"الفنان حسين يوسف أمين.. صانع المبدعين" عنوان الكتاب الذي صدر أخيرا للدكتورة إيناس حسني ضمن سلسلة ذاكرة الفن التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهو دراسة عن رائد الفن المصري المعاصر حسين يوسف أمين، الذي لعب دورًا تاريخيًا في حركة الفنون التشكيلية في مصر، حيث تعيد المؤلفة اكتشاف هذا الفنان الكبير من خلال ما استطاعت الوصول إليه من معلومات شخصية شديدة الندرة بعد وفاته بقرابة 30 عامًا. مؤكدة أنه كان فناناً تشكيلياً متميزاً، بما تمتع به من بصيرة نافذة، وذوق رفيع، ومن عطاء كبير ظل يقدمه طوال حياته، فظهر كمعلم للكثير من الأجيال، حيث بدا للجميع أنه نموذج نادر في سلوكه تجاه الفن، وأنه صاحب مدرسة فنية، بل رائد، له أسلوب بسيط واضح، تتميز لوحاته بمستواها الرفيع في التكوين والتلوين وقوة التعبير. تاريخ طويل من الإنجازات وتضيف "كان يمتلك مهارة متفردة، تجلت في الشخصية التي يرسمها بأسلوب يميل إلى التبسيط والاقتصاد في الدرجات اللونية، كما كان له أسلوبه المميز، عبر تخصصه في رسم الاسكتشات، وبما حفلت به رحلته من خطوات واثقة وإيمان راسخ بالفن وتاريخ طويل من الإنجازات، أهله لأن يحصل على لقب الرائد بجدارة، وكان فنه تلخيص حياة على مسطح، حياة لها ماض وحاضر ومستقبل صنعه كتكوين وعلاقات يتقرب بها من الشخصية التي يعبر عنها باللون واللمسة. وانطلاقاً من ثقافته البصرية العميقة، اتسمت خطوطه بالانسيابية وتكويناته بالإحكام إذ كان يضفي على اللوحة شيئاً من سكينة روحه.. ووداعتها، لهذا جاء أغلبها حالماً.. رقيقاً. كانت خطوطه موجزة، وتكويناته محكمة، لا تفقدها التجريدية شكلها ومعناها وجمالها، ولذا خرج من عباءته الكثير من الفنانين الذين استفادوا من أستاذيته وتعلموا منه على المستويين الفني والإنساني. ترك "أمين" بصمة مشرفة على الحركة التشكيلية، باعتباره أول من قام بتمصير اللوحة، بما كان له من أثر عميق على الأجيال التي تتلمذ على يديه، أثر تركز في قدرته على التعبير بالملامح، وعما تكنه الشخصيات من عواطف ونزوات ومشاعر وأحاسيس، فلوحاته تمتاز باللمسات الحساسة القوية والألوان الشفافة الصريحة. وكان لموهبته أثر كبير على فنه إذ برزت خصوبته القصوى في التلوين وتجلت براعته في امتصاص ألوان الطيف، وسكبها فوق لوحاته بغزارة متدفقة وكأنما كان يغني بفرشاته. كما تميزت أعماله بالشموخ والوضوح، والبراعة في رسم الطبيعة الصامتة والاسكتشات، التي تجعلك تحس إزاء لوحاته بألفة بينه وبين ما يصور، إنه من الفنانين الذين خلقوا ليضيئوا بفنهم وخبراتهم حياة مجتمعهم حتى لو كان ذلك على حساب حياته الشخصية. غاص "أمين" في أسرار اللون، فأصبح عنده عمق وبناء وقيمة وتحليل نفسي، لا مجرد طلاء سطحي، وتغنَّي بالجمال والبهجة على أنغام ألوانه الشجية السابحة في أطياف النور ومفاتن الحياة. قدرة الفنان "حسين يوسف أمين" وعظمته كفنان حقيقي، ترجع إلى أنه استطاع أن يتجاوز عالمنا الراهن فنجح في أن يتخذ من كل خبراته المعاشة أداة لتفسير العالم، وكان لاعتداده بنفسه وشخصيته القوية وإصراره على بلوغ الحق دور كبير الأثر في مسيرة حياته الفنية، وهو ما جعل منه أحد نجوم "جماعة الفن المعاصر" التي ظهرت في النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين، تلك الجماعة التي اهتمت بالتعبير عن الحياة الشعبية من خلال التفسير الميتافيزيقي والتشخيصي لسلوك أبناء الطبقات الشعبية. كان نداء "أمين" هو البداية، فالمعاصرة عنده تكمن في الغوص حتى القاع في متن المأثورات الشعبية، وإحلال التقاليد والقيم المصرية الأصلية، على أساس أنها عناصر لبطولات وطنية، واستخدام الرموز المتخمة بمكنونات الضمير الشعبي باعتبارها موجودات قدسية الطابع في حد ذاتها.. صانع المبدعين وتؤكد د. إيناس أن حسين يوسف أمين هو رائد من رواد حركة الفن المصري الحديث في القرن العشرين، وهو مصور حوشي الطابع، وتضيف "أولى اهتمامه للكشف عن العذوبة الخافية في خشونة الموضوعات الشعبية وقوة حضورها، ويبدو في بعض أعماله متأثراً ب "هنري ماتيس" وبالخط المحيط بالعنصر، لكن الدور الأكبر الذي لعبه في الحياة التشكيلية أنه كان معلماً ومفكراً يرجع إليه الفضل في تشكيل "جماعة الفن المعاصر" التي قلبت موازين الفن في النصف الثاني من الأربعينيات، وضمت إليها مجموعة من فناني الشباب الموهوبين آنذاك: حامد ندا، وعبدالهادي الجزار، وسمير رافع، وإبراهيم مسعودة، وأحمد ماهر رائف، وسالم الحبشي، وكمال يوسف، أولئك تلاميذه الذين دفعهم دفعاً إلى تكسير القوالب والثورة على التقاليد البرجوازية في صناعة الصورة الفنية، وبالتعبير عن الجوهر الشامل للجمال الذي يتمثل في القيمة التي تطرحها رسالة الفنان، وفي الخيال المتحرر المعبر عن الهوية والمجتمع، بحثاً عن التحرر من القالب الأجنبي الذي كان يسود الفن آنذاك.. كان شعاره: "لا فن بلا علم ولا علم بلا مدرسة ولا مدرسة بلا تربية صحيحة ومنزل مناسب". وقد اعتكف في بيته فترة من حياته، اكتأب وانطوى على نفسه بعد انشغال تلاميذه عنه، عندما صاروا نجوماً، وعندما هاجر ولداه إلى أميركا وعاش هو مع رفيقة عمره حتى الممات، وكان السلطان حسين كامل هو من أصدر أمراً بتعليمه الفن في الخارج. صياغة الشخصية الفنية وتقول "لعب دوراً تاريخياً في حركة الفنون التشكيلية في مصر، وارتبط اسمه بصياغة الشخصية الفنية لنجوم الإبداع الحديث، عبدالهادي الجزار، وسمير رافع، وحامد ندا، و إبراهيم مسعودة، ومحمود خليل، وكمال يوسف، وسالم الحبشي. وتكفي هذه الأسماء للدلالة على قيمة الرجل الذي كان أستاذاً منتجاً، وملهماً للمبدعين، فلم يكن يتوقف أبداً عن إشعال جذوة التعبير الفني عند تلاميذه ومناقشتهم في كل الأفكار، وقد وهب حياته لرعايتهم ثقافياً وذهنياً، وإعدادهم للتطور ولقيادة الفن الحديث بكل اقتدار. ميلاده ولد "حسين يوسف أمين" عام 1904، في القاهرة، والتحق بمدرسة المحمودية الإعدادية، ومارس الرسم تحت رعاية الفنان "حبيب جورجي"، ثم التحق بمدرسة المعلمين العليا، وتخرج فيها، وكان نموذجاً للتلميذ والطالب المتألق ذهنياً وفكرياً، وقد شهد له أستاذ الأجيال "حبيب جورجي"، الذي كان آنذاك علماً من أعلام التعليم الفني، وراعياً للفن الفطري، شهد له بأنه يحمل الكثير من الفكر والموهبة القوية. وقد دفعه طموحه إلى السفر إلى فرنسا عام 1924، ومنها إلى أسبانيا حيث درس اللغة الأسبانية ثم إلى البرازيل حيث أقام هناك حتى عام 1929. حصل على الدبلوم من سان باولو في فلسفة الفن وتاريخه بالبرازيل، ثم رحل إلى فلورنسا بإيطاليا حيث اشتعلت الجوانب الإبداعية عنده فحصل على دبلوم الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بفلورنسا. وهكذا اجتمعت في "أمين" الدراسة العلمية والفنية وفلسفة الإبداع، كما أنه لم يكن بعيداً عن دراسة النظم السياسية والاجتماعية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وانتقال شرارة الثورة من أوروبا إلى مختلف بلاد العالم. كان في الخامسة عشرة من عمره، عند قيام ثورة 1919، وشهد بنفسه الكثير من تفاصيل حركة الشعب المصري تحت قيادة سعد زغلول، وبعد عودته إلى مصر عمل على تدريس مادة الرسم، بالمدارس المصرية ووضع الأسس التربوية والعملية لها مع أحمد شفيق زاهر ومحمد عبدالهادي ويوسف العفيفي وحامد سعيد وفتوح الرافعي والغرابلي.. وغيرهم من المؤسسين للتربية الفنية، وأنظمة التدريس في مختلف المراحل التعليمية، وكان منهج هؤلاء الأساتذة مبنياً على الدراسة والعلم والبحث والفكر الأصيل الثوري مع التركيز على أن يكون الفن محلياً ومعاصراً. علاقة حميمة مع تلاميذه وحول علاقاته مع تلاميذه تقول د. إيناس: أقام أمين علاقة حميمة مع تلاميذه النوابغ، وفتح بيته لهم، ملازماً لأفكارهم، ناقداً لأعمالهم، مرشداً لهم في كل مراحل الإنتاج الفني، وكانت التعاليم الغربية تفرض وجودها على الساحة الفنية، وكانت النزعة الرومانسية هي أمله، فدفع بتلاميذه إلى التعبير عن المشاهد الشعبية، والتعرف على ما يخفيه الشعب المصري من خرافات، وأسباب تخلف الأحياء الشعبية ورجل الشارع، وفتح أعينهم على المدرسة السريالية والتعبيرية في آن. كان المعلم حسين يوسف أمين يشارك تلاميذه كأستاذ مخلص، مبدع، يشاركهم التجربة كاملة، يرسم ويزور معهم الموالد، والشوارع، والحواري الضيقة، كما لم يكتف بذلك، بل اهتم بالحوارات العامة، فأقام المحاضرات، وكتب المقالات، وكان يقرأها في الجلسات الخاصة معهم. واستطاع أن يحافظ على هوية كل موهبة من المواهب الثماني، وأن ينمى استقلالهم، فلا نجد أي تشابه بينهم في التقنية أو في الأداء، وإن كانت البنية الأساسية واضحة إلا أن كلاً منهم كانت له شخصيته المستقلة. جماعة الفن المعاصر كانت توجهاته تهدف آنذاك إلى تأمل الطبيعة، والتعمق في أشكالها، وتسجيل ما لا تلاحظه العين للوهلة الأولى، وكان الطابع العام ل "جماعة الفن المعاصر" في تلك المرحلة، هو الأمانة في الدراسة عن الطبيعة، ما أدى إلى اكتشافهم تلك القوانين الميكانيكية التي تحكم حركات النمو في الأجسام الحية والتعرية والترسب وغيرها في الأجسام الجامدة، وهى نفس الدراسات التي اشتهرت بها مدرسة حامد سعيد، ولكن مدرسة حامد سعيد توقفت طويلاً عند هذا الحد، ولم تتطور إلا قليلاً، في حين كانت هذه المرحلة في مدرسة حسين يوسف أمين مجرد بداية ومقدمة لمراحل أخرى تالية. قام بتوفير المناخ الثقافي السليم لتنمية قدرات أعضاء الجماعة الفنية والفكرية؛ وكانت ثقافته العالمية، وتفتحه الذهني عاملاً أساسياً في إنضاج شخصياتهم الفنية في عمر مبكر، ما هيأ لهم الفرصة لأن يؤدوا دوراً مهماً ومؤثراً في تطور الحركة الفنية في مصر وإثرائها منذ الأربعينيات. ووجه إلى أهمية التراث المصري والفن الشعبي. وحتى نعرف أمين حق المعرفة لا بد أن نتعرض لجماعة الفن المعاصر التي جاءت في أعقاب التفاعلات النشطة لجماعة "الفن والحرية" التي تمثلت في رموزها (جورج حنين وكامل التلمساني ورمسيس يونان وفؤاد كامل)، لتحدث توازناً بين الأهداف التي لم تتحقق ل "جماعة الفنانين الشرقيين الجدد"، ومبادئ الحرية والتمرد التي أرستها جماعة "الفن والحرية" معاً، فتبنت السعي لإرساء فن مصري معاصر، يتفاعل مع التيارات الفنية الحديثة بما فيها التعبيرية والسريالية، ويعبر عن واقع الإنسان المصري وتراثه الشعبي والأسطوري بصفة خاصة. حاولت "جماعة الفن المعاصر" عند تكوينها، أن تحقق فناً مصرياً غير تابع للفنون الغربية، فكانت أول محاولة فنية تتجه اتجاهاً محلياً تميز برمزيته وتعبيريته، فقد استفاد أعضاؤها من تجارب الجماعات المتمردة السابقة، والتي كان أثر الغرب واضحاً فيها، واجتهدوا أن ينتجوا فناً مصرياً رمزياً وسريالياً في الوقت ذاته، وفي سبيل ذلك اهتموا باكتشاف الرموز والعلاقات الداخلية في المجتمع المصري من خلال سخريتهم من التقاليد البالية والمعتقدات الخرافية. رحل الفنان حسين يوسف أمين في 16 أغسطس/آب 1984، بعد أن ضرب المثل في الأستاذية والعطاء والإبداع وأصبح صانعاً للمبدعين وراعياً قلما يتكرر.