بعيداً عن الزحام. هذه الشّابة كانت في أمسّ الحاجة للعون، بل وأجبرتني بمكر علي أن التزم ناحيتها.
"لديّ صورة صالتاور بريدجش مُعلّقة فوق حائط في البيت مع أنّي لم أره بعد."
لكن لِمَ أنا؟ كان لدي ابني أشغل بالي به. لِمَ تُزعج أمّاً عزباء مع صبي صغير؟ لا وقت لدينا. هاتان المرأتان علي الطاولة المجاورة بحقيبتي يديهما وحذاءيهما المؤتلفين ليس لديهما ما يفعلانه إلا تناول الغداء. لِم لم تتزلّف إليهما بدلاً مِنّي؟
تابعت الشّابة: "من فتاة صغيرة، أحبّ أن أراه دائماً..." كنتُ أجهل كل ما يتعلّق بالناس في موقفها. ألم يكن عليهما السّفر إلي بقعة ما؟ "كرويدون" مثلاً؟ ألم تكن تستطيع الذهاب لمخفر الشرطة؟ أو مؤسسة خيريَّة ما؟ لقد كان في حياتي ما يكفيها بدون أنْ تتسكّع في طرقاتها هذه المرأة الغريبة. كانت رائحتها عفنة. أتخيّلها تجرجر هذه الرائحة الفظيعة إلي داخل مطبخي وتضع كفيها المتسخين حول فناجيني الخزفيَّة وتلطِّخ ملاءات الكتان البيضاء. وجهها العريض وهي تغمز بحاجبيها الإيمائيين لولدي وسقوطها فوق أريكتي وهي ترفس حذاءها الموحل آخذة بتلابيبي إلي داخل جحيمها الخاص. آنئذٍ تري كيف أتخلّص منها؟
"تعرفين أين هو الصتاور بريدجش؟"
ربّما كان ثمّة تعبير عن الشفقة علي وجهي. لما جاءت جدتي لأمي أول مرّة إلي انجلترا من الكاريبي قاست أياماً باردة وحيدة تُشبه قبراً مفتوحاً، وكانت الحكاية التي روتها لكل أحفادها عن امرأة غريبة أيقظتها أثناء نومها عند عتبة باب وقدّمت لها فراشاً دافئاً تقضي فيه ليلتها. لقد كان هذا الصنيع الخيّر ما أبقي علي جدّتي حيّة. كانت مقتنعة بذلك. امرأتها السّامريَّة الطيبة.
سألتني البنت: "هل ثمّة خطأ؟"
الآن تتكلّم جدتي بتعاطف عن اللاجئين غير الشرعيين، هؤلاء الباحثين عن المأوي العاجزين حتّي عن تحدّث لغته الّذين ينقضون علي البلاد مُصعبين الأحوال عليها وعلي الجميع.
استهلّت حديثاً جديداً بصوت مرتعش: "الأسبوع الفائت... كنت في بيتي" اعتراني حرج وعجزت أن أدير وجهي للجهة الأخري؛ كانت البنت تنظر لي مباشرة وتابعت: "هذا اليوم، الجمعة، طبخت سمكاً لأمي وأخي." واكتسي بياض عينيها بلون وردي شجي، ستبكي. "هذا اليوم الجمعة أنا هُنا في لندن، وأخاف ألا أري أمّي مرّة أخري."
إنّ جلفاً وحده يستطيع الإعراض عنها في حين كل ما تطلبه مُجرّد بعض الرّأفة. عزمت علي مساعدتها. لديّ ثلاث غرف نوم دافئة واحدة منهم فارغة. سأعدّ لها عشاءً، دجاج محمّر أو ربّما سمك مسلوق في نبيذ. سأعدّ لها حمّاماً ملؤه فقاقيع صابون وألفّها داخل مناشف ثقيلة دافئة. بعدئذ أفتّش عن بعض الثياب وبعد أن ينام ولدي سأجهز لها شراب الكاكاو. سنجلس ونتكلّم، وستحكي لي عن كل ما مرّت به. أمسح دموعها وأطمئنها أنّها الآن في مأمن. سأتصل بزميل في المدرسة وأطلب منه النصح، بعدها في الصباح سأصطحب "ليلور" إلي أيما مكان ترغب في الذهاب إليه. وقبل أنْ نفترق سأكبس رقم هاتفي في يدها.
سيعلم كل أحفاد "ليلور" اسمي.
كان المخاط يسيل من أنفها فأنزلت كُمّ سترتها كي تمسح به وجهها وقالت: "لابد أن أعثر علي شقيقي."
قلت : "لم يعد معي مناديل. سأحضر لك شيئاً تمسحين به أنفك."
نهضت من أمام الطاولة وكانت تراقبني مقطبة فأطبقت شعيرات حاجبيها القليلة علي بعضها كما لو كانا لاصقين. مشيت إلي "الكونتر" حيث تراصت الفوط الورقيَّة في كومة نظيفة. التقت أربع فوط بعدها اعتدلت وأكملت المشي. لم أعد إلي "ليلور" بل صعدت الدّرج نحو المخرج. دفعت الأبواب الدّوارة وألقيت نفسي إلي الصقيع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.