د. ياسر منجي برغم أن الأثر الخطير للمُعَلِّم في نفوس الناشئة، ودورَه الفارق في دفع عجلة تطور المجتمع، باتا مِن قبيل المُسَلّمات، التي ربما بدا الحديث فيها نافلةً لا تستحق كبيرَ جهدٍ في إثبات فَرضِيّاتها الظاهرة للعيان، والتي أثبتَتها شواهدُ تاريخيةٌ وعلميةٌ يصعب إحصاؤها، فإن دُروبَ هذا الحديث نفسِه يبدو أنها لم تَستَوْفِ بَعدُ تمامَ السَيْرِ فيها إلي غاية مُنتهاها، فيما يختَصُّ بِدَورِ مُعَلِّم الفن – أو مُدَرِّس التربية الفنية علي وجه التخصيص – وأثرُه في حركة التنوير في بلادنا، وتَنشِئة المبدعين الذين اضطلعوا بِحَمل شُعلَتِها، علي امتدادٍ أكثرَ مِن قرن. وإن جاز لي أن أستحضر، من مخزون خبرتي الشخصية، نموذجاً دالّاً علي أثر هذا الدور الفارق لمُعَلّم الفن، وما قد يؤدي إليه من توجيهٍ لمصائر مَن يتتلمذون عليه – وبخاصّةٍ في المراحل الأولي من التعليم – فلن أجد خيراً من أستاذٍ للتربية الفنية، تتلمَذتُ عليه في السنوات الأولي من دراستي الابتدائية، كان له أطيب الأثر في تشجيعي وبَثّ روح الثقة بداخلي؛ حين كان يُوالي الإشادة برسومي الأولي الساذجة في حصص التربية الفنية. لا زلت أذكر حتي الآن ملامحه المصرية السمراء، وصوته الفيّاض بالأُبُوّة، بل ولا زلت أذكر اسمَه: »السيد جمال»، وأدعو الله أن يبارك في عُمرِه، إذا كان لا يزال من أهل الدنيا، وأن يُقَيّض له الاطّلاع علي هذه السطور، ليعلم أن هناك مَن يذكره بالخير، وأن جهده كان سبباً في سلوك أحد تلاميذه سبيل احتراف الفن والنقد والتأريخ للفن. وإن كان قد سبَقَني إلي دار البقاء، فأدعو الله أن يشمله بواسع عفوه وأن يتقبل عمله الصالح. غير أن نموذج معلم الفنون لم يتوقف عند حدود المدرس المتفرغ للعملية التعليمية – علي خطر دوره – بل تجاوزها إلي آفاقٍ أوسَع، جمع فيها بعض هؤلاء المدرسين بين صفة المُعَلّم وصفة الفنان المبدع، بل وبلغ بعضهم آفاقاً من التألق والشهرة، سَلَكَتهم في عداد كبار أساطين الفن المصري ورموزه. وفي تقديري أن التقييم التاريخي لدور مُعَلِّم الفن – من هذا الطراز الأخير - في سياق تطور الحركة الفنية المصرية، لم يَحظَ بعدُ بدراسةٍ شاملةٍ، تتتَبَّعُ تَحَوُّلاتِه وترصُد أهم شخصياته الرائدة والفاعلة. فبخلاف الروايات المتناثرة عن بعض مشاهير الرواد في هذا المجال – وهي روايات تَرِد في ثنايا الكتابات الراصدة لتاريخ الفن المصري، دون رابط سياقي – لا نجد عملاً بحثياً قائماً بذاتِه يستَقصي أدوار هؤلاء المعلمين الرواد، ويلقي الضوء علي أدوارهم في إذكاء الوعي المصري العام. لذا، فربا يكون هذا المقال نواةً لمثل هذا النوع من الدراسات المنشودة. يكفي أن نعلم، في مُستَهَلّ هذا الاستعراض السريع، أن اثنَين من هؤلاء المدرسين الأفذاذ، صارا في غضون سنواتٍ قلائل، من بداية اشتغالهما بتدريس الفن، عَلَمَين كبيرَين من رواد الفن المصري الأوائل، واستطاع من خلال نموذج كفاحهما المُشَرّف في التدريس أن يستقطبا اهتمام الدوائر السياسية والبرلمانية في مصر. إنهما الرائدان »يوسف كامل» (1891-1971م)، و »راغب عياد» (1892-1980)، وكانا قد اشتغلا بتدريس الرسم عقب تَخَرّجهما من »مدرسة الفنون الجميلة»، فكان أوَّلُهما مدرساً للرسم ب»المدرسة الإعدادية»، بينما كان الثاني مدرساً لنفس المادة ب»مدرسة الأقباط الكبري» بالقاهرة. اتَّفَق المُدَرّسان الشابّان، اللذان كانا يواصلان تأسيس مشروعهما الفني بالتوازي مع كفاحهما الوظيفي، أن يستزيدا من الانفتاح علي الفن العالمي؛ من خلال السفر لبعثة دراسية بإيطاليا. ولما كانا لا يملكان تكاليفها وقتذاك، فقد اتفقا علي أن يسافر »يوسف كامل» أولاً، ليقوم »راغب عياد» بالعمل بدلاً منه في المدرسة الإعدادية – إلي جانب عمله بمدرسة الأقباط – ليرسل له راتبه الشهري، علي أن يتبادل الصديقان الأدوار فور عودة »كامل» من البعثة. وفور أن وصلت القصة مسامع الزعيم »سعد زغلول»، طلب لقاء الفنانَين، وأشاد بقصة كفاحهما المُشَرِّف المُلهِم، وأوعز إلي »ويصا واصف» باشا بأن يطرح هذه القصة للنقاش في البرلمان، مطالباً باعتماد مبلغ سنوي للإنفاق علي البعثات الفنية، لتُرسَل أولي هذه البعثات المنتظمة ابتداءً من عام 1925، ليكون المُدَرّسان الشابّان بذلك سبباً في تمهيد السبيل أمام أجيال من الفنانين، استفادت من البعثات الفنية علي امتداد العقود التالية. ولم يلبث معلّمو الفنون أن بدأوا في تمهيد الطريق أمام أنماطٍ أخري من التأسيس الإبداعي، والترويج للفنون في أرجاء مصر. فبعد ثلاث سنوات من قيام أولي البعثات النظامية المذكورة، تأسست فى عام 1928 «جماعة الدعاية الفنية»،على يد الفنان التربوى «حبيب جورجى» (1892-1964م)، رائد الحركة الشعبية فى الفن المصرى، وكان هدفه من تأسيسها مقاومة فرض الذوق الجمالى للأجانب على المصريين، مُلِحًّا على تأكيد الصلة بين العمل الفنى، ومتلقيه وصانعه، وظل لسنوات ثلاث يطوف عواصممحافظات مصر، شارحًا مبادئ الجمال بلغة مبسطة، ومنقبًّا عن المواهب الفطرية بين أطفال هذه المحافظات. ضمت الجماعة عدداً من أبرز الفنانين المصريين؛ مثل: «أحمد صبرى» (1889 – 1955)، و«صلاح طاهر» (1911 – 2007)، و«رمسيس يونان» (1913 – 1966)، و»حسين بيكار» (1913 – 2002). كما انضم إليها عددٌ كبير من تلاميذ «حبيب جورجى»، من خريجى «مدرسة المعلمين العليا». ويكفى أن نعلم أن كافة الأسماء المذكورة سابقاً كان أصحابُها يشتغلون بتدريس الفن فى المدارس آنذاك؛ إذ كان «رمسيس يونان مدرساً بمدرسة «بورسعيد الثانوية»، وكان «صلاح طاهر» مدرساً بالمدرسة «العباسية الثانوية» بالإسكندرية، وكان «حسين بيكار» مدرساً بمدرسة «قنا الثانوية الأميرية»، بينما كان «حبيب جورجي» – مؤسس الجماعة – مفتشاً للرسم بالتعليم الثانوى بوزارة المعارف. وقد أقامت الجماعة أول معارضها فى عامها الأول، وتجاوز نشاطها مدينة القاهرة إلى خارجها، فتبنت أصحاب المواهب وشجعتهم، وأقامت معرضًا بمدينة طنطا، وآخر بمدينة الزقازيق سنة 1934. وكان من أهم انجازاتها إصدار كتاب «غاية الرسام العصري» ل«رمسيس يونان» عام 1938، وهو الكتاب الذى تضمن الأسس النظرية للاتجاهات الفنية الحديثة، التى أعلنتها لاحقاً «جماعة الفن والحرية» الشهيرة. وكان «رمسيس يونان» قد بدأ اتصاله ب «جماعة الدعاية الفنية» عام 1935، وعن طريقها بدأت معرفة المثقفين به ناقدًا. كذلك فقد كان تأسيس «اتحاد أساتذة الرسم والأشغال» وصدور «مجلة الاتحاد الدولى للتربية الفنية» عام 1936، تمهيداً مهماً لظهور العديد من التيارات التى استفادت فيما بعد من هذا التوجُّه، فى إطار عملية التحديث والتطوير الفني. ومن أهم هذه الجماعات، «جماعة الفن الشعبى – الفِطْرى»، التى لعبت دوراً ريادياً فى تبنى القيادات الطليعية فى الفن، وإلقاء الضوء على قيم التراث عامة والفن الشعبى والفطرى وفن الطفل بصفة خاصة. وفى عام 1938م كون الرائد «حبيب جورجى» - أحد مؤسسى الاتحاد والمجلة، ومؤسس «جماعة الدعاية الفنية» كما سلَف – «مدرسة الفن الشعبى»، التى بنت أهدافها على أساس «نظرية الجنين الفنى»، التى تذهب إلى أن الجينات الإبداعية تُتوارث إذا لم تعترضها عوامل خارجية كالتعليم والتغريب. فجمع طائفة من الأطفال الشعبيين والريفيين من خارج الإطار التعليمى النظامى، وأتاح لهم فرص التعبير المنطلق تلقائيًّا بطين الصلصال، لعمل منحوتات مجسمة وبارزة، ونسجيّات ذات رسوم بيئية. وقد دعته منظمة اليونسكو الدولية لإقامة معارض لإنتاج تلاميذه فى باريس ولندن، باعتبارها تجربة رائدة للتعليم خارج الدراسة وللتوجيه الفطرى. وقد قدّم لتلك المعارض العالم المصرى المعروف الدكتور «على مصطفى مشرفة» (1898 – 1950)، كما احتفل بالتجربة الناقد المؤرخ الفيلسوف الإنجليزى «هربرت ريد» Herbert Read، (1893 – 1968). غير أن نشاط هذه الجماعة توقف عام 1939، بعد أن أقامت معرضين جماعيين عامى 1938 و1939 شارك هو فى الأخير منهما. وقد كان من أثر هذه الجماعة أن أوحَت إلى مبدعٍ كبيرٍ آخر، بأن يواصل الكفاح على درب التنقيب فى تربة الإبداع المصرى، فيأتى عام 1946، ليؤسس المعمارى الرائد «رمسيس ويصا واصف» (1911 – 1974م) «مدرسة الحرّانية»، امتداداً لمدرسة «حبيب جورجوي»، ويواصل مسيرته محققًا مزيدًا من التقبل العالمى لأصالة الأعمال الفطرية للفلاحين الموهوبين، وانتسابها إلى البيئة المصرية الخالصة. أما المعلم الرائد «يوسف العفيفي» (1902 – 1972)، فقد كان له أبلغ الأثر على اثنين من تلامذته، درسا على يديه مادة الرسم بالمدرسة «السعيدية الثانوية»، وهما: «كامل التلمساني» (1915 – 1972) و«فؤاد كامل» (1919 – 1973)، اللذان صارا فيما بعد نجمَين من نجوم مدرسة «الفن والحرية»، إذ كان «يوسف العفيفي» هو الذى فتح عيناهما على جماليات الفنون البدائية، قبل أن يكملا تعليمهما الفنى، ليلتحق «فؤاد كامل» لاحقاً بالمعهد العالى للتربية الفنية، ليعمل بِدَورِه مدرسًا للرسم فى بعض المدارس. وكان من أثر تعاليم «يوسف العفيفي» فى تلامذته أن اشترك «فؤاد كامل» فى «جماعة الفنانين الشرقيين الجدد» عام 1937. وكانت هذه الجماعة قد تأسست قبل «جماعة الفن والحرية»، وحرص مؤسسوها على الاحتفاظ بهويتهم المصرية، ودراسة الفن الشعبى والوصول به إلى الحداثة بعيداً عن المؤثرات الغربية. غير أن أثر «يوسف العفيفي» لم يتوقف عند تنشئة هذين النجمين فقط، بل تعدى ذلك إلى رئاسة قسم الرسم بمعهد المعلمين، خلال المُدة ما بين عامَى 1944 و1950، ثم إدارة «المعهد العالى للتربية الفنية للمعلمين» ما بين عامَى 1950 و1953، ليتجلى دوره الحقيقى فى تطوير مناهج التدريس الفنى، من خلال تشجيعه الطليعى لأشد الاتجاهات الفنية جرأة وحداثة. ومن خلال هذا النهج الحداثى فى التعليم الفنى تتلمذ على يد «العفيفي» مشاهير ممن رفعوا راية التجريب؛ كان منهم: «سعد الخادم» (1913-1987)، و«حمدى خميس» (1919 – 1993)، و»مصطفى الأرناؤوطي» (1920 – 1976)، و«أبو خليل لطفي» (1920 – 1993)، و«محمود البسيوني» (1920 – 1994). ولعل دور مدرس التربية الفنية لم يَتَجَلَّ فى سياق حركة الفن المصرى، بقدر ما تجلّى خلال تأسيس واحدة من أبرز جماعات الفن المصرى، وأكثرها تأثيراً، وهى «جماعة الفن المعاصر»، التى تكونت تحت إشراف التربوى «حسين يوسف أمين» (1904 1984)، وكان أبرز أعضائها وأشهرهم: «سمير رافع» (1926 – 2004) ، و«حامد ندا» (1924 – 1990)، و«عبد الهادى الجزار» (1925 – 1966)، و«ماهر رائف» (1926 – 1999)، فضلاً عن «إبراهيم مسعودة»، و«محمود خليل»، و«سالم الحبشي»، و«كمال يوسف»، الذين لم يلمعوا بِقَدر زملائهم الأوَّلين لأسبابٍ مختلفة. فى هذا السياق، يكاد يجمع الباحثون على أن الرجل الذى كان سبباً فى تكوين «جماعة الفن المعاصر» – بالشكل الذى عُرِفَت به تاريخياً – وفى تكوين الوعى الثقافى والرؤية الفنية لأعضائها، هو «حسين يوسف أمين»، من خلال عمله مدرساً للرسم فى «مدرسة الملك فاروق الثانوية» بالقاهرة، موظِّفاً ما اكتسب من معرفة بمدارس التصوير الغربية فى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرازيل. وقد مكنته قدراته من متابعة تلاميذه منذ عام 1937، ولكن نتائج جهوده لم تظهر إلا فى عام 1946. وكان «حسين يوسف أمين» حريصاً على توجيه تلاميذه توجيهًا صحيحاً، والتأكيد على ذواتهم وربطهم ببيئاتهم، ليكونوا فيما بعد رواد التجديد النابع من مكونات ثقافية مصرية. وقد نجح فى أن يجعل كلا منهم يدرك رسالته الذاتية، ومن هنا تولّد لديهم الطابع الشعبى فى الفن، من خلال معالجتهم لموضوعات ذات صلة بالمعتقدات الشعبية للطبقات التى نشأوا بينها، وبهذا الأسلوب نجح فى أن يجعل للفن طابعاً مصرياً. كانت بداية نشاط هذا الاتجاه الجديد ل»جماعة الفن المعاصر» فى «مدرسة الليسيه» الفرنسية بالقاهرة، التى أقامت معرضين للفن الحر فى عامى 1946 و1948، كان من بين من شارك فيهما «حامد ندا»، و»عبد الهادى الجزار»، و»سمير رافع». وترك المعرض الأول انطباعات إيجابية عند المثقفين. أما أغلب رواد المعرضين من الجمهور فقد وجهوا اعتراضات وأسئلة حائرة، نتيجة عدم فهم اللوحات المصورة. بل إن بعض هؤلاء الزائرين رفعوا احتجاجات على أعمال الجماعة لوزارة التعليم. وقد تولى وزير «المعارف العمومية» آنذاك دراسة الاعتراضات المثارة داخل الوزارة والمدارس على توجهات «جماعة الفن المعاصر»، وحملت تصريحاته الأمل لفنانيها حين قال: «هذا الفن يحمل فى ذاته دلالة عميقة، وإن كنت لم أتوصل إلى الفهم العميق لكل ما يعبر عنه، إلا أننى مقتنع أن هذا الفن يصور عصرنا، وسيكون له تأثير حاسم على الفن المصري. ورغم ردود الفعل السلبية فى وزارة المعارف، إلا أن الوزير ومستشاريه ساندوا «جماعة الفن المعاصر» و«حسين يوسف أمين» فى اجتماع عُقد لهذا الغرض فى 12 مايو 1948 بمتحف الفن الحديث. إلى هذا الحد، كان لمُعَلِّم الفن من التأثير ما يُخَوِّل له تحريك الراكد، وإذكاء العزائم، وبعث هِمَم الموهوبين، فضلاً عن قدرته على إثارة القضايا وردود الفعل فى صفوف شرائح المجتمع، رفضاً وقبولاً للمُستَحدَث وغير المألوف فى تيار الفن المصرى. غير أن ذلك – من ناحيةٍ لأخرى – لم يكن ليحدث، بحالٍ من الأحوال، لو لم يكن مُعَلِّمو الفن على مستوىً من الاستنارة والثقافة والحراك – وقبل كل ذلك على مستوىً رفيع من الإيمان بالرسالة التنويرية للمعلم ومن الإدراك التام لقيمته الاعتبارية فى المجتمع – فكانت المحصلة أن رأينا أفذاذاً على شاكلة «يوسف كامل»، و«راغب عياد»، و«حبيب جورجى» و«يوسف العفيفى»، وغيرهم مِمَّن وردت أسماؤهم آنفاً، من طليعة جيل الرواد والمحدثين، حين كان مُعَلِّمُ الفن صانعاً للمبدعين وعَرّاباً للتنوير.