المدرسة كيان صغير يمثل المجتمع ككيان أكبر ولها دور أساسي في تكوين شخصية الطفل, وقد تخلت المدرسة في العقود الأخيرة عن أداء الدور المنوط بها في اكتشاف المواهب ورعايتها, ويؤكد الفنانون التشكيليون الذين عاصروا هذا الزمن أهمية هذا الدور ويطالبون بعودته في منظومة إصلاح التعليم التي يجب أن تتبناها الدولة في مقدمة أولوياتها.؟ يقول الفنان أمين ريان: كانت فترة الدراسة في حياتي لها أهمية كبيرة في صقل موهبتي الفنية فمدرستي روضة النيل في المرحلتين الابتدائية والثانوية في فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي كان بها حديقة نباتات وكذلك حديقة حيوان صغيرة وكنا مغرمين بها أكثر من الفصول وهذا كان بداية لتنمية حواسنا, وحبي للرسم بدأ في هذه المدرسة التي كان بها صالة كبيرة عبارة عن معرض دائم لأعمال الطلبة الفنية من لوحات جدارية وتماثيل ومناظر طبيعية وكانت المدرسة تشترك بأعمالنا في المسابقات المختلفة وتقدم لنا الجوائز التشجيعية. ويضيف الفنان والناقد عز الدين نجيب: المدرسة كان لها دور اساسي ومصيري في حياة الفنانين وذلك حتي ستينيات القرن الماضي فمثلا نجد جماعة الفن المعاصر التي خرج منها كبار الفنانين مثل عبدالهادي الجزار وحامد ندا وماهر رائف كانوا جميعا تلاميذ مدرس رسم في مدرسة الخديوية الثانوية يدعي حسين يوسف أمين, ففي النصف الأول من القرن الماضي كان مدرسو الرسم يذهبون الي بعثات خارجية لدراسة الفن و بعد ثورة1952 توقفت البعثات ولكن ظل اهتمام الدولة بالمواهب في المدارس فكل مدرسة كانت تضم جماعات للرسم والأشغال والموسيقي والمسرح والشعر والأدب والخط العربي, ويقول الفنان عزالدين: كان لي حظ في مدرسة أحمد عرابي الثانوية بالزقازيق في فترة منتصف الخمسينيات, حيث كان مدرس الرسم الأستاذ مختار طبوزادة الذي كان يأخذني معه إلي مرسمه وساعدني كثيرا في صقل موهبتي وشجعني علي السير في طريق الفن رسم وقد كانت المدرسة تفتح لنا أبوابها في اي وقت وتوفر لنا جميع الإمكانيات لممارسة الهوايات المختلفة مع إقامة المعارض والمسابقات وهذا كان من أسباب النهضة الفنية التي كانت موجودة في هذا الوقت ولكن للأسف لم تستمر هذه الرعاية في المدارس وظلت تنكمش حتي أوشكت علي الاختفاء وأنادي بإعادة النهضة الفنية الحقيقية فنحن ينقصنا خلق المتذوق وليس فقط اكتشافه. ويشير الفنان محمد الطراوي إلي أن الأزمة الحقيقية في الفن التشكيلي بدأت منذ حوالي15 عاما عندما تخلت المدرسة عن دورها في رعاية واكتشاف المواهب بل أصبحت المدارس ارضا خصبة لرعاية الأفكار المتطرفة والإرهاب وقد حان الوقت لأن تعيد المؤسسة التعليمية ترتيب أوراقها وتعيد الاهتمام بالتربية الرياضية والفنية والموسيقية, ولابد ان نتكاتف جميعا في تحقيق ذلك, ويقول الطراوي أن الفضل في اكتشاف موهبتي في مرحلة مبكرة يرجع إلي مدرس الرسم الأستاذ فضل الله في مدرسة الشرقية الابتدائية بالمعادي في فترة الستينيات الذي شجعني واشركني في العديد من المسابقات, وقد اشتركت في10 معارض جماعية من خلال جماعة المعادي للفنون التشكيلية قبل التحاقي بكلية الفنون الجميلة ولم يكن هذا يتحقق بدون تشجيع والدي والأستاذ فضل الله. أما الفنان سمير فؤاد فكان بمدرسة الخلفاء الراشدين الإعدادية وهي مازالت قائمة حتي يومنا هذا بشارع الخليفة المأمون بمصر الجديدة, وقد قضي في تلك المدرسة المرحلة الابتدائية والإعدادية منذ عام1952 وحتي1958. يقول الفنان: من مدرسي الرسم الذين حفروا في الذاكرة أثرا غائرا اثنان, الأول هو الفنان عبدالغني أبوالعينين والذي قام بالتدريس لي في المرحلة الابتدائية وهو شخصية ذات جاذبية مغناطيسية وكان قصاصا بارعا يقص علينا قصصا شيقة وهو يرسم مشاهدها علي السبورة وكأنه يرسم ستريب من مجلة وبعد أن تنتهي القصة يطلب منا أن نرسم أحد مشاهدها من خيالنا وقد أذكي هذا خيالي الفني, والشخصية الثانية هو الأستاذ الحفناوي وقد قام بالتدريس لي في المرحلة الإعدادية وقد آمن بموهبتي ايمانا كبيرا فكان يترك لي الحرية في أن ارسم ما أشاء كما أشاء ولا أتقيد بالمواضيع التي يفرضها علي باقي الفصل, وكان يمدني بمستلزمات الرسم وكنت حرا في الذهاب الي غرفة الرسم في أي وقت أثناء الفسح لأمارس هوايتي. ويري الفنان صلاح عناني أن مدرس الرسم بشكل عام يقع عليه دور كبير فبيده أن يحيي الفن بداخل أي طفل وبيده أيضا أن يقضي عليه, وهو دور أساسي لا ينساه أي طفل خاصة الموهوب, ففي المرحلة الابتدائية التحقت بمدرسة الإمام علي بالعجوزة وقد تأثرت جيدا بمدرس الرسم والذي للأسف لم أتذكر اسمه وبتشجيع من المدرس فضلا عن موهبتي استطعت أن أبدع مستخدما تكنيك الطباعة بالتفريغ فكثيرا ما طبعت رسومات لتمثال رمسيس الثاني علي سور المدرسة, أما في المرحلة الإعدادية فقد التحقت بمدرسة الدقي الإعدادية وكان للأستاذ محجوب فضل كبير علي في تمكني من النحت بخامة الجبس, فأذكر ان كان هناك رسمة لتمثال نهضة مصر موضوعة علي ربع الجنيه الورقي فقد قمت بترجمة التمثال نحتيا مستخدما خامة الجبس. بينما يقول الفنان عصمت داوستاشي: في المرحلة الابتدائية كنت بمدرسة أبوالعباس المرسي الكائنة بحي بحري بالإسكندرية وكانت حجرة الأشغال الفنية حجرة ساحرة تشمل كل أدوات وخامات العمل الفني من ألوان وأوراق وطينة للنحت وأحبار للطباعة ومنشار الاركت للزخرفة وألوان الزجاج وغيرها, مما كان يفتح مجالات الإبداع للتلاميذ الصغار وخاصة أصحاب الموهبة, حينما كنت بالمرحلة الإعدادية, أهتم بموهبتي الفنان علي الجارم مفتش التربية الفنية حينذاك فكان يتابع أعمالي ولوحاتي, أما بالمرحلة الثانوية الفنية الزخرفية التي اخترتها لتنمية موهبتي, فقد رعاها الفنان الكبير سيف وانلي, حيث كنت أذهب الي مرسمه بلوحاتي لأستمع لملاحظاته وتوجيهاته, ولكن تحديدا كان أول مدرس حقيقي لي عمي كمال وكان أهم مدرس لي هو الحاج أحمد الوحش صاحب دكان خطاط ورسام أسفل المنزل وفيه تعلمت كل أسرار الرسم والخط العربي والتلوين, أما مدرستي الفنية الحقيقية فهي الحياة والفنون الحضارية والشعبية. ويضيف الفنان محمد شاكر: لم تتحول مادة الرسم في مراحل الدراسة منذ أيام الطفولة والصبا إلي ذكريات, ولكنها كانت ومازالت أهم لبنات الوعي والإدراك في بناء علاقتي بالمعرفة والإبداع, وركائز أصيلة للقيم الجمالية بكل صنوفها, حتي تحولت حصة الرسم وأستاذ الرسم إلي أحد أهم الأسباب المؤثره في محبتي للمدرسة والمعرفة, بل أحد أسباب محبتي للحياة بأسرها, لقد كانت حصة الرسم وأستاذ مادة الرسم( في بداية خمسينات القرن العشرين) بنية أساسية لاكتشاف المبدعين منذ الطفولة داخل منظومة متحضرة للتربية والتعليم.. وياليتها تعود.. فما أحوجنا إلي تلك القيم في مواجهة التردي المؤسف لتعليم الفنون.. والمحاولات الدائمة لاغتيال الجمال.