متحدث الحكومة يكشف حقيقة ترحيل ال9 ملايين لاجئ من مصر (فيديو)    هل ستمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة؟.. السفير حسام زكي يوضح    تصريح قوي من موديست قبل مواجهة الأهلي ومازيمبي    الإفراج الجمركي.. قبلة حياة لإنعاش الاقتصاد ومحاصرة التضخم    بكري: تكتم شديد حول التغييرات الوزارية المقبلة.. واستمرار مدبولي في منصبه محل دراسة    رئيس دفاع النواب: توافق مصر والبحرين يخدم المصالح الأخوية ويرسخ الأمن الإقليمي    تشكيل باير ليفركوزن في مواجهة وست هام في الدوري الأوروبي    الجفاف يدفع الملايين إلى "الجوع الحاد" في الجنوب الأفريقي    جار طباعة الأسئلة.. "تعليم الجيزة": أكثر من 2 مليون و500 ألف طالب يؤدون امتحانات نهاية العام    محمد صلاح يسجل هدف ليفربول الأول أمام أتالانتا في الدوري الأوروبي.. فيديو    أخبار الأهلي: قرار من "كاف" يهدد مشاركة الأهلي والزمالك في الدوري الأفريقي    «افعل الخير وارحل».. كهربا يوجه رسالة غامضة بعد تغريمه مع الأهلي    رعب أعلى الدائري.. ميكروباص معلق "بين السما والأرض" (صورة)    علاقة في الظل تنتهي بجريمة.. فضيحة يوتيوبر خليجي بأكتوبر    3 أيام دون طعام وبلا والدين.. مصدر أمني يكشف تفاصيل جديدة في واقعة "طفلي الغربية"    مباحث المنزلة تضبط المتهم بإنهاء حياة مسن داخل إحدى الأفراح الشعبية ب الدقهلية    أزمة أرقام الإيداع على طاولة الحوار بين اتحاد الناشرين ومسئولي "الثقافة"    تكريم سيد رجب وإسلام كمال وأحمد عرابي في مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    بعد 6 أشهر من التوقف.. ماذا قالت ياسمين عز في أول ظهور لها؟    فيلم السرب.. تعرف على الأبطال وتوقيت العرض في السينمات    أدهم السداوي يكشف موعد تصوير الجزء الخامس لمسلسل اللعبة مع هشام ماجد    بالفيديو.. خالد الجندي: عمل المرأة فى بيتها "عبادة".. وسعى زوجها "جهاد"    إحالة 11 عاملًا بالوحدة الصحية في عزب النهضة بدمياط للتحقيق    في طريقها إلى مصر.. كيف تتجنب رياح الخماسين وأضرارها؟    نائب محافظ أسوان تتفقد منظومة الحريق والإطفاء بالسوق السياحى    هل يجوز تفويت صلاة الجمعة بسبب التعب؟.. اعرف الأعذار الشرعية لتركها    خالد الجندي ل الزوجات: اعتبرى إنك فى حالة عبادة بتأخدى عليها أجر    برنامج التعليم المتعدد يشارك في منتدى التعليم الفني التكنولوجي بالقاهرة    "بطلب جوارديولا".. نجم بايرن ميونخ على رأس اهتمامات مانشستر سيتي في الصيف    رئيس مدينة منوف يتابع الخدمات الطبية المقدمة للأشقاء الفلسطينيين    صحة كفر الشيخ: تقديم خدمات طبية مجانية ل1433 مريضا بقرية تيدة بسيدي سالم    بعد موافقة الحكومة.. التفاصيل الكاملة بشأن زيادة الحد الأدنى لرأس مال شركات التمويل العقاري    البحوث الزراعية تستقبل وفدًا عسكريًا من تنزانيا الإتحادية    نائب رئيس جامعة عين شمس تتفقد أعمال التطوير بقصر الزعفران    جوتيريش: علينا التزام أخلاقي بدفع جهود التهدئة في الشرق الأوسط    الشرقية.. إحالة 30 من العاملين المقصرين بالمنشآت الخدمية للتحقيق    وزارة التضامن تفتح باب سداد الدفعة الثانية للفائزين بقرعة حج الجمعيات الأهلية    وزير قطاع الأعمال: القطاع الخاص شريك رئيسي في تنفيذ مشروعات التطوير وإعادة التشغيل    البنك الأهلى.. إصابة" أبوجبل" اشتباه في قطع بالرباط الصليبي    «القومي لثقافة الطفل» يحتفل باليوم العالمي للتراث غدا    مدرب شيفيلد يونايتد يهاجم الاتحاد الإنجليزي بسبب مباريات الإعادة    الأردن.. 7 إنزالات جوية لمساعدات إنسانية وغذائية على قطاع غزة    تعاون ثقافي بين مكتبة الإسكندرية والمكتبة الوطنية البولندية    يسهل إرضاؤها.. 3 أبراج تسعدها أبسط الكلمات والهدايا    شوقي علام يفتتح أول معرض دولي بدار الإفتاء بالتعاون مع روسيا (صور)    وكيل الأزهر يتفقد التصفيات النهائية لمشروع تحدى القراءة في موسمه الثامن    طقس سئ.. غبار رملي على الطرق بالمنيا    تأجيل محاكمة حسين الشحات في واقعة ضرب الشيبي لجلسة 9 مايو    الحصول على تأشيرة عمل للمصريين في الكويت 2024.. تعرف على الشروط وطريقة استخراج التأشيرة    5 خطوط جديدة خلال الربع الأول من العام تستقبلها موانئ دبي العالمية السخنة    زاخاروفا: مطالب الغرب بتنازل روسيا عن السيطرة على محطة زابوروجيا ابتزاز نووى    وكيل صحة قنا يجتمع مديري المستشفيات لمناقشة اللائحة الجديدة وتشغيل العيادات المسائية    فى الجيزة.. التعليم تعلن جدول امتحان المستوى الرفيع والمواد خارج المجموع لطلاب النقل والإعدادية    "الوزراء" يوافق على تعديل بعض أحكام قانون إنشاء المحاكم الاقتصادية    وثائق دبلوماسية مسربة.. البيت الأبيض يعارض الأمم المتحدة في الاعتراف بدولة فلسطينية    دعاء العواصف.. ردده وخذ الأجر والثواب    ردد الآن.. دعاء الشفاء لنفسي    بيان عاجل من اتحاد جدة على تأجيل لقاء الهلال والأهلي في دوري روشن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إمبراطورية نون
نشر في أخبار السيارات يوم 02 - 08 - 2018

أصبحت جدتي، ومحمد ناصر، هما ملجأي ومرفأي في هذا البيت لإمبراطورية نون اللذان يتصفان بوراثة العصبية والتسلط والعنجهية وقوة الملاحظة والدقة والنظام فويل لنا لو لمح الشندويلي مفرشًا معوجًا عن مكانه أو ذرات تراب لم نزلها فتتحاشي جدتي نزاعه وصوته الجهوري بعصبية أيضًا قائلة :_ مالك يا حسن أنا اللي عملت المفرش كدا بزاوية شكله كدا أحسن الله عليك ، ولأن الوراثة في الجينات مهما نفرنا من وجودها في طبيعتنا فإن التفاحات الست ورثنها وتخللت كروموسومات نتاجهن الذي كل ما فيهن لديه أسراره وأحزانه، التي يصونونها في قلوبهم كمحار مغلق علي نفسه، ويسيرون في الحياة كالجنود المجهولين في حرب البناء والاستمرار والديمومة، مهما كلفهن الأمر مؤمنين بأن الحياة قدر ونصيب وقسمة مكتوبة علي الجبين من قبل أن نولد، تتميز إمبراطورية نون بمصطلح ترتيب الخزانة النفسية والعقلية من وقت لآخر هما نوعان من البشر منهن من لا يستطعن أن يفرطن في الكراكيب القديمة من مقتنيات نسائية ، فالتفاحة الأولي والثانية والثالثة يحتفظن بالكثير من الملابس والموديلات القديمة نظيفة في الخزانة بوضع حبات النفتالين وغسلها مع بداية فصل الشتاء والصيف والعقود والذهب والحقائب والأحذية حتي تهرأ وتعث، أما التفاحة الرابعة فكل عام مع نهايته صيفًا وشتاءً تعطيها لمن يحتاج من الصديقات والأقرباء أو لبناتها وتستعمل بعضًا منها في عمل مناشف أو خرق للمطبخ أو تغطية المفروشات ،بينما الخامسة نسرين نكد ،كانت تفعل مثلها لكن فقط لدار الأيتام وجمعية الدعوة والرسالة الخيرية ، وهكذا ناريمان دون تحديد الجهة أو الأشخاص ولكن ماذا عن الكتب والأوراق وذكريات الحب والتعاسة وكل ما يخص حياتي أنا علي الدوام أمارس محنة أشد وطأة من محنة الاحتفاظ أو التخلي عن الأشياء، إنها محنة محو الذكريات مهما حاولت تجاهلها أو الهرب منها تبرق في لحظات مباغتة كجني الخزانة النفسية والعقلية سهوًا وعن غير قصد من عقلي الباطن بشكل لا إرادي يغمد سيفها في قلبي كرشق سهم نازف وقاتل فأبدأ للمرة الألف بترتيب الخزانة من جديد وجديد.
جدتي سكينة الشقراء وذات العيون الخضراء، والبياض الناصع الصافي من أي نمش وأنف حاد، وثغر دقيق فاتن تكسوه حمرة علي الدوام، فهي نطفة تركية مصرية أصيلة المنشأ من عائلة إسلام باشا الذي يُطلق اسمه علي أحد شوارع بني سويف امتزجت دماؤها بزواج من الأتراك والمصاهرة والتجارة، أبوها كان عمدة قرية تابعة لمركز بني أحمد في محافظة بني سويف، وذا عائلة وسطوة ومال، وبعد زواج عبد الرحيم الشندويلي من فهيمة الفلاحة وذات الأصول الريفية الرفيعة المستوي أيضًا من مركز سمسطا أحد مراكز محافظة بني سويف المعروفة، أراد أن يحصل علي البهوية، فكان عرسه من ابنة أحد أعيان إسلام باشا في مدينة بندر بني سويف، والدة سكينة ذات الأصول التركية الجميلة ورغم أن زوجته الأولي فهيمة قد أنجبت منه خمسة أولاد وبنات، إلا أنها صممت علي الطلاق، بعد تلك الزيجة، رغم أنها تدرك أنها صفقة للشندويلي بيك، بل وتزوجت من البنهاوي أحد أعيان البحيرة وأنجبت منه أيضا خمسة أولاد وبنات أيضا، فكانت جدتي سكينة كحلقة الوصل بين أخواتها من أبيها وزوجة أبيها الأولي العشرة، ينظرون إليها بوله واحترام لجمالها وقوتها وحنانها المفرط للجميع، ثم تزوجت جدتي سكينة وأنجبت حسن عبد الرحيم الشندويلي بيه محمد مصباح ولواحظ وبنتين أخريين ويحكي أن الجد الكبير الشندويلي مصباح وكنيته الجنرال بين أصدقائه المقربين وأهل عمومته كان حاكم خط كامل من القري والنجوع التابعة لبندر بني سويف رجلًا قوًيا يحكمها بالحديد والنار والعقل والحكمة والرحمة ويوزع أرضه علي الفقراء والمحتاجين وأعطي جزءًا كبيرًا من أرضه لعبد الناصر بعد التأميم عن طيب خاطر،وكان علي عداوة مع عائلة المشارقة وعزام وبينهما ثأر وقتل من العائلات الثلاث سبعة أشخاص بسبب ما كان يطلق عليهم الهجامة فرع من عائلة مصباح وشاركت الجدة سكينة في قتل صاحبة حادثة شرف من عائلتها بعد أن أغرقوها في الترعة وأمرت أبو ضب التمرجي وهذا ليس اسمه الحقيقي لكنها كنيته نفورًا وكرهًا لشخصه بين أهل البلدة فقد كان المختص باستخراج تصاريح الوفاة والدفن في البلد حتي لو كان قتلًا مثل حلاق القرية قديمًا رغم أن صاحبة الخطيئة لم تعترف علي صاحب الفعلة الآثمة لكنهم عرفوه وقتلوه أيضًا ،ولأنه من عائلة فقيرة لم يرد الثأر إلا أن الجدة شعرت طويلًا بتأنيب الضمير حتي يشاء القدر أن يقع واحد من نفس العائلة الفقيرة التي أصولها من عرب ليبيا ونزحوا جدًا عن أب إلي العيش في القرية في حب عمتي لواحظ الذي كان يعمل أبوه فلاحًا أجيرًا لدي عائلة آل مصباح وابن فاطمة الكلافة هكذا كان يطلقون عليه استهتارًا وتقليلًا من شأنه لكنه فاز بها بعد مؤازرة الجدة سكينة تعويضًا عن ذنبها لما اقترفته لهذه العائلة الفقيرة، كانت جدتي سكينة بغريزة الأم تحب ابنها الوحيد إلي حد السفه، والتغاضي عن تصرفاته الطائشة، ورعونته الزائدة، وقسوته مع كل من حوله، مع عدم حصافته، وهو يهدر ثروة العائلة، وشموخ الشندويلي والجد الأول محمد مصباح الحكيم، العادل، الطيب السيرة والسمعة، فبدأ يرهن المعمل، ومنحل العسل ثم الجنينة ثم الأرض من أجل نزوات، وإسراف في المباهج المبتذلة وشرب الخمور ثم إدمان الحشيش والأفيون، حتي باع نصيبه من الأرض الزراعية، بعد أن وقف له أزواج إخوته البنات، مطالبين بحقهن بل وإرغامه علي ترك منزل العائلة، خوفًا من بيعه دون علمهن والتفريط في العرض كاملًا بعد بيع الأرض، وبيع السيرة، وجلب العار للجميع وبنظرات الشماتة والتأنيب يعايرونه ويلوحون بصيحة شهيرة _حسن باع أرضه يا ولاد شوفوا طوله وعرضه باع أرضه يا ولاد.. لذا طردوه شر طردة، من بيت العائلة حتي لا يلوثه بأصدقاء السوء، والوافدين والوافدات من خارج القرية سواء من القري الأخري أو من بني سويف، أو الفيوم أو القاهرة، ورغم إلحاح الجميع طلبًا ورجاء ألا تترك جدتي منزلها الذي عاشت فيه أكثر من ثلاثين عامًا، إلا أنها أصرت علي الرحيل مع ابنها إلي منزله، في مدينة بني سويف، الذي جاهدت في شرائه وبنائه من المال المتبقي، بنظرة حديثة للمستقبل البائس الذي سيكون مع هذا الإبن العاق وقد نالت فرصة العمر، عندما أتم لها زوج ابنتها لواحظ صفقة شراء قطعة أرض علي مساحة 140 مترًا ، به دور أول المتر ب 3 جنيهات في مدينة بني سويف الجديدة، من الأحياء الجديدة، يحمل رقم منزل 21 في شارع الكيلاني المتفرع من الحي الكبير شارع الجيار الذي بات اسمه في ذاكرتي بيت الرعب رقم 21، مهما كبرت وذهبت عنه لسنوات مع وهم الكفاح الذي كنت أعيشه مع الأصدقاء بين رحلة النضال والحب والزواج والهجر، ورحيل ناصر والأصدقاء وموت أبي وجدتي وزواج البنات وهجراننا جميعًا لمنزل الرعب 21 وكل ما حدث لكني أعود إليه بمخيلتي الطفولية، وروحي التي ما عادت تخشي رعب أبي وحنين الأصوات وأهرع إلي حجرتي في منزل أشباح التوليب31، أبحث بعصبية وتشكك أن تكون أمي ألقت حكايات الشاويش رقم 6 في أجندتي الحمراء التي كان يهديها لي خالي المتحدث مع بداية كل عام، وأظل أكتب وأدون طوال العام، ويسألني خالي قبل نهاية العام :
_هل أنهيت صفحات الأجندة الحمراء يا نونو؟ وأجيب بتلقائية:
_ ليس بعد يا خالي هل أحضرت الجديدة؟
كنت أقضي وقتًا طويلًا في الدور الرابع السطوح، بعد أن أستيقظ مع جدتي سكينة في الفجر نصلي سويًا، وأنا أمتعض للاستيقاظ مبكرًا هكذا، خاصة ونحن في الإجازة الصيفية، فتضع جدتي يدها بحنو وتحتضن وجهي قائلة :_ يا حبيبتي ساعة الصبح ساعة عفية، لا يفوتك صلاة الفجر حتي لا يفوتك بركة النهار كله، ثم تقبلني، وأمضي في تنفيذ الطلبات، أولا أذهب إلي صديقتي كاستيلا في السطوح، الذي به ثلاث غرف منفصلة بسور عن باحة مربعة بها حبل غسيل طويل وغرفة محمد ناصر، عشة البط، والأرانب، والفراخ التي تجني البيض ويوجد في الفناء الكتاكيت الجديدة التي تواظب جدتي علي شرائها، وتربيتها مع البطوط الصغير المولود حديثًا بعد أن تفصلها جدتي عن أمهاتها استعدادًا للفقس والرقدة علي بيض جديد لمواليد أخري أتأمل الكتاكيت والبطوط الصغير المولود حديثًا يغطس في ماء الماجور، وأضحك وأرفعه برفق وأناشده :_ هاتغرق يا بطوط يا مجنون، أكثر من حصلوا علي حريتهم في السطوح، بينما الفراخ والديوك، والبط والإوز والبح والأرانب محبوسة، لا تخرج، حتي لا تهرب إلي سطوح الجيران إلا في وقت حضوري لتنظيف العشة، وتغيير مواجير الطعام الذي أغلبه المتبقي من طعامنا أمس، مع لفائف البرسيم التي يتركها لي أبو نرجس كل صباح في مدخل منزلنا أثناء مروره بالعربة الكارو، ثم في المساء أعطي النقود لابنته نرجس، التي تحضر من الحارة المجاورة للعب بين شارع الجيار ومصطفي كامل والأباصيري كخطأ جغرافي، وظلم فادح أنها لا تسكن تلك الشوارع متعللة بأخذ النقود، وإن كانت في الحقيقة لتهنأ باللعب مع بنات وأولاد شارع الجيار الرئيسي،الذين يسكنون البنايات والعمارات والمنازل النظيفة العالية عن مستوي الأرض، متبرمة من البدروم وقذارة الحارة، وبذاءة الألفاظ، والعراك اليومي بين نسوة الحارة علي كل شيء، حتي اللباس، يتهمن بعضهن بأنهن سرقنه، وأنها رأت جارتها أمس تضاجع زوجها بقميص نومها ونرجس تسترق النظر إليهما من شبابيك الجحور التي يعيشون فيها، أو يدخل الأطفال عليهن من غير قصد وهن يفرغن شهوات رجالهن المنهكين من كدح طوال النهار والليل بين شرب النارجيلة والسجائر المصرية والبرشام والشاي ومضاجعة نسوانهم، فينتشر الأطفال كالذباب يتساقطون من رحم الأمهات دون حساب، تكره نرجس الحارة ومن فيها، تري أنها جميلة واستثنائية، وذكية ومتفوقة في المدرسة، وستجتهد لتدخل دبلوم التمريض، حلمها الذي أخبرت به العجلاتي حبيبها الذي تحبه من الصف الثالث الإعدادي؛ لتعمل وتسافر وتترك الحارة وخرائها.
كنت أسعد طفلة في الوجود، سعدت بي جدتي كثيرًا أيضًا، رغم محاولات أمي للعلاج من اللحمية والجيوب الأنفية والخنفة واللدغة والتنفس من الفم التي لازمتني منذ أن ولدت، وبذلت أمي وجدتي الكثير سواء بالأدوية وعمل عمليتين لي، حتي أخبرها الطبيب أن أقصي ما وصلنا إليه أن تتنفس من منخارها، بدل الفم، والخنفة واللدغة ستزول مع الوقت دون حاسة الشم، ولأني منذ ولدت كنت أتلمس خطاي، لأدرك التعامل مع الحواس الخمس التي لا أعرف أيهما الحواس بالضبط ولماذا هي خمس، فلم أكن أعرف ماهي حاسة الشم، لفترة طويلة أتعامل مع الحسي والموجود، وما أتلقاه من أمي وجدتي كطفلة صغيرة دون وعي أنها خمس حواس وليس أربع وأنني أفتقد الخامسة، حتي في إحدي المرات كانت أمي في المطبخ وطلبت مني أن أقف بجانب وعاء اللبن حتي يغلي، وتركتني معه تحذرني: _اوعي يفور يا نونو اقفلي مفتاح البوتاجاز لا تنسي، ظللت واقفة أنتظر كيف يفور اللبن، وما المشكلة أن يفور، لكنني تيقنت تحذير أمي عندما بدأ يرتفع وجهه الصمغي أدرت مفتاح البوتاجاز وأغلقته، ثم أدرت المفتاح مرة ثانية، حتي لا يهبط الفوران ظنًا مني أنه لابد أن يظل عاليًا وفائرًا دون أن ينزل علي صحن البوتاجاز أو يتسلل في خطوط طويلة علي الوعاء، فتركت مفتاح البوتاجاز لعله يعود وخرجت أحضرت شيكولاتة وكرسي الحمام أنتظر أن يعود وجهه الصمغي وجاءت أمي، تشتم بمنخارها، وتجزع وعيناها تتلاحقان كمن يبحث عن شيء، وأنا آكل في الشيكولاتة حتي هرعت أقول لها وجه اللبن لا يعود يا أمي أنتظره ليفور مرة أخري وسألت بغتة ناريمان ما هذه الرائحة؟
أي رائحة يا أمي؟
كنت في الصف الثالث الابتدائي، حزنت أمي كثيرًا، أما أبي فلم يعر للأمر أهمية، هي تمشي وتتحرك وتفكر وتذاكر وتفهم وستتزوج وتضاجع وتنجب هذا هو المهم وهذا قدرها أما إخوتي فلم يهتموا بتاتًا، بينما جدتي زادت في حنوها علي وجعلت إعاقتي منفذًا لأكون سعيدة وتكون سعيدة بي، في الحقيقة لم أحزن أو أفرح، لم أع أي رد فعل أمامي ليس لدي مشاعر كارثية، لأنني لم أتذوق هذه الحاسة من البداية ومدي ضخامة الأمر ومأساته إلا عندما ماتت شوق بسببي، فأيقنت وقتها فقط أنني ليس فقط كما كان يدعي يحيي أني فلاحة مناضلة غبية، بل أيضًا أنني أحمل أغبي إعاقة قدرت لي، وأحزنني أنني فقدت رائحة أزهار التيوليب والعطور، والروائح والتوابل والطعام والملابس كل شيء حتي الوسخ والخراء للفراخ والطيور التي كنت أكنسها وأنظفها يوميًا، دون أن أحس بأي ضيق، بينما جدتي تنظر لي مبتسمة بحزن بعد أن تحضر لتتمم علي ما فعلته قائلة بحسرة :_ سبحان الله في أمرك يا إلهي وفي هباتك، طفلة شقراء، فاتنة، ذكية، نشيطة، وتحرمها حاسة الشم، أي هبة هذه ناقصة منك كنت أبكي وأشتاق كثيرًا لمعرفة مكنون هذه الحاسة، كيف هي بألوانها، ما طعمها، ما مداركها ما هي؟ أريد فقط أن أعرف وأجربها، ثم تزول عني، فقط هذا.
بعد حمي النشاط، والتنظيف، أجلس في الفناء الترابي أمام العشش الثلاث علي حصيرة جدتي التي تقعد عليها بإليتها الضخمة، رافعة جلبابها الواسع وساقاها في وضع منفرج واضعة تحتها البح والبط لتزغطه بالفول والذرة المبلولة وهي تمسك بإحكام فمه لتملأه وتسمنه لحوالي شهرين استعدادًا للذبح في المواسم والأعياد، مع الكشك الصعيدي أو الرقاق أو البشاميل أو الفتة أنظر بابتهاج ومتعة إلي البط الصغير، الذي ينهمر انسجامًا في لونه الأسود المشرب بالصفرة أسفل البطن وذيله الصغير المختلط باللونين، أشبه ببداية إلية ستتضخم مع الوقت بعد التعليف والتسمين من جدتي وأحمل بعضها علي سيقاني وأتلمس عنقه العصفوري، وقدمه المفلطحة، ألعب لعبة الشد والجذب، فيتزحلق، ويتناوب البطوط قرصا مداعبا ولذيذا في يدي من فمه الحلزوني، فأبتسم مع دغدغة حواسي الأربع دون الخامسة أضحك ضحكات تملأ جوف الفضاء الصباحي والشمس تلفح خصلات شعري الشقراء وجسدي الطفولي بقبلات حارة، ساخنة، حتي تسمع من يناديها :
_كاستيلا، هاتي بوسة وحشتيني، العجلاتي حبيب نرجس صاحب ورشة تصليح وتأجير عجل البريمو الذي يسكن في الطابق الرابع من المنزل المقابل لمنزلنا، وورشته في أسفل العمارة، فأقفز رافعة سيقاني علي مقعد خشبي، وأشوح بيدي متوعدة إياه:_ اخرس يا قليل الأدب، أحسن أقول للبعبع يموتك... ويضحك، ويظل واقفًا في البلكونة بالفانلة البيضاء الداخلية علي شورت أو بنطلون رياضي، داخل جسده الأسمر النموذجي في اللياقة، من ممارسته للعبة كمال الأجسام في الاستاد الرياضي، يحتسي الشاي مع سيجارة كليوباترا مصري كعادته رغم اندثار عادة الشباب في تربية الشنب، لكنه شاب أسمر، جميل الملامح بوجه دائري، ممتلئ شبابًا وحيوية أسطي بريمو، نزيه في عمله وملابسه، مهندم، رائحته طيبة رغم عمله كميكانيكي، ذقنه محلوقة، ومعطرة، وشنبه الأسود كثيف مشذب، وأطرافه تكاد تلامس شفته العليا المكتنزة، وتتعمد إحضار زبائن له لتأجير العجل، حتي تفوز بلفة أو لفتين مجانيتين مقابل ما تحضره من زبائن من أولاد الشارع أو زبائن يأتون إليها في دكان أبيها يسألون عن تأجير عجل أو شرائها، ويحاول أن يمسك بها مرة تلو أخري ليداعبها علي العجلة الصغيرة ذات المروحية الملونة بالأزرق والأحمر وعلي مقدمة الدريكسيون القابض جرس قطة نونو نونو سخرية من اسمها نونو، وتقترب منه، لتلعب بأصابعها في شعيرات شنبه، التي تثير طفولتها المتآمرة بحس الأنثي الغريزي، لتسعد وتستمتع باللعب فيه وتسأله بتفكه :_ دا شنب حقيقي زي شنب البعبع ولا عيرة؟ فيضحك دون رد، ويجذبها إليه يحاول احتضانها بالقوة فتفلت منه بمرح، تتمنع راغبة، وهو يردد نداءه المتآمر أيضًا بحس الذكر الداعي قائلًا بخفة وشبق عال:
بوسة.. هاتي بوسة يا كاستيلا
لأ .. لأ شنبك بيشوكني... وإيدك وسخة.. ابعد عني يا قليل الأدب.. أحسن أقول للشندويلي.
تنساق أخيرًا إلي أعز أصدقائها من كل هؤلاء الأرنبة كاستيلا وابنتيها الاثنتين والأرنب الذكر، كانت كاستيلا المختلفة اللون بين الثلاثة، بلونها البني الكاكاو مشرب عند أذنيها باللون البني الغامق، بينما الثلاث باللون الأبيض تفتح العشة وتغلقها من الداخل بقفل معلق حتي لا يدخل أحد غريب، وصية جدتها:_ لا أحد غريب غيرك وغيري يدخل علي الأرانب، لأنها لا تحب ذلك أبدًا، فلو دخل غريب، تحسرت وانكسرت وحزنت وربما تموت كمدًا، ليس بسبب الحسد كما يدعون من وجهة نظر جدتي الحصيفة بتربية الطيور، وإنما لأنها رهيفة الإحساس ولا تحب غير من يحبها يراها ويربيها.وأتذكردوما: _لا تنسي نونو، وتحاول جدتي أن تعلمني شد فروة الأرنب من أذنه وسلخه الذي يجعلني يغمي عليّ من حبي لها وموتها هكذا أمامي وتضحك جدتي:_ يا بت اتعلمي ،وتعلل لي جدتي: _كيف تسلخين الأرانب حتي تطهيها في المستقبل، وتعود لتحذيرها :_لا لا تنسي ناريمان، وتكرر: _ يا ناريمان، هي تشم رائحتك أنت وأنا ومعتادة عليها، وتشعر بأنفاسك وبك، وتشعر أيضًا بأي رائحة غريبة ووجود غريب.
تنادي علي الأرنبة كاستيلا بعينيها وتجلس محتضنة إياها بينما ينشغل الآخرون بالطعام الذي وضعته في الماجور والماء النظيف، فكاستيلا علي موعد معي لنتشارك الحديث، والهموم والإثم، والحكي عن ضيقي لأني لن ألعب اليوم مع نرجس، لأني سأذهب إلي الخالين الصموت والمتحدث، ولن أرجع إلا مساءً لتشذيب العنبة وتنظيف منزل أشباح التيوليب 31، هل تعرفين ياكاستيلا ؟ أريد لهفة وحرقة أن أنقض علي البنت نرجس، وأقطع لها ملابسها وشعرها لأنها تفوز عليّ في لعبة السيجة، والحجلة، وكهربا... وتتشعبط في الحناطير دوني وتعايرني لخوفي من الشعبطة مثلها ، تنقر كاستيلا لي بعينيها كأنها ترد وألاعب أذنيها: تعرفين أنها تري من تحت الشريطة السوداء التي تخفي بها عينيها في لعبة الاستغماية، وتعود نونو إلي الخلف لتستند علي الحائط وترفع ساقيها حتي تتجاوز كاستيلا خصرها، لتصل إلي صدرها وقلبها حتي تقترب من فمها وتحتضنها أكثر، وكاستيلا تداعب يدها وذقنها وتستطرد نونو في حكي همومها:_ زعلانة جدًا علي أختي نسرين نكد، ضربها الشندويلي أمس، وعيناها متورمتان مثل الكرنبة وما زالت تبكي ولن تذهب إلي المدرسة وأتذكر أيضًا استكمالًا لموجة الضيق :_ تخيلي يا كاستيلا الكتكوت سمسم الشقي، مريض وقدمه اليسري يعرج عليها والعرسة أمس أكلت خمسة كتاكيت، سهوًا مني ستغضب جدًا جدتي مني وأنتظر عقابها فأشد ما يحولها من مكنون حنان ودفء لي هو اعتداء العرسة علي طيورها فتتحول امرأة شرسة وتقسو في عقابي أنا خائفة جدًا، ولم تعلم بعد، ولا أعرف بماذا سأسوغ لها خطئي وعدم انتباهي وأنا الحارسة الأمينة لكل أصدقائي الطيور؟ تتملل ناريمان في الجلسة فتخفض إحدي ساقيها، وتنظر بلوم واعتذار إلي عيون كاستيلا ذات البؤبؤ البني اللامع الذي يبرق بلمعان كريستال رائع، وجميل:_ لا أقصد يا كاستيلا، طبعًا أنت صديقتي الوحيدة هنا، لكن أنت تعلمين أنا مسئولة عنهم أيضًا، لا تغضبي أنت توءم روحي وصديقتي الأنتيم وهم مجرد أصحاب عاديين لا تشغلي بالك، أحبك أنت فقط.. صدقيني كاستيلا. ويقهقه ناصر ضاحكًا بصوت عال قائلًا بحب ودفء وهو يملس علي شعرها ويتهدل بمغازلة الضفيرتين مرحًا:
ياه كل هذا يا ناريمان، أنت مسكينة جدًا يا حبيبتي بهمومك ومعجزة إمبراطورية نون .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.